10 مايو 2019

د. محمد محفوظ يكتب : عدد ركعات الصلاة في القرآن

 د. محمد محفوظ يكتب : عدد ركعات الصلاة في القرآن


(( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه .. ))

سورة المزمل - الآية ٢٠


العدد القياسي لساعات الليل = ١٢ ساعة

أدنى من ثلثي الليل = أدنى من ٨ ساعات = ٧ ساعات

نصف الليل = ٦ ساعات ... ثلث الليل = ٤ ساعات 


٧ + ٦ + ٤ = ١٧ .. وهو مجموع عدد ركعات الصلاة


يبدأ الليل بغروب الشمس .. لذلك فلنلاحظ الترتيب الآتي :


٧ = ٣ + ٤ = عدد ركعات المغرب ٣ + عدد ركعات العشاء ٤


٦ = ٢ + ٤ = عدد ركعات الفجر أو الصبح ٢ + عدد ركعات الظهر ٤


٤ = عدد ركعات العصر ٤


دكتور / محمد محفوظ




29 مارس 2019

د. محمد محفوظ يكتب : العولمة .. المسيرة البشرية لإدراك المشتركات الإنسانية - قراءة ضد التيار


يتيح تحليل مضمون أدبيات العولمة التعرف على المظاهر المرتبطة بها والناشئة عنها والكاشفة عن آثارها المادية التى تعكسها على كافة الأصعدة والمجالات. 

ففى الأدبيات المؤيدة أو الناقدة للعولمة ثمة عبارات تتكرر بانتظام لتكشف عن المظاهر المرتبطة بكافة عمليات العولمة فى أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية ( الإعلامية ).

وتتوارد هذه المضامين الدالة على مظاهر العولمة فى العبارات التالية:
توحيد - توحد - انقسام - تفتت - تفرق - تنوع - تفكك - مشاركة - شمول - اندماج - تكامل - تركز - تكتل - تراكم - تنميط – تشظي - تجانس - تماثل - اعتماد متبادل - تشابك - تفاعل - تقارب - تعاون - انتشار - تشابه - تذويب - ترابط - تداخل - تعددية - لامركزية - فردية - تآكل - تخصص – مركزية -  تحول - زوال - تسارع - سيولة - انفتاح - اختراق - تغيُّر - توسع - انحسار - توازن - انكماش - عدم ارتداد - ضغط الزمان - لا مكان - اختزال.... إلخ.
          
ولعل التحليل اللغوى لمعانى تلك العبارات يوضح مدى التناقض المتولد عن تلك العبارات المتعاكسة والمتضادة والمتفارقة فى دلالتها ومضمونها وتأثيرها. 

فالعولمة بذلك فى أوضح مظاهرها تعبِّر عن مجموعة متناقضات يعجز المنطق البسيط عن جمعها معاً فى بوتقة واحدة. إذ كيف تتلاقى المتناقضات لكى تُشكِّل - فى مجملها - بناءاً متكاملاً متماسك الأركان لا يفتقر إلى الصلابة والقوة.
          
من هنا تنبع أهمية التعامل مع العولمة باعتبارها  عملية مركبة مزدوجة ومتعارضة , يتجاذب فيها منطق التوحيد مع آليات الانقسام , ويعمل الميل إلى الائتلاف والتجانس مع الميل إلى الاختلاف والتنافر. وهذا شأن كل اجتماع بشرى وكل تجمع حضارى أو فضاء ثقافى “ . وذلك كما يقرر الكاتب  :على حرب فى كتابه المتميز ( حديث النهايات .. فتوحات العولمة ومآزق الهوية ) .
          
فالعولمة إذن - كعملية مركبة - تتشكل وتتمظهر فى إطار ما يمكن أن نطلق عليه « إستراتيجية التوحد والتكتل والاندماج » و « تكتيكات التشظى والتجزؤ والانقسام ».
          
ولعل هذه الحقيقة الملازمة لمظاهر العولمة لا تعبِّر عن تناقض داخلى، بل هى تعبِّر عن منطق الأمور  والأشياء فى طبيعتها الفطرية، فالكل يتركب من الأجزاء، والأجزاء تتفرع من الكل.
          
