06 ديسمبر 2018

د. محمد محفوظ يكتب : ميراث المرأة في القرآن بين قطعية الثبوت ونسبية الدلالة

 ميراث المرأة في القرآن بين قطعية الثبوت ونسبية الدلالة


خواطر اجتهادية حول العبارة القرآنية : (( ومن يعص الله ورسوله و { يتعد } حدوده )) 


أحكام المواريث تمنع تجاوز نصيب الذكر لأكثر من ضعف نصيب الأنثى  ولكنها لا تمنع خفض نصيب الذكر ليتساوى مع نصيب الأنثى

.............


(( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... * ... * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم *  ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) . سورة النساء / الآيات ١١ - ١٤ .

..............


تطرح المجادلات المثارة بشأن مسألة نصيب المرأة في الميراث ، ضرورة تسليط الضوء على عدد من النقاط التي ينبغي مناقشتها لعلها تزيل الحيرة وتفك اللبس . 


أولا - أحكام المواريث بين الثبوت والدلالة :

احتلت أحكام المواريث موقعها المستقر ضمن الأحكام قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ، بإجماع التفسيرات القرآنية والمذاهب الفقهية . 

وتشير الأحكام قطعية الثبوت وقطعية الدلالة إلى الأحكام التي تتضمن أمرا أو نهيا أوتحليلا أو تحريما بعبارات قاطعة جازمة ، لا تسمح بأي مساحة للتدخل والتأويل البشري . 

بخلاف الأحكام قطعية الثبوت ولكن نسبية الدلالة والتي تتضمن أيضا أمرا أو نهيا أوتحليلا أو تحريما ولكن بعبارات غير قاطعة وغير جازمة ، وتسمح بمساحة للتدخل والتأويل البشري . 


ولعل التفرقة بين دلالات الاستخدام الإلهي للغة ودلالات الاستخدام البشري لها ، هي التي ستكشف بأن لفظ { يتعدى } الوارد بآيات المواريث لا يشير إلى معنى جازم قاطع ، وإنما يشير لمعنى نسبي يحتمل التأويل ، وهو ما سنوضحه في السطور التالية .... 


ثانيا - اللغة بين دلالات الاستخدام الإلهي ودلالات الاستخدام البشري :

تبدو مسألة ادعاء الترادف في ألفاظ القرأن الكريم جديرة بتسليط الضوء عليها ، لإعادة فهم هذه الألفاظ في ضوء السياق العام للنص الإلهي المقدس ، وليس السياق اللغوي للمحيط الاجتماعي البشري . 


فالاستخدام الإلهي للغة غير الاستخدام الإنساني لها . ولا يستقيم في المدلول الإلهي أن تتشابه المعاني بين الكلمات غير المتشابهة في الحروف . 


وإذا كانت البلاغة هي : مطابقة الكلام لمقتضى الحال . فإن كلام الله تعالى هو المثال للبلاغة عندما تدرك حد الكمال . ومن ثم فإن اختلاف الحروف بين لفظ وآخر يقتضي اختلاف المعنى والمدلول بلا شك أو جدال . 


فكلمة رسول لا تساوي المدلول الإلهي لكلمة نبي ، ونفس القياس ينطبق على عبارتي أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب ، أو اليهود وبني إسرائيل ، أو الرب والإله .. وهكذا . 


ومن هذا المنطلق ، ينبغي التعامل مع مدلول لفظ { يتعدى } . 

فلو كان مقصد الله تعالى هو الأمر بعدم مخالفة حدوده ، لكان لفظ { يخالف } هو الاوفق للمعنى . ولكن استعمال لفظ { يتعدى } يشير لمقصد الله وهو عدم تجاوز حدوده سبحانه ، وعدم التجاوز يعني حصرا عدم ( تخطي ) الحد الأقصى ولكنه لا يمنع من النزول عنه . 


فلفظ يتعدى يشير للحدود ( حدود الله ) باعتبارها نطاقات ومساحات يتم التحرك خلالها دون تجاوز أو تخطي أو تعدي لحدها ، وليس باعتبارها خطوط أو مسارات محددة لا يتم الخروج عن سبيلها . 


