07 سبتمبر 2016

د. محمد محفوظ يكتب : لماذا يفشل العسكريون فى إدارة المجتمعات المدنية ؟


لا تحتاج أن تضع شارة على ذراعك ليكون لديك شرف
من فيلم : A Few Good Men

اعتاد العسكريون في الدول غير الديمقراطية على وصف كلياتهم ومعاهدهم ومعسكراتهم بأنها مصانع للرجال . ولعل هذا الوصف يتجاهل إضافة هامة لا ينبغي إغفالها ، وهي أن تلك المؤسسات بالفعل هي : مصانع للرجال الذين ينفذون التعليمات إلى حدها الأقصى ومداها الأقسى .

وبالطبع لا يبدو تنفيذ التعليمات أمراً مستهجناً ، باعتباره صلب ومضمون أي عمل سواء كان مدنياً أم عسكرياً .

ولكن بينما يكون تنفيذ التعليمات مرتبطاً في الحياة المدنية باستخدام القوة المنتجة التنموية التطورية . فإن تنفيذ التعليمات في الحياة العسكرية يكون مرتبطاً باستخدام القوة الساحقة الماحقة المدمرة القتالية .

ولعل هذا يستتبع بالضرورة أن يكون هناك فرق في التأهيل والإعداد ؛ بين الذين ينفذون التعليمات للإنتاج والتنمية ؛ وبين الذين ينفذونها للتدمير والقتال .

ولعله لا يمكن إغفال أن استخدام القوة المدمرة والمميتة ؛ يكون في نسبة من النزاعات مستنداً إلى مظلة الحق التي يحتمي بها أحد الأطراف من عدوان طرف آخر . إلا أن القتال حتى وإن كان فيه خير لطرف ودرء لشر طرف آخر ، فإنه برغم ذلك يظل مكروهاً من الفطرة الإنسانية السوية ، مصداقاً لقوله تعالى : كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم .

ولذلك تنحو برامج الإعداد والتأهيل في المؤسسات العسكرية إلى تطويع وتشكيل هذه الفطرة ، لكي تتقبل الضرورات القتالية والأوزار الحربية . وذلك من خلال مسارين :

المسار الأول : يتمثل في البرامج والتدريبات والسياقات العسكرية التي تؤدي إلى : كسر الإرادة لغرس صفات ومسلكيات السمع والطاعة والإذعان والانصياع للأوامر والتعليمات .

المسار الثاني : يتمثل في البرامج والتدريبات والسياقات العسكرية التي تؤدي إلى : العزل والتهميش لغرس صفات الولاء والاستعلاء والكبرياء .

ويتبدى المسار الأول المتعلق بكسر الإرادة في الممارسات التعسفية التعنتية غير الإنسانية التي يتعرض لها الطلاب الجدد بالكليات والمعاهد العسكرية ، والتي تتضمن برامج للتنكيل وإساءة المعاملة والتخويف والضغط بدنياً ونفسياً على الطلاب ، وإخضاعهم لمنظومة يكون فيها رؤساؤهم المباشرون هم طلاب السنة النهائية بذات الكلية أو المعهد . 
وتضمن تلك البرامج من وجهة النظر العسكرية الانتقال بالفرد من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية ، من خلال كسر الإرادة الفردية وتوجيهها نحو الانصياع والإذعان لإرادة فوقية ؛ هي : إرادة القيادة دون نقاش أو جدال أو تردد أو حتى مجرد التفكير .

أما المسار الثاني ؛ فيتبدى في الإقامة الداخلية بالكليات والمعاهد والمعسكرات التي تُدار بأساليب الضبط والربط العسكري ، للانسلاخ بالأفراد من دوائر مجتمعهم المدني ، وعزلهم داخل هوامش عسكرية على أطراف التجمعات المدنية . وتكتسب تلك الهوامش أهمية مادية ومعنوية أكثر من المتن المدني ؛ باعتبارها السياج الحامي لأمن المجتمع من أي عدوان أو تدمير . 
الأمر الذي يؤدي إلى غرس صفة الاستعلاء لدي الأفراد المعزولين باعتبارهم ينتمون لهوامش ذات حيثية استثنائية وأهمية حيوية . 
علاوة على أن ذلك يؤدي إلى تعزيز قيمة الولاء للمؤسسة التي تمتلك تلك الحيثية والأهمية ؛ من خلال مهمتها الرسالية في الدفاع والتضحية من أجل الراية والمصلحة الوطنية .