وبالتالى فإن العولمة توحِّد الأطر فى إطار واحد، بينما تقسِّم المضامين. تختصر المرجعيات، بينما تتفرع فى الوسائل والأساليب.

ولهذا فإن الحديث عن مظاهر التوحد والتكتل والاندماج فى العولمة، لا يمكن فصله عن مظاهر التشظى والتجزؤ والانقسام . فكل مظهر منهما متلازم مع الآخر ، بحيث يمكن التقرير أن أعم مظاهر العولمة يمكن صياغتها فى التعبير التالى : 
التوحد الملازم للانقسام، أو التكتل الملازم للتجزؤ، أو الاندماج الملازم للتشظى.. وهكذا.

وهذه المظاهر المادية للعولمة التى يترافق فيها التوحد والتكتل والاندماج مع التشظى والتجزؤ والانقسام ، ما هى إلا انعكاسا لطبيعة كامنة فى العولمة ترتبط بتخلقها ونشأتها . 

فالعولمة تحمل فى داخلها مظاهر تخلقها ونشأتها المتمثلة فى قدرتها على التركيب والتفكيك . فهى عملية مستمرة.. تؤدى إلى تركيب الأجزاء المتعددة فى كل واحد من خلال إستراتيجيتها للتوحد والتكتل والاندماج.. وتفكيك الكل إلى أجزائه المتعددة من خلال تكتيكاتها للتشظى والتجزؤ والانقسام. 

ولعل تعاملنا مع العولمة بهذا الفهم سيقودنا إلى اكتشاف أن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم الذى يعيش فيه، وإدراكه للمشتركات الإنسانية ( المادية والمعنوية ) فى هذا العالم. 
وتلك المرحلة المتقدمة سبقتها مراحل متعددة، مارست فيها الأجيال البشرية المتتابعة عملية تركيب وتفكيك لكل من : الطبيعة من حولها، والوعى داخلها، فى محاولة لبناء الإدراك والتبصر والفهم والمعرفة على المستويين المادى والمعنوى.

والمقصود بتعبير " المشتركات الإنسانية " - فى هذا الإطار - المفاهيم الرمزية والهياكل المادية التى تتفق عليها الجماعة البشرية، رغم اختلاف الجغرافيا والتاريخ ، واختلاف الثقافات والحضارات والهويات .. بحيث تصبح هذه المفاهيم الرمزية وتلك الهياكل المادية بمثابة عاملاً « مشتركاً » يلتف حوله كافة البشر، انطلاقاً من انتمائهم جميعاً للجماعة الإنسانية . 
فالمشترك الإنسانى بهذا المعنى.. بمثابة محور رمزى ومادى تأتلف حوله الجماعة الإنسانية رمزياً أو مادياً، رغم اختلاف التاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة والهوية.

وسنعرض فيما يلى لهذه المشتركات الإنسانية الناشئة عن التركيب و التفكيك للتدليل على الخلفية الفكرية والتاريخية التى انطلقت منها العولمة والتى تعطى الشرعية للفهم الذى يتعامل معها باعتبارها مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم من حوله .

أولاً: المشترك الإنسانى المـادى:
( ١ ) التفكيـك:
        
لقد تطور الوعى الإنسانى خلال الحقب المتتالية التى مرت بها البشرية، من الوعى الفطرى، إلى الوعى البسيط، ثم الوعى المركب، وصولاً إلى الوعى الفائق . 

وترافقت تلك المراحل المتتابعة لتطور الوعى مع العصور البشرية المتتالية المعبِّرة عن النشاط الإنسانى. بدءاً من عصور الصيد، فعصور الزارعة، ثم عصور الصناعة، وصولاً إلى عصرنا الحالى ( عصر ما بعد الصناعة ) أو عصر المعلومات.
          