فإذا قلنا لشخص ما : تلك حدود أرضك فلا تتعداها . فإن هذا لا يعنى أن يقتصر سيره فوق الخطوط المرسومة لحدود الأرض فقط ؛ وإنما يعنى أن يسير داخل كل الأرض تقدماً وتراجعاً دون أن يتجاوز هذه الخطوط أو التخوم أو الحدود .


فالحدود فى آيات المواريث ؛ ليست إشارة إلى الأمر الذي لا ينبغي مخالفته ، وإنما هى تعريف بالسياج الذي لا ينبغي القفز فوقه ، وبالسقف الذي لا ينبغي التطاول عليه وتعديه . 


ولعل هذا الفهم يزداد وضوحا عند تدبر الآية الكريمة الخاصة بالاعتكاف في المساجد ، والتي قال فيها تعالى : ( ... ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها ... ) . سورة البقرة - الآية ١٨٧ .


فلفظ { لا تقربوها } يشير إلى حاجز يحيط بالأمر المنهي عنه ، يتوجب عدم الاقتراب منه ، ومن ثم عدم الولوج إليه والخوض فيه . 


بينما لفظ { يتعدى } يشير إلى حاجز يحيط بالأمر المسموح به ، ينبغي عدم تجاوزه ، ولكن دون نهي عن التحرك داخل نطاقه ودائرته وسياقه .


وإلا لو كان لفظ { يتعدى } يشير فقط إلى عدم التجاوز دون إمكانية للتقهقر والتراجع أو النزول والانخفاض ، فإنه يفقد بلاغته لكونه يترادف حينئذ مع لفظ ( يخالف ) ، ومن ثم كان من الأولى بلاغيا حاشا لله أن يكون التعبير القراني : ومن يخالف حدود الله .


ولعل ما سبق يؤكد بأن حظ الرجل الذي هو مثل حظ الأنثيين يمثل السقف الأعلى الذي لا ينبغي للذكر تجاوزه ميراثا في مقابل الأنثى ، ولكن لا مانع قرآني من الانخفاض عنه وصولا إلى مستوى التساوي بينهما . 


ثالثا - المنهج القرآني المرشد لعدم تعدي الحدود :

إذا أقررنا بالفهم السابق للفظ { يتعدى } ، فإن الحدود بذلك ترسم مساحة ؛ خطوطها الخارجية ( القصوى ) التي لا ينبغي تجاوزها وتخطيها هى الأمر الإلهى ؛ بينما نطاقها ( النسبى المتدرج ) انخفاضا ونزولا أو تقهقرا ورجوعا هو الاجتهاد البشرى .


ولكن هذا الاجتهاد لا يخضع للأهواء والتحيزات البشرية ، وإنما يسترشد بالمنهج القرآني الموافق لتعاليم الله الوارد بقوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) . سورة الأعراف - الآية ١٩٩ .


فالعفو هنا ؛ لا يعني التخلي عن حدود الله تعالى ؛ وإنما يعني النزول عن سقفها الأعلى وحدها الأقصى لسد الذرائع أمام نزعات التحاسد ، وتمهيد السبيل لدواعي التراحم والتسامح والوصل . 

 

والعُرف هنا - أيضاً - لا يعني هجر الحدود ؛ وإنما يعني النزول عن حدها الأقصى بما يناسب السائد والمألوف من قواعد التحضر والتقدم ، وبما يساير ولا يخاصم متغيرات العصر . 


والإعراض عن الجاهلين ( أي الفارغين من العلم ) يعنى - بمفهوم المخالفة - الاستعانة بأهل العلم فكراً وعملاً ؛ أى المتخصصين فى مجالاتهم المتنوعة .


وبالتالي ؛ لا مجال للأخذ بالعفو أو الأمر بالعُرف ؛ إلا بناء على دراسة علمية تحترم التخصص الذى تقتضيه المسألة المطروحة .