ولعل هذه الصفات أو المسلكيات في الشخصية العسكرية تُعد أمراً مربكاً من وجهة النظر المدنية ، نظراً لما تحمله من تناقضات يصعب التوفيق بينها .

فمن الصعوبة التوفيق بين متناقضات ؛ تتمثل في سلوكيات الانصياع والإذعان والسمع والطاعة ، وبين تزكية نوازع الاستعلاء والكبرياء .

ومن الصعوبة الجمع بين متعاكسات ؛ تتمثل في موجبات كسر الإرادة ، وبين تنمية نوازع الولاء والانتماء .

ولكن بقدر ما يبدو هذا التناقض في الشخصية العسكرية مربكاً من وجهة النظر المدنية ، إلا أنه لا يبدو كذلك من وجهة النظر العسكرية ، باعتباره عامل توازن يتم من خلاله تعويض ضغوط الانصياع والإذعان المادية والنفسية بمظاهر الكبرياء ، وتعويض منغصات كسر الإرادة بمبررات الولاء والانتماء .

ولذلك تبدو المؤسسة العسكرية نتيجة الإعداد والتأهيل الذي تصبغ به منتسبيها وأفرادها ؛ بمثابة مؤسسة تمارس " القهر الوظيفي " وتبتعد تماما عن مقتضيات " الرضا الوظيفي " التي تتسم بها أغلب المؤسسات المدنية .

ويشير مصطلح " الرضا الوظيفي " إلى علاقة تناسبية ما بين الحقوق الوظيفية والواجبات الوظيفية . بحيث إذا تحقق التوازن ما بين الحقوق والواجبات ؛ يتحقق عندئذ الرضا الوظيفي .

ولكن إذا زادت الحقوق الوظيفية عن الواجبات الوظيفية يترسب عندئذ ما يُسمى بالتسيب الوظيفي .

بينما إذا زادت الواجبات الوظيفية عن الحقوق الوظيفية يترسخ حينئذ ما يُسمى بالقهر الوظيفي .

ولا شك بأن بعض المؤسسات المدنية التي تديرها رئاسات سيكوباتية غالبا ما تتوطن بداخلها ممارسات القهر الوظيفي . مثلما تتوطن بداخل المؤسسات المدنية التي تديرها رئاسات عشوائية ممارسات التسيب الوظيفي .

ولكن موجبات القهر الوظيفي الملازمة للمؤسسة العسكرية لا تفرضها النزعات السيكوباتية - حتي وإن وُجدت - بقدر ما تفرضها الطبيعة الاستثنائية لضرورة الالتزام بالانصياع والإذعان إلى الحد الذي يصل لفقدان الحياة ذاتها . بما يجعل من العلاقة الوظيفية مهما تعاظمت حقوقها لا تتناسب إطلاقاً مع واجباتها القصوى التي قد يكون الموت أو الإعاقة الجسدية ثمناً لها .

ولذلك بينما يتم إدارة المؤسسات المدنية وفقاً لأساليب " إدارة الاختلاف " ، باعتبارها في الغالب الأعم مؤسسات يحكم علاقاتها بموظفيها الرضى الوظيفي . فإن المؤسسة العسكرية يتم إدارتها وفقا لأساليب " إدارة الخلاف " باعتبارها - حتماً - يحكم علاقاتها بعناصرها ومنتسبيها القهر الوظيفي .

وإذا كانت إدارة الاختلاف تسعى لاحتواء التنوع والتعدد والتلون ، من خلال الحوار والتفاوض والمساومة ، ومن ثم التوافق أو التنازل ، بما يجعلها إدارة لا تنفي الآخر وبالمقابل لا تضحي بالذات .

فإن إدارة الخلاف هي إدارة تسعى إلى التنميط والتوحيد والتمترس والاصطفاف ، من خلال تقديس الرأي الواحد والهدف غير المرن الجامد ، بما يجعلها إدارة تأسر الآخر أو تقتله حتى وإن كان الثمن هو التضحية بالذات .

ولهذا بينما تكون إدارة الاختلاف هي إدارة المنافسة السلمية باستخدام قوة القانون الإلزامية والأعراف المجتمعية .
فان إدارة الخلاف وعلى النقيض هي إدارة الصراع المسلح باستخدام قوة النيران التدميرية والعقيدة القتالية .

ومن هذا المنطلق ، تبدو إدارة الخلاف مثل حالة الطوارئ المستديمة . ومثلما تكون حالة الضرورة هي المبرر لتفعيل قانون الطوارئ ، فان إدارة الخلاف تستلهم الظروف الاستثنائية لتصبح هي الظروف المقيمة . 
ولذلك لا يشعر العسكريون بالأمان - باعتبارهم الوكلاء الحصريين لإدارة الخلاف - إلا عند الجلوس على براميل البارود المموهة في صورة المقاعد الوثيرة .