ولقد كان الوعى الفطرى الذى نشأ عن الملاحظة هو الوعى الذى قاد الإنسان إلى ملاحظة البيئة الطبيعية من حوله، بحيث كان تحركه خلالها بمثابة رد فعل لحركتها هى. 
وبالتالى كانت انتقالاته خلال هذه البيئة - خلف قطعان الصيد ونحو المناطق النباتية ومسارات الأنهار - من أجل توفير حاجته الغذائية من اللحوم والثمار والمياه. 
وهذا يوضح بأن هذا الوعى الفطرى قاد الإنسان نحو الانفعال الفطرى بكل ما هو متحرك ونامٍ، فكانت حركته فى البيئة الطبيعية بمثابة رد فعل فطرى من جراء ملاحظة الحركة والنمو، الأمر الذى أدى إلى أن تصبح تلك العصور هى عصور الصيد والتقاط الثمار والترحال.
          
ثم كانت المرحلة التالية التى ارتقى فيها الوعى الإنسانى من الوعى الفطرى إلى الوعى البسيط. 
فمن خلال تطور الملاحظة , تمكن الإنسان من التحكم فى البيئة من حوله، بحيث تنفعل هى من جراء تدخلاته فيها. 
حيث سيطر الإنسان على البيئة النباتية من خلال اكتشاف الزراعة، ومن خلال التحكم فى مصادر المياه بشق الترع والقنوات للأراضى الزراعية والاستقرار حول مصبات وفروع الأنهار.. كما تمكن من التحكم فى البيئة الحيوانية من خلال استئناس الحيوانات الأليفة والداجنة وحيوانات المراعى. 
وبالتالى قادت مرحلة الوعى البسيط الإنسان نحو التحكم فى حركة ونمو البيئة الطبيعية المتحركة والنامية من حوله. أى التحكم فى كل ما هو نامٍ ومتحرك. وبالتالى كانت تلك العصور هى عصور الزراعة وتربية الحيوانات والاستقرار.
          
ولقد كانت مرحلة الانتقال من الوعى البسيط إلى الوعى المركب بمثابة تحول فى الوعى الإنسانى الذى ازداد تعقيداً. 
حيث تطورت ملاحظة الإنسان للبيئة الطبيعية، وامتدت إلى ما هو ثابت وغير نامٍ من عناصر الطبيعة الصلبة والسائلة والغازية، ومحاولة التعامل معها بالاستخراج والصهر والتشكيل والتركيب. بحيث أكسب الإنسان - بوعيه المركب - تلك العناصر الجامدة الثابتة غير النامية، القدرة على الحركة الميكانيكية. 
لقد كان الوعى المركب الذى قاد الانسان إلى التصنيع بمثابة نقلة نوعية هامة مكنت الإنسان من التحكم فى كل ما هو جامد وثابت وغير نامٍ، مثلما سبق له السيطرة على كل ما هو متحرك ونامٍ. وبالتالى كانت تلك العصور هى عصور الصناعة وابتكار الأجهزة والماكينات ووسائل الانتقال.
          
ولكن عندما تطور وعى الإنسان من الوعى المركب إلى الوعى الفائق، كانت تلك مرحلة جديدة تمثل تعاظماً كبيراً فى تعقُّد ذلك الوعى. 
حيث تطورت ملاحظة الإنسان للبيئة الطبيعية، وامتدت إلى ما هو مخفى فيها وغير ظاهر وغير مُدْرَك بالحواس الطبيعية. 
وأسفر هذا عن اكتشاف التركيب الخلوى للكائنات الحية النباتية والحيوانية والإنسانية، والتركيب الذرى للعناصر ( الصلبة والسائلة والغازية ) , واكتشاف الكائنات الميكروبية ( الفطريات - البكتيريا - الفيروسات )... لقد كانت مرحلة الوعى الفائق سبيلاً إلى رفع الحجاب عن إدراك الإنسان من خلال ابتكاره لوسائل مساعدة شكلت امتداداً فائقاً لإدراكه وحواسه، بل وتطور الأمر إلى إضافة امتدادات عظيمة لقدراته العقلية أيضا , من خلال استغلال الخواص الخفية للظواهر الطبيعية كالإلكترونات والكهرومغناطيسية لنقل الاتصالات والمعلومات وتخزينها وتحليلها باستخدام الحاسبات الآلية. 
وبالتالى أصبح العصر الحالى هو عصر ما بعد الصناعة أو عصر المعلومات أو العصر التكنوترونى أو الإلكترونى أو عصر المعرفة .