الحدود إذن في أنصبة المواريث ، بمثابة نطاقات لا ينبغى تجاوز تخومها ؛ ولكن يمكن الانطلاق داخل مساحتها بفقه العفو وقواعد العُرف ومنهج العلم .

....... 


- الخلاصة : 


لعل كل ما سلف يوضح بأن مضاعفة نصيب الذكر عن نصيب الأنثى في الميراث ، ما كان إلا تقليصا لنصيب الذكر ، واعترافا بنصيب للأنثى في ظل مجتمعات وتقاليد كانت تستهجن أصلا توريث الأنثى وتحرمها تماما من الميراث . 


ولكنه سبحانه بعلمه المحيط ترك من خلال لفظ { يتعدى } مساحة للاجتهاد البشري لمواكبة التطور والتقدم والرقي في المجتمعات . 


لذلك بينما وضع عز وجل سقفا لا يمكن تجاوزه لنصيب الذكر ، إلا أنه ترك مساحة وأعطى رخصة تسمح بخفض ذلك النصيب ، ليصير حظ الذكر الذي كان مثل حظ الأنثيين ، متساويا - تراحما وتسامحا - مع حظ الأنثى . 


والله سبحانه وتعالى .. أعلم


دكتور / محمد محفوظ

................


- لينك : تعريف و معنى ( تعدى ) في معجم المعاني الجامع 

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/تعدى/









14 مايو 2018

بعد مرور ٧٠ عاما .. من الذى ضيَّع الحق الفلسطينى .. ؟

دكتور/ محمد محفوظ يكتب : بعد مرور ٧٠ عاما .. من الذى ضيَّع الحق الفلسطينى .. ؟

- التضحية بالحق القانوني على مذبح الحق الأخلاقي .
المحيط العربي .
- الانتماء الإسلامي و القومي .
- سيكولوجية الافتتان بالكارثة .

يظل السؤال الحائر معلقاً بلا إجابة فى عنق القضية الفلسطينية المزمنة لتتردد أصداؤه فى جنبات منطقة الشرق الأوسط و العالم : من الذى ضيع الحق الفلسطيني ؟

سبعون عاماً و مازال الحق الفلسطيني يحتل مكانه داخل أقسام العناية المركزة بكل مستشفيات العالم , وكلما لاح فى الأفق إمكانية لنزع جهاز التنفس الصناعي , والخروج من العناية المركزة إلى غرفة عادية , تمهيداً للتماثل للشفاء ومغادرة المستشفى , تنتكس الحالة ويتم وضعها على جهاز التنفس الصناعي مرة أخرى ..... فتُرى من الذى ضيع الحق الفلسطيني ؟

أولاً : طالما نعيش فى العالم , فيجب أن تكون الشرعية الدولية هى المرجعية التى تحكم توجهاتنا جميعاً , لأن الجماعة البشرية لا يمكن أن تعيش إلا فى ظل نظام سواء على مستوى الدولة الواحدة أو المجتمع الدولي ( العالم ) . وللأسف قد تقودنا الكثير من الأحداث والوقائع إلى الارتياب فى جدوى تلك الشرعية الدولية التى يتم انتهاكها كثيرا , بحيث يصبح الاحتكام إليها كمرجعية هو أمر مشكوك فيه . ولكن يحضرني هنا قول الدكتور جمال حمدان فى كتابه : إستراتيجية الاستعمار والتحرير .. الذى يقول فيه : الحق هو الاسم الرومانسي للقوة بينما القوة هي الاسم العلمي للحق . وفى العالم الحقيقي الذى نعيش فيه يجب أن نقبل بحقيقة أن القوة كثيرا ما تلتبس بالحق , والحق وحده لا يؤسس لتغيير الواقع , بل لابد من قوة رشيدة تقف خلف هذا الحق , ولو غابت هذه القوة فإن المرونة السياسية هى السبيل لاستخلاص أقصى ما هو متاح من ذلك الحق . و للأسف هذا هو حال الدنيا , قد تكون الحقوق فيها مؤجلة إلى حين , أو لا تستوفى إلا فى الحياة الآخرة . ومن لا يقبل بهذا يناطح الواقع ويناقض بديهيات الإيمان .
كانت هذه مقدمة لا بد منها للدخول للأبعاد التاريخية والإيمانية للصراع العربى الإسرائيلي , الذى لو تم استبعاد البعد التاريخي منه , فإنه يصل بنا إلى نتائج منقطعة تماماً عن المقدمات . ولو تم استبعاد البعد الإيماني ( الإيماني و ليس الإسلامي ) , فإنه يبدأ من مقدمات لا تقود إلى نهايات .

