26 ديسمبر 2010

د. محمد محفوظ يكتب : هل يدخل المصريون الجنة ؟

هل يدخل المصريون الجنة ؟


تاريخ النشر : ٢٦ ديسمبر ٢٠١٠


بقلم دكتور / محمد محفوظ


(  يقول الله ؛ يا دنيا من خدمنا فاخدميه , ومن خدمكِ فاستخدميه )

[ حديث قدسى ]


حاشا لله أن ندعى امتلاك الحق فى حساب الناس وتقييم أعمالهم .

أو ندعي النفاذ إلى علم الله وشمائل رحمته وعفوه وغفرانه .

ولكننا مطالبون بأن نستخدم عقولنا ؛ لكى نصل إلى بعض النتائج التى قد تخطئ أو تصيب .

ومكلفون بأن نحلل ما حولنا ؛ لنكتشف التفاصيل المختبئة فى المشهد العام للصورة التى تضمنا جميعاً .


لذلك يحق لي ؛ كما يحق لغيري ؛ بل ولكل الناس ؛ أن نتساءل :

هل يدخل المصريون الجنة؟


.. يذهب المصريون إلى المساجد والكنائس ، فتزدحم بهم فى أيام الجمعة المساجد والشوارع المحيطة بها , وتمتلئ بهم فى أيام الأحد الكنائس بقاعاتها وطرقاتها.


تتواصل مع كل عام ؛ رحلات مئات الآلاف من المصريين لأداء فريضة الحج .


وتتعلق قلوب المصريين بالبيت الحرام ومسجد الرسول ؛ فيواصل مئات الآلاف منهم أداء العُمرة ؛ مرة ومرتين ومرات متعددة .


ويرنو المصريون لزيارة المسجد الأقصى ؛ ولكن تمنعهم حسابات السياسة وهلاوس التطرف .


يبني المصريون المساجد والزوايا والكنائس .

ويقسمون بالله والنبى والمسيح .


ويصومون عن الطعام كله ؛ أو عن كل ما به روح .


تتحجب وتتنقب النساء ؛ ويتجنب الرجال التزين بالذهب أو الحرير .


ينظر المصريون بحرمة دينية مغلظة إلى العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ؛ وإلى العلاقات الشاذة ؛ وإلى تفريط الفتاة فى عذريتها .


يوقر المصريون أولياء الله والقديسين ؛ ويتبركون بمقاماتهم وأديرتهم .


لا تخلو بيوت المصريين من المصاحف والأناجيل والكتب والسيديهات الدينية .


ترفع مئات الآلاف من الميكروفونات أصوات الأذان للصلوات الخمس .


وتقرع آلاف الأجراس لقداس أيام الأحد .


يقول المصريون عن الشيء الجميل ( الله ) .

ويترجون بعضهم بكلمة ( والنبى ) .

ويقسمون بالمصحف والإنجيل .

ويعربون عن رضاهم بكلمة ( الحمد لله ) .

وعن ضيقهم أو رفضهم بكلمة ( أعوذ بالله ) .


وبالتالى .. ومن أجل كل ذلك .. هل يدخل المصريون الجنة ؟


.. يغرق المصريون منذ آلاف السنين فى تفاصيل حياتهم اليومية .

فقد علمتهم ملايين التجارب أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم .

لأن الدولة لها مصالحها التى غالباً ما تتعارض مع مصالحهم .

وبالتالى ؛ فعلى كل طرف أن يرعى مصلحته بعيداً عن الطرف الآخر .


لهذا يتعامل المصريون مع الدولة باعتبارها قـدر ؛ بيد الله وحده تغييره , والحاكم هو الرمز لهذا القدر , وتجسيداً له .


فالحاكم فى مصر الفرعونية كان هو الإله .

ثم تحول مع الوقت وبتأثير الديانات السماوية ليصبح تجسيداً لإرادة الإله .

يهبه الله الحكم ؛ وينزعه منه ؛ ولا مجال لتدخل الشعب .


ولا يمثل هذا المنطق فذلكة نظرية .

بل يستمد أسباب صحته من الواقع المصري ؛ الذى أكد على مدى التاريخ ؛ ومازال يؤكد فى العصر الحالي ؛ بأن أغلبية المصريين وهم ( المحكومون ) ؛ لا يستطيعون مواجهة قلة قليلة من المصريين وهم ( الحاكم ورجاله وأجهزته الإدارية والأمنية والعسكرية ).

وذلك على الرغم من أن أي مواجهة حقيقية ؛ من المفترض أن تنتصر فيها الأغلبية المحكومة على الأقلية الحاكمة . هكذا أكد التاريخ  فى كل مكان وزمان خارج مصر .


ولكن آلاف السنين من عمر مصر والمصريين ؛ مرت وتمر دون أن تحدث هذه المواجهة .