( ٢ ) التركيب :
          
ولكن هذا الوعى الإنسانى بمكونات وخصائص البيئة الطبيعية المحيطة، والذى ارتقى من الوعى الفطرى إلى البسيط إلى المركب إلى الفائق، وبالتالى انتقل من ملاحظة الظاهر إلى معاينة المخفى، ومن إدراك البنية الكلية للمخلوقات والعناصر إلى إدراك البنية الخلوية الجزيئية والذرية والنووية لها. 
هذا الوعى- الذى كان ذا طابع تفكيكى فى مجمله فى مجال اهتمامه بالبيئة الطبيعية الملاصقة للإنسان - كان على الجانب الآخر وعياً ذا طابع تركيبى فى مجال اهتمامه بالبيئة الفضائية المحيطة بالإنسان والبعيدة عنه.

فلقد كان الوعى الفطرى يدرك الأرض المحيطة بوصفها الكون بأكمله. ويدرك أن الأجرام الأخرى كالنجوم والشمس والقمر ما هى إلا مصابيح يمكن من خلال متابعة تحركاتها وغيابها وظهورها ضبط مواقيت الفصول والزراعة والتنبؤ بمصير الإنسان. فالكون هو الأرض المحيطة التى تحدها البحار السحيقة وغلالة رقيقة هى السماء بمصابيحها المتحركة.
          
ثم ارتقى الوعى الإنسانى إلى مرحلة الوعى البسيط، من خلال تراكم عمليات الرصد لتحركات الأجرام السماوية. واستطاع « كلوديوس بطليموس » عام ١٤٠م أن يصمم نظاماً مركزياً للكون قائماً على التحركات التى تم رصدها لتلك الأجرام، امتد بموجبها الكون واتسع، حيث أصبحت الأرض هى المركز وحولها الشمس والكواكب فى مدارات دائرية متتابعة تفصل بينها مسافات، ثم تأتى أخيراً السماء بنجومها الثابتة المضيئة كحد نهائى للكون. 

وبذلك اتسعت حدود الكون الذى تحتل الأرض مركزه بفضل النظام المركزى الذى صممه بطليموس، واستمر هذا الوعى بحدود الكون قائماً لمدة تصل تقريباً إلى الألف عام.
          
ولكن مع مرحلة الوعى المركب، لم يتقبل الإنسان تلك المركزية للأرض ولا تلك الحدود المزعومة للكون. وأسهمت الجهود العلمية لكل من « نيقولا كوبرنيكوس » (1473 - 1543) و«جوهان كبلر» (1571 - 1630) و«جاليليو جاليلى» (1564 - 1642) فى وضع الأسس اللازمة لظهور وعى مركب جديد بالكون ينفى فكرة مركزية الأرض، ويضعها فى موقعها الحقيقى، باعتبارها كوكباً مثل باقى الكواكب التى تدور حول الشمس، تلك الشمس التى اتضح - مع تطور التلسكوب فى زمن  « جاليليو » - أنها مجرد نجم مثل باقى النجوم التى تملأ السماء. 
وعلى يد « إسحق نيوتن » (1642 - 1727) تم اكتشاف قوانين الجاذبية التى تمسك هذا الكون فى ظل نظام ميكانيكى متكامل ومنضبط. وبذلك أصبح الكون بناءً مادياً شاسع الاتساع تتجاذب كل أجرامه بقوة الجاذبية وقوانينها، ويغوص وسط فضاء لا نهائى، وبذلك اتسعت حدود الكون إلى ما لا نهاية.
          
ولقد كانت مرحلة الوعى الفائق بمثابة نقلة جبارة فى وعى الإنسان بالكون المحيط وظواهره. وأسهمت الجهود العلمية لـ « ألبرت أينشتاين » (1879 - 1955) فى صياغة « نظرية النسبية »، التى حطمت الكون الثابت الشاسع اللامتناهى لنيوتن، وأثبتت أن الكون ما هو إلا « متصل زمكانى » يحتل الزمن فيه البعد الرابع، وأنه كيان شاسع متناهى ولكن غير محدود ؛ لأنه دائم التمدد والاتساع و قابل للانكماش بعد فترة غير معلومة من التمدد.
          