ثانياً : أليست الدول فى سبيل إنشاء الطرق والترع والسدود .. إلخ , تقوم بنزع ملكية الممتلكات الخاصة من أجل المنفعة العامة , مع الالتزام بالتعويض المناسب عما تم نزع ملكيته . هكذا أيضاً الأمر على المستوى العالمي , اتفقت الدول من خلال الأمم المتحدة - رمز الشرعية الدولية - على تقسيم فلسطين إلى دولتين , دولة إسرائيل لتضم اليهود ومن يريد البقاء أو العودة من الفلسطينيين , ودولة فلسطين لتضم الفلسطينيين ومن رفض منهم البقاء فى إسرائيل , مع الالتزام بتعويضهم بالتعويض المناسب . وتمثل هذا فى قرار التقسيم الذى صدر عام ١٩٤٧ ليقسم دولة فلسطين إلى دولتين , مع وضع ترتيبات خاصة للمنطقة المسماة بالبلدة المقدسة التى تضم الآثار الدينية المقدسة للأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام . ونصت هذه الترتيبات أن تكون البلدة القديمة تحت الإدارة الدولية للأمم المتحدة ( أى لا تخضع لإدارة إسرائيل أو فلسطين ) . كانت هذه إذن توجهات الشرعية الدولية التى صاغتها الأمم المتحدة فى صورة قرار كان الهدف منه حل المشكلة المزمنة لليهود على مستوى العالم , خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى والثانية , وما ظهر من مشكلة تواجد اليهود فى المجتمعات الأوربية , ونمو مشاعر الكراهية ضدهم انطلاقاً من النظرة المسيحية التى تراهم قتلة المسيح , وانطلاقاً  من الطبيعة المنغلقة للديانة اليهودية التى تجعل اليهود لا يذوبوا فى المجتمعات التى يقيمون فيها , مع شعور دينى بالتفوق باعتبارهم أصحاب الديانة الأولى .

ثالثاً : أصدرت الشرعية الدولية القرار من منطلق القوة لحل مشكلة رآها العالم الغربى بمثابة مشكلة مزمنة تحتاج لحل غير تقليدى . ورغم أن اليهودية كانت قد انتشرت فى العالم كديانة عالمية لا موطن جغرافي لها , باعتبار أن موطن الديانات هو العقول والقلوب , إلا أن بقاء اليهود فى أوربا كان قد أصبح كارثياً بعد محارق النازية . وكان المكان الملائم تاريخياً  من وجهة النظر الدولية هو فلسطين التى تواجد فيها تاريخياً شعب بني إسرائيل بأنبيائه وملوكه .

رابعاً : رفض العرب قرارات الشرعية الدولية من وجهة النظر الأخلاقية , بينما ارتضتها دول أخرى فى العالم من وجهة النظر القانونية . وهنا يعود إلى المشهد قول ( جمال حمدان ) عن الحق والقوة . رأى العرب أن معهم الحق الأخلاقي فتحدوا قرار الشرعية الدولية بالقوة , ولكنها كانت قوة عاجزة انهزمت هزيمة مفجعة إمام دولة صغيرة ناشئة . كما رفض العرب رغم الهزيمة تنفيذ قرار التقسيم , وبالتالي تم إنشاء دولة إسرائيل ولم يتم إنشاء دولة فلسطين , لأن العرب رأوا أن إنشاءها بمثابة اعتراف ضمني بدولة إسرائيل , وهكذا أضاع العرب الحق القانونى فى إنشاء الدولة الفلسطينية تحت وطأة الإيمان بالحق الأخلاقي .. وكانت سياسة التضحية بالحق القانوني على مذبح الحق الأخلاقي هى الخطوة الأولى فى طريق ضياع الحق الفلسطيني .