ولهذا يبدو وجود العسكريين في المجتمعات مثل جهاز المناعة في الجسد الإنساني ، وجوده لازم واستمرار نشاطه لحماية صحة الإنسان حاسم . ولكن في المقابل فإن محددات الهيمنة على هذا الوجود لازمة ، وكوابح السيطرة على هذا النشاط ينبغي أن تظل حاسمة . وإلا فإن فرط النشاط وإتاحة كل البساط لجهاز المناعة ؛ سرعان ما يؤدي إلى اعتلال الجسد بمرض فرط المناعة الذاتية ، بحيث لا يكتفي جهاز المناعة بمهاجمة خلايا وأنسجة الجسم المريضة وإنما أيضاً السليمة للقضاء عليها .

وانطلاقاً من كل هذه المناظير ، تبدو الشخصية العسكرية بطبيعة إعدادها وتأهيلها ونظمها الوظيفية وأساليبها الإدارية ، تبدو مناقضة ومعاكسة ومفتقدة ومفتقرة للأسس الجوهرية التي تُدار بها المجتمعات والمؤسسات المدنية .

ولعل بعض الاستثناءات التي حققت بها بعض الشخصيات العسكرية عدداً من النجاحات في إدارة المجتمعات أو المؤسسات المدنية ، هي استثناءات لا تلغي القاعدة إنما تؤكدها وترسخ بنيانها .

فنجاح عدد محدود من القيادات العسكرية في إدارة المجتمعات المدنية ببعض الدول الديمقراطية في فترات استثنائية من تاريخها وعقب حروب دموية ، كان بمثابة " انحناءة إضطرارية " لهذه المجتمعات في فترات انتقالية لتخرج من اقتصاد الحرب وإدارة الخلاف إلى اقتصاد السلم وإدارة الاختلاف . ولهذا يظل هذا الاستثناء مؤكداً للقاعدة الأصلية .

أيضا ، فإن بعض التجارب التي يتم الزعم بأنها ناجحة نتيجة سماح بعض الدول لمؤسساتها العسكرية بالانخراط في الأنشطة الاقتصادية ، هي تجارب تتجاهل المعيار المنصف لقياس النجاح وفقاً لشروطه وقواعده . 
فليس من النجاح إحراز الأهداف في مباراة لكرة القدم باستخدام الأيدي ، أو تسجيل النقاط في مباراة للكرة الطائرة باستخدام الأقدام . 
وبنفس المنطق فإن النجاح في الساحة الاقتصادية المُصاحب للإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية ، والمُسوِّغ لاستخدام أو تسخير العمالة شبه المجانية ، والمُقنِّن لفض التنازع مع الشركات المدنية أمام المحاكم العسكرية .. هذا النجاح يعتمد على معايير غير منصفة وغير متاحة للمؤسسات المدنية المُنافِسة .

ولذلك ، أينما تقلد العسكريون المناصب المدنية بشروطها وقواعدها فإنهم يفشلون . ولعل مئات وآلاف المناصب المدنية التي يشغلها ذوو الخلفية العسكرية في عدد من الدول غير الديمقراطية ؛ بدءاً من رئاسة الدول وتقلّد الوزارات ، مروراً بالولاية على المحافظات ، وصولاً إلى إدارة الشركات والهيئات ورئاسة الأحياء في المحافطات والإدارات في الجهاز الإداري للدولة . لعل أغلب هذه المناصب والرئاسات بمثابة نموذج مجسم صارخ فاضح للفشل والتردي ، بل والفساد والإفساد وهدر الإمكانيات .

الحقيقة المزعجة تقرر بأن ممارسات مثل : كسر الارادة ، والسمع والطاعة ، والإذعان للأوامر والتعليمات ، والعزل والتهميش ، والولاء والاستعلاء والكبرياء ، والقهر الوظيفي وإدارة الخلاف ، كلها ممارسات قابلة للاستهلاك داخل المؤسسة العسكرية ، باعتبارها مؤسسة تتولى مسئولية استثنائية على جبهات القتال والمعسكرات والقواعد العسكرية . ولكنها ممارسات يمكن القول بأنها سامة وغير صالحة للاستهلاك في المجتمعات المدنية .