علاوة على ذلك، فقد أدى اكتشاف أن الوحدة فى البناء السماوى هى المجرة - وأن الكون يتكون من مجرات تنتظم فى داخلها مليارات النجوم - إلى نشوء فهم تركيبى جديد حول الكون الذى يتكون من مجرات تتباعد عن بعضها نتيجة تمدد هذا الكون. وأن نجمنا الشمس الذى تدور حوله أرضنا ( كوكب الأرض ) ما هو إلا نجم ضئيل داخل إحدى المجرات التى تدور حول مركز الكون الذى يتمدد ويتسع وقد ينطوى وينكمش فى أجل آخر غير معلوم، وفقاً لأطروحات نظرية « الانفجار العظيم »  Big Bang التى تفسر نشأة هذا الكون.

( ٣ ) المشتركات المادية:
          
إن ترافق أو تزواج التركيب مع التفكيك فى الوعى الإنسانى، قاد ذلك الوعى إلى إدراك جوهر هذا الكون وماهيته. 

فالوعى التفكيكى أدى إلى إدراك وحدة البنية الذرية للكون والعالم والإنسان. 
والوعى التركيبى أدى إلى إدراك وحدة الكون المنظور على الرغم من اتساعه. 

وبالتالى فإذا كان المشترك المادى الجزئى الناتج عن التفكيك هو ( الذرة وجسيماتها )، والمشترك المادى الكلى الناتج عن التركيب هو (الكون)، فإن المشترك الإنسانى المادى بينهما - الذى يمارس الإنسان حياته عليه أو فى مجاله أو فى نطاقه - يتمثل فى: الأرض ( العالم ) أو المجموعة الشمسية أو المجرة. أى أن ذلك التسلسل من جسيمات الذرة إلى الأرض ( العالم ) إلى المجموعة الشمسية إلى المجرة إلى الكون يُشكل ثمار الوعى الإنسانى بالكون فى مساره من الكل إلى الجزء أو من الجزء إلى الكل.
          
لقد اتضح أن الكون هو المشترك المادى الأكبر الذى يضم كل شئ ، والجسيمات الذرية هى المشترك الأصغر التى نشأ عنها كل شئ ، والعالم ( الأرض ) هو المشترك المادى الإنساني الذى يضم الجنس البشرى ( الإنسان ).
          
وهكذا يبدو العالم ( الأرض ) فى المسافة الرمزية من الذرة إلى الكون , بمثابة « المشترك الإنساني المادى » للجنس البشرى. 

والمجموعة الشمسية هى « المجال » المادى. 

والمجرة هى «المستقر» المادى. 

والكون هو « المستودع » المادى الكلى.  
         
ومن هنا.. فإن الوعى بأن العالم (الأرض) يمثل المشترك المادى للجنس الإنسانى هو بمثابة وعى عولمى (العولمة ).
          
والوعى بأن المجموعة الشمسية بكواكبها تمثل المجال المادى هو بمثابة وعى كوكبى ( الكوكبة ).
          
والوعى بأن المجرة تمثل المستقر المادى هو بمثابة وعى مجرى ( المجرية ).
          
والوعى بأن الكون يمثل المستودع المادى الكلى هو بمثابة وعى كونى ( الكونية ).
          
إن هذه الرؤية توضح أن محاولات الإنسان للتركيب والتفكيك قادته إلى إدراك المشتركات الإنسانية المادية. وكان أولها إدراك أن العالم هو المشترك الانسانى المادى. وأن البشر جميعهم فى سفينة واحدة هى كوكب الأرض. 

وبالتالى فالعولمة - تعنى بكل بساطة - أننا فى عالم واحد وليس فى عوالم متعددة، وأن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بأصل الكون والعالم من خلال التركيب والتفكيك. 

