06 مايو 2017

د. محمد محفوظ يكتب : الأزهر .. بين مبادرات التحديث من أجل التنوير .. ومؤامرات الترويض من أجل الهيمنة


" الطاغية .. هو الذي يقطع شجرة لكي يقطف ثمرة "
قول مأثور



يبدو طريق الحق التفافياً حلزونياً بهلوانياً عندما تتم السيطرة على بواباته من أجل الترويج للباطل .


فكلمة الحق التي يُراد بها الباطل تسيئ لسمعة الحق وتعريه من الثقة وتفرغه من المصداقية ، فينصرف عنه الناس لالتباس الأمر عليهم . فالذئاب عندما تتنكر بوجوه الحملان وفروها ، تجعل الناس يهابون مراعي الحملان الوادعة ، توجساً من أن تكون قطعاناً للذئاب الجائعة المتنكرة .

ولاشك بأن الازهر الشريف كجامعة للعلوم الدينية الإسلامية في حاجة إلى انتفاضة علمية فكرية ، تستهدف مراجعة الأصول التراثية التي تستند اليها علومه ومناهجه ، لتنقيتها من العلوم الزائفة والمناهج المنقرضة .

إذ أن التطور العلمي الهائل أسفر عن مجموعة من النظريات والأدوات والمناهج التي لا ينبغي تجاهلها عند التعامل مع العلوم الدينية التراثية ، لإعادة مراجعتها وتصنيفها في ضوء هذا التطور ، فيتبين ما الذي ينتمي منها إلى العلم بمعناه المعاصر ولا يدخل تحت بند العلوم الزائفة ، وما الذي يعتمد فيها على المناهج العلمية المنضبطة ولا يرتبط بمناهج منقرضة تصدعت مبادئها وسقطت مسلماتها .

ولكن إذا كانت الجهود الحثيثة المريرة المزمنة لتحديث الأزهر تكتسب صفة " المبادرة " ، فإن الجهود المدفوعة المسمومة المشبوهة لإخضاع الأزهر تستحق وصف " المؤامرة " .

ومن هذا المنظور ، يمكن تقييم مشروع القانون المقدم من النائب / محمد أبو حامد ، بشأن تعديل قانون الأزهر والهيئات التابعة له  .
فمشروع القانون مهما تم الترويج له باعتباره خطوة على طريق تجديد الخطاب الديني ، فإنه يأخذ مكانه ضمن القوانين المريبة التي يتم دفع بعض النواب لتقديمها ، لكي تظل الحكومة مختفية في الظل ، طالما هناك من لديه الاستعداد للقيام بدور " الكحول " الذي يستخدمه المقاولون عند بناء المباني بدون ترخيص ، فيتم توقيع العقود للمشترين باسم الكحول بينما صاحب رأس المال يلبس " طاقية الإخفا " للتكويش على الملايين . 

أليس قانون الجمعيات الأهلية الذي تقدم به النائب/ عبد الهادي القصبي مثال على ذلك . وأليس قانون الهيئات القضائية الذي تقدم به النائب/ أحمد حلمي الشريف نموذج لذلك . مثال ونموذج لثنائية الكحول / المقاول ، أو بالأحرى ثنائية النائب / الحكومة .

نقول ذلك عن مشروع تعديل قانون الأزهر ، وسنقوله عن كل قانون يتم الدفع به باستخدام أسلوب " الكحول " ، لأننا سئمنا من مظاهر التكويش على السلطة التي تريد لمصر أن تتكوم وتتحوصل بكل مؤسساتها وسلطاتها في قبضة رئيسها .

فبعد أن باتت كل النصوص الدستورية التي تقلص سلطة رئيس الجمهورية وتعظم صلاحيات مجلس الوزراء مجرد حبر على الورق ، وتتخاصم معها كل الممارسات التي جعلت الرئيس هو مركز السلطة التنفيذية وقلبها وعقلها ويدها وساقها . حتى صار الرئيس وبالمخالفة للدستور هو كل السلطة التنفيذية ، وما عداه من مجلس للوزراء برئيس المجلس وباقي الوزراء مجرد ظلال تدور في فلك الرئيس لترتهن بإشارته وتأتمر بإرادته .

ولعل خضوع مجلس الوزراء ليصبح مجرد ظل للرئيس ، كان مجرد مقدمة تفتح الطريق للتجرؤ أيضاً على كل النصوص الدستورية التي تكرس لمبدأ الفصل بين السلطات .

ولهذا سرعان ما ذابت كل الحدود الفاصلة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ، لينتقل مجلس النواب من جوار " قصر العيني " إلى قلب " قصر الاتحادية " ، فيقنن للحكومة فشلها ويتغافل عن تجاوزاتها ويتخلى عن مراقبتها ومحاسبتها . بحيث يبدو ائتلاف دعم مصر صاحب الأغلببة بمجلس النواب بمثابة صورة كربونية من اللاحزب اللاوطني اللاديمقراطي ، الملعون ذكره والمُزال مقره والمُنحل بحكم القضاء وبحكم الشعب من قبله .

بعد كل ذلك .. لم يعد مستغرباً ألا تتوانى سلطة لا تشبع ، عن الاتجاه نحو التهام قائمة السلطات كلها . فإذا بها تسن أسنانها ويسيل لعابها على السلطة القضائية لتقوض ما كفله الدستور من استقلالها . وبعد أن كان معيار الأقدمية هو الباب لوصول القيادات القضائية إلى مناصبها العالية ، صار معيار الرضا الرئاسي والقبول الأمني والخضوع للنظام هو جواز المرور للعبة الكراسي العدلية ، وكل ذلك بالقانون حتى وإن خالف الدستور وأصدره مجلس النواب بسرعة تتجاوز كل الأرقام القياسية .