قد تكون صعوبة الاتصال والتواصل فى الماضي ؛ هى العائق المادى الذى كان يمنع حدوث ذلك .


ولكن مع الثورة الراهنة فى تكنولوجيا الاتصال ؛ تـُرى ما الذى يمنع تلك المواجهة ؟؟


.. قد يكون الذى يمنع ذلك ؛ أن المصريين لا يرون مواجهة الدولة المستبدة أمراً من أمور الدين , بل يقصرون الدين على الشعائر والعبادات ؛ ويتغافلون عن المعاملات ؛ لأنهم يستبعدون تماماً فريضة الإصلاح فى الأرض .


لا يتعامل المصريون مع الإصلاح فى الأرض ؛ على أنه جزء من منهج الدين .

بل ؛ ويقاومون من يتبنى هذا المنهج , ويسوقون العديد من المبررات لإعفاء أنفسهم من مسئولية الإصلاح أو التغيير .

ويقولون دائماً :

( ما فيش فايدة ؛ ما فيش حاجة حتتغير ) .

( سيبهم لربنا ؛ هو وحده اللى حيقدر عليهم ( .

( إحنا ما فيش فى إيدينا حاجة ؛ واللى بيقف قصادهم يودوه ورا الشمس ) .

( إحنا عندنا عيال عايزين نربيهم ... (

( ياعم وأنا مالي ؛ هو أنا حصلح الكون ) .


ولا يكتفي المصريون بإعفاء أنفسهم من مسئولية التغيير .

بل إمعاناً فى تبرئة أنفسهم من هذه المسئولية ؛ يسخرون من الذين قرروا ممارسة التغيير بالقول والفعل ؛ ويتندرون عليهم ؛ بل وقد يصفونهم بالجنون أو الهبل والعبط والسذاجة والوقوف أمام القطار .

ويقولون عنهم :

) ياعم ؛ ده راجل مخه ضارب ) .

( استفاد إيه غير البهدلة ؛ وما فيش حاجة اتغيرت ؛ وكل شئ زي ما هو ) .

( ياسيدي ده أصله عشان مرتاح ؛ لو كان بيجري على لقمة العيش زينا ؛ كان مشى جمب الحيط .. (...


لا يضع المصريون فوق رؤوسهم ؛ الذين ضحوا بأنفسهم لمواجهة الاستبداد والفساد وبادروا بتحمل مسئولية الإصلاح والتغيير .

وإنما يحبسونهم فى الغرف المنسية بعقولهم وقلوبهم ؛ ولا يستدعونهم إلا للحديث عنهم بوصفهم عبرة لمن لا يريد أن يعتبر ؛ وباعتبار تضحياتهم مجرد قفزات فى الهواء ؛ لم تجلب على أصحابها إلا كسر رقابهم أو ظهورهم .


.. يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يكذبون على بعضهم البعض ؛ ويكذبون على الله ؛ عندما يخافون من قول الحق وعندما يكتمون الشهادة .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يسرقون بعضهم البعض ؛ ويسرقون الله عندما يمتنعون عن دفع الزكاة للفقراء والمحتاجين ؛ ويدفعونها فى الدروس الخصوصية والمدارس الأجنبية والشقق الفاخرة والسيارات الفارهة وكروت المحمول ؛ وأشياء كثيرة أخرى .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يرتشون ويتربحون من وظائفهم العامة أو الخاصة ؛ ويرشون الله ( حاشاه ) عندما يتصورون إنه يمكن لصلاتهم وصيامهم وحجهم وعمرتهم أن تجعل الله يغفر لهم فسادهم . 


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يزورون الانتخابات التى يتم تكليفهم بالإشراف على إجراءاتها .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يغشون فى السلع والخدمات التى يبيعونها ؛ وفى الحرف والمهن التى يؤدونها ؛ وفى الامتحانات والاختبارات التي يجتازونها . 


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يأكلون السحت عندما يحتجزون الشقق بالعقارات القديمة فى مقابل أجرة زهيدة لملاكها ؛ بينما يقومون هم بإعادة تأجيرها من الباطن بآلاف الجنيهات .


بعبد المصريون الله ؛ ولكنهم لا ييسرون على بعضهم البعض ؛ فيغالوا فى تكاليف الزواج من المهور ومؤخرات الصداق والشقق التمليك والشبكة والهدايا ؛ ويغالوا فى أسعار السلع والخدمات التى يبيعونها , بينما يبخسون حق الناس فى الأشياء التي يريدون شراءها .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم لا يتوكلون عليه - إلا فى مسألة تغيير السلطة - ويريدون أن يضمنوا كل الخير لأنفسهم بأنفسهم ؛ دونما اعتبار لمراد الله فى توزيع الأرزاق وتصريفها .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم لا يتأسون برسله ؛  فيتناسوا صبر نوح ؛ وشجاعة إبراهيم ؛ وإخلاص يوسف ؛ وعزم موسى ؛ وحكمة عيسى ؛ وخـُلق محمد ( عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام ) .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم لا يعتبرون من محكم آياته .