وبذلك تصبح العولمة - من هذا المنظور - خروجاً على المألوف المكانى والمألوف الزمانى وإنشاء أو تقديم رؤية مشتركة لمألوف « زمكانى » يضم كل سكان هذا العالم، ذلك العالم الذى لن يمكن مواجهة قضاياه العالمية إلا من خلال تنمية الاعتراف بالمشتركات الإنسانية، التى توضح وحدة النشأة ووحدة الإنجاز ووحدة المصير، رغم اختلاف اللغات والثقافات والحضارات .

ثانياً: المشترك الإنسانى المعنوى:
          
إن عملية التزواج بين التركيب والتفكيك فى الوعى البشرى - والتى قادت إلى إدراك المشترك الإنسانى المادى - هى التى أسفرت أيضاً عن إدراك المشترك الإنسانى المعنوى. 
وذلك انطلاقاً من أنه إذا كان الوعى الإنسانى بعناصر البيئة الطبيعية هو الذى صاغ وشكَّل التطورات الحضارية الكبرى فى تاريخ البشرية، وذلك وفقاً لمستوى تطور هذا الوعى. فإن البحث عن منشأ هذا الوعى وموجهه، هو الذى سيقود بالمثل إلى إدراك المشترك الإنسانى المعنوى.
          
ولقد قادت عملية التركيب فى الوعى الإنسانى إلى إدراك أن كل هذا الكون ما هو إلا نتاج لعقل مطلق يمثله الله سبحانه وتعالى، فهو عقل شامل محيط غير محدود.
          
كما قادت عملية التفكيك فى الوعى الإنسانى إلى إدراك أن التطور الإنسانى ما هو إلا نتاج لعقل محدود يمثله الإنسان، وذلك العقل المحدود يكتسب معارفه بالتراكم والتوارث والخبرة والصواب والخطأ، فهو عقل جزئى محدود غير شامل وغير محيط .
          
ولقد كان المشترك الإنسانى المناسب للقيام بدور الوسيط بين العقل المطلق الذى يمثله الله سبحانه وتعالى، والعقل المحدود الذى يمثله الإنسان، يتمثل فى « قيمة الحرية ». 
حيث تمثل قيمة الحرية المشترك الإنسانى المعنوى القابل لتوصيف العلاقة بين الله والإنسان، باعتبار أن الحرية هى الشرط اللازم لصحة إيمان العقل الإنسانى المحدود بالعقل الإلهى المطلق، والشرط اللازم لشرعية مبدأى الثواب والعقاب الإلهيين. 
فلا مجال لحساب الإنسان إلا لو امتلك ( حرية الاختيار ) بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الكفر والإيمان ، فالحرية هى مناط التكليف. 

وبالتالى فالمشترك الإنسانى المعنوى الناتج عن عملية التركيب التى تقود إلى العقل المطلق، أو عملية التفكيك التى تقود إلى العقل المحدود، هذا المشترك هو ( الحرية الإنسانية )، تلك القيمة التى لو تم كبتها ومحاصرتها وتقليصها؛ فإن الإنسان يفقد الجوهر الذى يمنحه التفوق على كافة كائنات الأرض.

الخلاصة :
إن كل ما سبق يوضح أن ظاهرة العولمة ليست من صنع الرأسمالية العالمية ولا من صنع غيرها من القوى، لأن الواقع يقرر بأن العولمة لم يخترعها ولم يصنعها ولم يخطط لها أحد. 

وليس معنى ذلك أنها صنعت نفسها بنفسها، وإنما هذا يعنى أن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسانية بالعالم من حولها، حيث أدى تراكم المنجزات الإنسانية ( الفكرية والتكنولوجية ) إلى إدراك الإنسانية للمشتركات المادية والمعنوية فى هذا العالم التى تجمع البشرية كلها فى بوتقة واحدة. 

فالعولمة هى نتاج لمحاولات الإنسان التراكمية منذ بدء الخليقة لتركيب وتفكيك العالم من حوله.  
          
ومن هنا كانت مظاهر العولمة أثناء ممارستها لفاعلياتها العملية فى الواقع ، تؤكد أنها كما تدفع إلى التوحد والتكتل والاندماج ( التركيب ) فإنها فى نفس الوقت تدفع إلى التشظى والتجزؤ والانقسام ( التفكيك ).
          