ولكن إذا كانت قائمة السلطات لا تخلو من ملاحق تتضمن المُقبلات والسلاطات الفاتحة للشهية ، فإن التكويش على الهيئات والمؤسسات والمنظمات التي كفل الدستور استقلالها تصبح غاية هي الأخرى لا تكتمل الوجبة إلا بالتهامها .

بدأت القائمة - مبكراً - باستهداف منظمات المجتمع المدني الحقوقية باتهامات التمويل الأجنبي والتخوين والعمالة ، لإبعاد الأضواء الرقابية عن التجاوزات والانتهاكات والجرائم التي تتصادم مع الممارسات الديمقراطية الحقيقية وليست الصورية .

ثم ضمت القائمة ، الجهاز المركزي للمحاسبات الذي تم إرخاء الحبل لرئيسه السابق المحسوب بالحق أو بالباطل على جماعة الإخوان ، لكي يلف الحبل حول رقبته بتصريحات تكشف الحجم المهول للفساد ، ويكون مصيره الإبعاد وأحكام بالحبس بعد المحاكمة .

وامتدت القائمة إلى نقابة الصحفيين التي اشتعلت فوق سلالمها غضبة التنازل عن تيران وصنافير ، فكان مصيرها الاقتحام لكسر كبريائها ، وأحكام بالحبس ضد ثلاثة من قياداتها .

واتسعت القائمة لتضم مجالس الإعلام التي تم تسليم قيادتها ومقاعد إدارتها لرموز إعلام نظام مبارك ، لتدور العجلة ٣٦٠ درجة فتعود ريما لسابق عهدها ، ليتحول الإعلام إلى إع لام ، والقلم إلى طبلة ، والميكروفونات إلى صاجات ، والشاشات إلى مصاطب للأمنجية والرقاصات .

ولكن ما كان لقائمة المُقبلات أن تخلو من الكيانات الروحية التي تمتلك سلطة معنوية لا ينبغي التفريط في تأثيرها .

وبينما تم حصر الكنيسة في زاوية طائفية ، لتظل أسيرة منطق التبعية والمهادنة ، وبعيدة عن ساحة الشراكة والمواطنة .

كان لابد أيضاً من ترويض الأزهر ليظل خاضعاً للسلطان ، وليس رب السلطان . ورغم أن الأزهر لا يمكن اعتباره مناوئاً للخط السياسي للنظام ، إلا أن المنهج التسلطي في الحكم يرى بأن قبضة الحاكم الفرد يجب أن تطال كل السلطات والمؤسسات بلا استثناء ، وأن أي مظاهر للتلكؤ أو التحصن باستقلالية زائفة ، أو عدم الانبطاح الكامل للتعليمات والتوجيهات ، كل ذلك يُعد بمثابة تمرد واستهتار بمقام سلطة لا ترى إلا ذاتها ، وكل ما دونها هو تابع لها .

والواقع أن أسوأ وأحقر سمعة يمكن أن تلحق بمبادرات تجديد الخطاب الديني ، هو أن يتم اختراقها وتوظيفها واستتباعها والركوب على ظهرها ، لتمرير قانون لا يسعى إلا لإرضاء سلطة لا تستهدف إلا فرض هيمنتها .

نعم ، طالبنا ومازلنا نطالب عن حق ورصد وتقييم وموضوعية ، بتجديد الخطاب الديني وإصلاح الأزهر ولكن بشرط عدم المساس باستقلاليته وبلعه داخل بطن السلطة التنفيذية .

ورفضنا ومازلنا نرفض منح قداسة للأزهر تجعله فوق مستوى النقد وخارج سياق المراجعة . 
ولكننا لا نقبل رغم كل ذلك ، بأن يتقازم الأزهر ليصبح زاوية دينية داخل قصر الاتحادية ، ومُحَلَّل شرعي وفقهي لسياسات سلطة تبحث عن كل المساحيق الممكنة لإخفاء ما تشوه من وجهها وجسدها . 

وإذا كان نكول الأزهر عن القيام بدوره في تحديث ما تعطن من مناهجه وعلومه ، قد أدى إلى الحفاظ على المرجعية الفكرية التي سمحت للإرهابيين الانتحاريين بالولوج إلى قاعات الكنائس لتفجيرها ، واستحلال سفك الدماء تحت راية الله ورسوله .

فإن استغلال رايات تجديد الخطاب الديني للسماح لخيول السلطة بالمروق من تحتها ، للولوج إلى أروقة الأزهر ، لن يسفر إلا عن تأميم الخطاب الديني وتدجين علمائه .

لذلك .. نقول لمن استدعى الخيول لدخول الازهر لإتمام التكويش على كل السلطات داخل غرف قصره . نقول له :
ما كان لنا أن نصدق بأنك تسعى إلى تجديد الخطاب الديني
طالما تغلق كل المنافذ أمام تجديد الخطاب السياسي 
فخطاب ديني جعل البخاري مقدساً والقرآن مهجوراً
لا ينتج إلا عن خطاب سياسي جعل الرئيس مقدساً والدستور مهجوراً 
*****
رابط مقالي :
كي لا يظل الأزهر جامعة للعلوم الزائفة والمناهج المنقرضة
http://albedaiah.com/articles/2015/04/16/87206
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com