خامساً : نتيجة الصبغة الدينية التى أُنشئت بها دولة إسرائيل باعتبارها وطن قومي لأصحاب ديانة معينة , فٌتح الباب للأبعاد الدينية لكي تتدخل فى الصراع , وتلقفت حركة الإخوان المسلمين اللجام لكى تدير الصراع إدارة دينية تدعو للجهاد ضد اليهود  قتلة الأنبياء ومغتصبي الأوطان . وتحول الأمر إلى حرب دينية مقدسة هدفها طرد اليهود من الأرض التى تضم أولى القبلتين وثالث الحرمين . وأدت إثارة المشاعر الدينية المتأججة إلى خروج الصراع من دائرة العقلانية السياسية إلى متاهات التعصب الديني والقومى , وتلقف اليسار والقوميون العرب بالإضافة للإسلاميين دفة الصراع . وهكذا كان الانتماء الاسلامي والقومي الخطوة الثانية فى طريق ضياع الحق الفلسطيني .

سادساً : انغلقت حلقة محكمة من العداء حول دولة إسرائيل من كافة الجيران العرب المحيطين بها , وبدلاً من عودة الفلسطينيين اللاجئين إلى إسرائيل أو فلسطين , أرغمهم التوجه العربي على البقاء فى مخيماتهم بالدول العربية باعتبارهم لاجئين حتى يظلوا صداع إنساني مؤرق فى رأس العالم . وأخطأ ( جمال عبد الناصر ) الخطأ التاريخي الذى أعطى إسرائيل المبرر لكي تحتل عام ١٩٦٧م الأراضي الفلسطينية والأردنية و المصرية والسورية المجاورة , لكي تستخدمها كأراضى محروقة لمحاربة المحيط المعادي الذي يرفض وجودها ويريد إلقاءها فى البحر , وذلك بدلاً من أن تحاربهم داخل أرضها , ثم لكى تستخدمها فيما بعد كورقة للتفاوض مع هذه الدول المحيطة , فتستبدل الأرض بالسلام كما نص القرار ٢٤٢ الصادر من الأمم المتحدة . وهكذا كان المحيط العربي المعادي هو الخطوة الثالثة فى طريق ضياع الحق الفلسطينى .

سابعاً : إذن ضاع الحق الفلسطيني نتيجة التضحية بالحق القانوني على مذبح الحق الأخلاقي , ونتيجة تحدي الحق القانوني بقوة عاجزة لم تحقق من شيء على أرض الواقع , إلا تثبيت الأوضاع القائمة عام ٤٨ م , أو خلق أوضاع جديدة فى صالح إسرائيل عام ٦٧م . ونتيجة المحيط العربي الذى ناصب إسرائيل العداء فأظهرها كدولة  محاطة بالعداوات وتكافح من أجل البقاء , ونتيجة الانتماء الإسلامي الذى كشف عن أن الأرض المقدسة هي محل للهيمنة الإسلامية فقط ولامكان لأي هيمنة دينية أخرى مسيحية أو يهودية عليها , مما أدى إلى انصراف التعاطف الديني المسيحي الغربي بعيداً عن تلك البارانويا الإسلامية التى لا تمتلك قوة تؤسس لتلك الهيمنة .