وهذا أدى إلى أن التحليل السطحى لظاهرة العولمة يقع دائماً فى مأزق إدراك مظهر واحد من مظاهرها دون إدراك المظهر الآخر، نظراً لما يدفع إليه إدراك المظهرين من ارتباك وتناقض.
          
وفى الواقع.. فإن امتلاك العولمة لهذه القدرة على الجمع بين الشيء ونقيضه، هى التى تمنحها صفة الظاهرة الشاملة، وتوفر لها التوازن فى المجمل العام، وتمنع استئثار فريق ما بمفرده بالإمكانات التى توفرها. 

فكما تستفيد بعض القوى من مظاهر العولمة للتوحد والتكتل والاندماج لتحقيق مصالح معينة، فإن بعض القوى الأخرى ستستفيد من مظاهر العولمة للتشظى والتجزؤ والانقسام لتحقيق مصالح أخرى..
          
إن هذا الفهم لظاهرة العولمة يوضح بأنها كظاهرة شاملة لا تنتمى إلى قوة أو جهة معينة، وإنما هى تنتمى إلى البشرية كلها. 

كما أنها لا تصلح لكى تكون مشروعاً فكرياً أو عملياً للرأسمالية العالمية للسيطرة على مقدرات الشعوب والدول، وذلك لأنها تستعصى على التوجيه وتخرج عن نطاق السيطرة، إذ إنها كما تدفع إلى التوحد والتكتل والاندماج، فإنها تدفع - بذات الوقت - إلى التشظى والتجزؤ والانقسام. 

وبالتالى لا يمكن التعامل معها بوصفها أيدلوجية لأن الأيدلوجية أحادية الاتجاه بينما ظاهرة العولمة تجمع المتناقضات.
          
إن كل ما سبق يوضح عدم علمية الخطاب السائد المعادى للعولمة فى دول العالم الثالث وفى المنطقة العربية. 

ولعل هذا الخطاب يحمل أسباب ارتيابه فى ظاهرة العولمة انطلاقاً من أن جانبها المعنوى المتمثل فى قيمة الحرية يتماثل نسبياً مع فكرة الديمقراطية الليبرالية الغربية، وأن جانبها المادى يشجع تحرير التجارة واقتصاد السوق والإيمان الكبير بالعلم. 
بينما المنطق الموضوعى يقرر بأن الديمقراطية وتحرير التجارة والسوق والنظرة العلمية، كلها مبادئ إنسانية منطقية فرضت نفسها لواقعيتها وليس لرأسماليتها، ولذلك فإن الاعتراف بإنسانية هذه المبادئ هو فى حد ذاته اعتراف بقابليتها دوماً للمراجعة والتصحيح للحفاظ على جانب العدالة والتوازن فى توجهاتها.
          
والواقع يوضح أن العولمة كما تقوم على الشركات المتعددة الجنسيات، فهى أيضاً تقوم على منظمات المجتمع المدنى. 
وكما تروج لثقافة عالمية إنسانية، فهى تفتح الباب للثقافات القومية. 
وكما تجعل من شبكة الإنترنت سوقاً للتجارة الإلكترونية، فإنها تجعلها أيضاً ساحة مفتوحة للأفكار والمعرفة.
          
وهذا يوضح بأن ظاهرة العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم من حوله نتجت من خلال محاولات الإنسان التراكمية عبر العصور لتركيب وتفكيك ذلك العالم، مما أدى إلى إدراكه للمشترك الإنسانى ( المادى ) المتمثل فى « العالم » ، والمشترك الإنسانى ( المعنوى ) المتمثل فى « الحرية الإنسانية » . 

و نظراً لأن العولمة نتجت عن التركيب والتفكيك فإن مجمل مظاهرها يتمثل فى دفعها نحو التوحد والتكتل والاندماج فى ذات الوقت الذى تدفع فيه نحو التشظى والتجزؤ والانقسام.

إن العولمة – بهذا المعنى - تتيح الفرص للكافة ، و لكن بشرط وجود إرادة للفعل ووجود هدف قابل للإنجاز ، فى ظل الإيمان بوحدة مصير العالم ، والإيمان بقيمة الحرية الإنسانية .
*****
دكتور / محمد محفوظ