ولعل سرد عشرات أو مئات التجارب بأسماء بلادها وشخصياتها ، قد تساعد على تقريب ملامح وسمات الشخصية العسكرية للقارئ الذي قد تزدحم في رأسه تفاصيل الحياة اليومية ، بما يجعل الصور تشتبك مع بعضها البعض دون فواصل تتيح إظهار فروقاتها الجوهرية . ولكن قد تبدو الدراما هي البديل الأبسط والمعين الأخصب الذي يمكن اللجوء إليه ، لتجسيم الملامح والسمات وترسيم الحدود بين الصور المشتبكة في غابة التفاصيل الحياتية .

وليسمح لي القارئ الكريم ، بعرض مشهد حواري - يكشف عن كوامن الشخصية العسكرية - من الفيلم الأمريكي : قليل من الرجال الصالحين A Few Good Men

المشهد يدور أمام إحدى دوائر المحكمة العسكرية الأمريكية ويضم كل من :
أولاً  : " جاك نيكلسون " الذي يقوم بدور ضابط مقاتل برتبة عقيد يرأس وحدة عسكرية في خليج جوانتانامو ، ويتم استدعاؤه للشهادة في واقعة مقتل جندي بالوحدة التي يرأسها على يد جنديين آخرين بالوحدة نفسها .
ثانيا : " توم كروز " الذي يقوم بدور ضابط محامي ، يتولى الدفاع عن الجنديين المتهمين ، ويريد إثبات أن الجنديين تلقيا أمراً من ذلك العقيد بعقاب زميلهما ، إلا أنه توفى من جراء هذا العقاب .

يقول جاك نيكلسون بعد أن أثاره توم كروز واستدرجه انفعالياً لكي يجعله يكشف عما هو كامن داخل صدره وعقله .. يقول جاك نيكلسون موجهاً كلامه أو بالأحرى صياحه لتوم كروز :
- لا يمكنك تحمل الحقيقة
يابني نحن نعيش في عالم به " جدران "
وهذه الجدران يجب أن يحميها رجال معهم أسلحة
من سيفعل ذلك ؟ .. أنت !!
لديّ مسئولية أكبر مما تتخيل
لديك رفاهية عدم معرفة ما أعرف
وجودي رغم غرابته لك ينقذ أرواحاً
لا تريد الحقيقة لأنك تعرف أن هناك أماكن غاية في الخطورة
تريدني على هذا الجدار
تحتاجني على هذا الجدار
ليس لدي الوقت ولا الرغبة ، لتوضيح موقفي لرجل يستيقظ وينام تحت غطاء الحرية التي أوفرها ، ثم يشكك في نزاهتي
كان يمكنك فقط أن تشكرني وتذهب في طريقك
أو أقترح أن تمسك سلاحاً وتأخذ مكاناً في الجبهة
وفي الحالتين  " لا يهمني ما حقك القانوني "
أيها " الاوغاد " ليس لديكم أية فكرة عن كيفية الدفاع عن أمة
كل ما فعلته أنت اليوم هو  " إضعاف دولة "
عرَّضت حياة الناس للخطر
أحلاماً سعيدة يابني .........

.. ينتهي هذا المشهد السينمائي الكاشف لجوهر الشخصية العسكرية ، ونظرتها للذات والآخر ، والمجتمع والمعسكر ، والعالم.

ولكن ربما لم ينته هذا المشهد من واقع عدد من الدول ، مازال يسيطر على كراسي الحكم فيها العسكريون ، فيستيقظ وينام مواطنوها تحت غطاء " الحرية " التي يوفرها لهم أولئك العسكريون ؛ في مقابل أن يلهجوا بحمد نزاهتهم وحكمتهم وتضحياتهم وبطولتهم . 
فالأوغاد أي المشاكسين المحتجين المعترضين المدققين الحالمين المثقفين ؛ كل هؤلاء ومَن على شاكلتهم - مدنيون كانوا أم حتى أشباه عسكريين - ليس لديهم أية فكرة عن كيفية الدفاع عن أمة ، وعندما يتدخلون للمعارضة أو المراجعة أو حتى مجرد الاستفسار فإنهم يتسببون في "إضعاف الدولة " ، وتعريض حياة الناس للخطر .

.. بالفعل تلخص الدراما الكثير من التفاصيل المعقدة ، وتنساب بكل سهولة فوق الطرق غير الممهدة .

ولذلك نقول .. بالدراما أو بالمقال .. بالكاميرا أو بالقلم .. بأي لغة يفهمها الكبار وحتى الصغار .. نقول :
لعسكر أن يتعسكر كما شاء في المعسكر .
ولكن في المجتمع المدني ، عليه أن يمتنع عن التعسكر ، لا أكثر .

*****