ثامناً : ولكن يبدو أن ثلاثية ضياع الحق الفلسطينى كانت تحتاج إلى ضلع رابع لكب يكتمل مربع الضياع حول هذا الصراع المزمن . وتمثل هذا  الضلع فى سيكولوجية الافتتان بالكارثة . وقد يبدو هذا التعبير السيكوسياسي مرادفاً لحالة الشخصية الماسوشية التى تستعذب الألم , ولعله فى الواقع كذلك , لاسيما وأن الماسوشية سيكولوجياً بمثابة اضطراب على المستوى الفردي , بينما الافتتان بالكارثة اضطراب على المستوى الجماعي , وتتجلى سيكولوجية الافتتان بالكارثة عندما يتحول النضال فى مخيلة أية جماعة من مجرد وسيلة إلى هدف فى حد ذاته . فأية جماعة مناضلة تعتبر النضال بمثابة وسيلة لتحقيق التحرير أو الاستقلال أو التحول الديمقراطي .. إلخ , ولكن عندما يتحول النضال إلى هدف فى حد ذاته , وتغيب الغاية منه ليصبح هو  فى حد ذاته الغاية , فإن الأمر يبدو كمباراة صفرية تحقيق النتائج فيها مستحيل والاستمرار فيها لا يعنى إلا المزيد من الألم و الهزيمة , حينئذ تبدو سيكولوجية الافتتان بالكارثة واضحة بلا مواربة . و لكن كيف يتم إدراك أن النضال تحول إلى هدف بدلاً من كونه وسيلة ؟ , يترسخ ذلك الإدراك عندما تصبح كل الوسائل المستخدمة فى هذا النضال عاجزة عن تحقيق أية نتيجة , وعندما تناقض الأهداف المأمولة كافة الحقائق المطروحة على أرض الواقع . أليس الصراع الفلسطيني الإسرائيلي نموذج توضح كافة تداعياته بأنه وصل إلى مرحلة الافتتان بالكارثة , وأن هذه السيكولوجية هى التى سيطرت على كافة توجهات الجماعات الفلسطينية المسلحة  , وبالتالى ضاع الهدف و بقيت الوسيلة تناطح المستحيل . ( ما يحدث فى غزة الآن مثال عملي تطبيقى شديد الوضوح ) .

تاسعاً : إذن الذى ضيع الحق الفلسطيني يتمثل فى كل من :

- التضحية بالحق القانوني على مذبح الحق الأخلاقي .

- المحيط العربي .

- الانتماء الإسلامي والقومب .

- سيكولوجية الافتتان بالكارثة .

أخيراً : بعد ٧٠ عاماً من الصراع , ماذا ينبغي أن نقول للفلسطينيين -  بدون شعارات - لكى يخرجوا من مربع ضياع الحق الفلسطيني .. فليسمحوا لي أن أقول لهم :

- انتهجوا سبيل الحق القانوني بعيداً عن الحق الأخلاقي , فالقوانين تعترف بالتقادم الذى يُسقط بعض الحقوق , وتعترف باستحالة التنفيذ لاعتبارات عملية , وتعترف بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية . والقوانين قد تخالف المنطق ولكنها تؤسس لشرعية واقعية . ولعل الكثير من القضايا العالقة فى مفاوضات الحل النهائي قد تجد لها حلاً لو تم انتهاج هذا السبيل .

- اتخذوا قراراتكم بمفردكم بعيداً عن المحيط العربي , وخوضوا مفاوضات منفردة مع إسرائيل بعيداً عن الضجيج العربي الذى لا ينتج عنه أى طحين , ولعل ٦٠ عاماً من المساندة العربية لم تحقق من شيء إلا الضياع .

- اخلعوا عن القضية ثوبها الإسلامي , فالغرب لن يحترم البارانويا الإسلامية التى تريد الهيمنة على الأرض المقدسة التى ضمت الأديان السماوية الثلاثة . البلدة المقدسة ينبغي أن تكون السيادة عليها للأمم المتحدة , مع كفالة الحق لأصحاب كل ديانة لممارسة شعائر ديانتهم داخل الآثار الدينية الخاصة بدينهم , وإذا أراد اليهود أن يبنوا لهم هيكلاً جديداً فليتم ذلك بالتوافق , فكلها بيوت الله .

- اعلموا أن الأهداف المستحيلة لا تصنع إلا الكارثة , ومن السهل إشعال الكوارث , ولكن كم من الأنفُس والأموال والممتلكات قد تضيع حتى .. حتى يتم إطفائها ... واسألوا أطفال غزة !!!!

فتُرى هل عرفتم .. من الذى ضيع الحق الفلسطينى ..... !!!!!!!!

دكتور / محمد محفوظ