فيتناسون أن آدم خرج من الجنة ؛ لأنه نسي ولم يجد له الله عزماً .

وأن نوحاً صنع السفينة ؛ قبل أن يحدث الطوفان .

وأن إبراهيم تم إلقائه فى النار ؛ ولم يكن يعلم أن الله سيجعلها برداً وسلاما .

وأن يوسف دخل السجن ؛ وخرج منه عزيزاً على مصر وخزائنها وثرواتها .

وأن موسى خرج من مصر ببني إسرائيل رغم أنف فرعون ؛ ولكنه عجز عن دخول الأرض المقدسة لتخاذل الذين كانوا معه .

وأن عيسى رفعه الله ؛ لينقذه من الصلب .

وأن محمد خرج من مكة سراً مهاجراً ؛ وعاد إليها علناً فاتحاً .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم لا يبالون بتكاليفه ، يصلون ويصومون ويعتمرون ويحجون ، ولكن أكثرهم للخير والعدل كارهون .


يعبد المصريون الله ؛ ولكن عندما يوضع الحق فى كفة ومصالحهم فى الكفة الأخرى من الميزان ؛ يختارون كفة مصالحهم .


يعبد المصريون الله ؛ ولكن يكويهم الظلم ولا يتصدون له ؛ ويُغتال أمامهم الحق ولا يدافعون عنه ؛ وتـُسرق أراضيهم وثرواتهم وأعمارهم ولا يصرخون حتى بكلمة : حرااااااامي .


يعبد المصريون الله ؛ ولكنهم يخافون من بأس السلطة وجبروتها ؛ أكثر من خشيتهم من بأس الله وقدرته .


فلماذا يعبد المصريون الله ؛ ويخشون غيره .

هل فقدوا الثقة فيه ( سبحانه ) ؛ لطول شقاءهم وبؤسهم ؛ رغم أنه تعالى هو القائل :

( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد – 11 ] .


هل داخلهم الشك فى قدرته ( جل وعلا ) ؛ لبقاء الاستبداد فوق رؤوسهم منذ آلاف السنين ؛ رغم أنه تعالى هو القائل :

( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ..) [ إبراهيم – 42 ].


هل التبس عليهم الأمر ؛ فظنوا أنه ( جل جلاله ) ؛ غير موجود بالأرض ؛ وإنما وجوده فقط  فى السماء ؛ رغم أنه تعالى هو القائل :  

( وهو الذى فى السماء إله وفى الأرض إله ) [ الزخرف – 84 ] .


هل ضلت عقولهم مع قلوبهم ؛ فسلـَّموا بأن الله ( حاشاه ) ؛ ترك الدنيا لأهلها بعد أن خلقها ؛ ولن يلتفت إليها مرة أخرى إلا فى الآخرة ؛ رغم أنه تعالى هو القائل :

( وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم فى النهار ) [ الأنعام – 60 ] .


هل طمعوا فى رحمة الله وظنوا أنها ستغلب عدله ؛ رغم أنه تعالى هو القائل :

( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول ياليتنى قدمت لحياتى * فيومئذ لا يُعذب عذابه أحد * ولا يُوثق وثاقه أحد ) [ الفجر – 23/26 ] .


.. يتعامل المصريون مع الله ( وله المثل الأعلى ) ؛ كالرجل الذى يحب زوجته ولكنه يخونها , فلا يستطيع البُعد عنها ؛ ولا يستطيع منع نفسه من خيانتها .


ويتعامل المصريون مع حكامهم ؛ مثل الرجل الذى تخونه زوجته التى لها أشقاء أشرار , فلا يستطيع تطليقها لخيانتها خوفاً من أشقائها ؛ ولا يستطيع فى ذات الوقت أن يمنع نفسه من احتقارها واحتقار نفسه .


يحتقر المصريون أنفسهم مع كل يوم تغرب فيه الشمس , وهم مازالوا ينامون فى نفس الفراش مع حكامهم الخونة المستبدين .


يحتقر المصريون أنفسهم مع كل يوم تطلع فيه الشمس , وهم مازالوا متخاذلين أمام طغيان وفساد حكامهم .


هل يدخل المصريون الجنة ؟

الجواب متروك للمصريين ؛ ليحكموا على أنفسهم بأنفسهم .

------------------------------------------------------


ملحوظة : لم يكن هذا المقال عن الدين ؛ وإنما كان عن السياسة .