16 أبريل 2016

الموت السياسي للرئيس

د. محمد محفوظ .. يكتب : الموت السياسي للرئيس

" أتى أمر الله فلا تستعجلوه .. "
سورة النحل / الآية ١

مات السيسي سياسيا .
فمثلما مات الملك فاروق سياسيا عقب هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام ١٩٤٨ ، ثم مات فعليا في مارس عام ١٩٦٥ .
ومثلما مات جمال عبد الناصر سياسيا عقب هزيمة يونيه ١٩٦٧ ، ثم مات فعليا في سبتمبر  ١٩٧٠ .
ومثلما مات أنور السادات سياسيا عقب اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ ، ثم مات فعليا في أكتوبر من العام ذاته .
ومثلما مات محمد مرسي سياسيا عقب صدور إعلانه الديكتاتوري التمكيني في نوفمبر ٢٠١٢ .
فقد مات السيسي سياسيا عقب موافقته على أحقية المملكة العربية السعودية في ملكية جزيرتي تيران وصنافير في إبريل٢٠١٦ .
ومثلما لا يعود أحد من الموت الفعلي . فإن أحدا لا يعود أيضا من الموت السياسي . فالموت موت ، فعليا كان أم سياسيا .
كتب السيسي شهادة وفاته السياسية بنفسه . 
وعندما يأتي ملك الموت السياسي ، تبتعد الأجهزة القريبة من الرئيس عن فراش الموت ، وتبدأ المؤسسات في التعامل مع الشبح السياسي للرئيس بمنطق المسايرة لا بمنطق الولاء . فالأجهزة والمؤسسات رغم أنها قد تتفانى في خدمة الرئيس ، إلا أن ولاءها عند الأزمات ليس إلا لنفسها .
العزلة التي يعاني منها أي رئيس بعد موته السياسي ، تجعله زاهدا في الحكم ، ولكن كبرياء السلطة يمنعه من اعتزالها . فعندما تفقد السلطة بريقها ويتشرخ نفوذها ، يصبح أمر مغادرتها - إما بالموت الفعلي أو بالرحيل لنهاية المدة - بمثابة آمال وأحلام تراود النفس الرئاسية وتتوثب لها .
مات السيسي سياسيا .. لأنه ألقى على رؤوس الناس قنبلة مفادها : كل تضحياتكم وكبرياءكم ووطنيتكم وانتفاضاتكم وثوراتكم لا وزن لها. فما زلتم رعايا في بلادكم ، لا اعتبار لكم ، ولا رأي لكم في أرضكم أو حدودكم أو اتفاقياتكم أو معاهداتكم . والاستهانة والاستخفاف مازالتا الميراث المتبع لتجاهل ردود أفعالكم .
مات السيسي سياسيا .. لأنه أسقط الشعب من معادلة الدولة ، وظن لوهلة أن الدولة : سلطة ؛ وكفى .
مثلما يظن " حامل التوكيل العام " بأن له حق التصرف دون استشارة " صاحب التوكيل " . وينسى أنه ما حمل التوكيل إلا ليمثل صاحبه لا لينفي إرادته ويسلبه مشيئته .
مات السيسي سياسيا .. ومهما بدت أمارات الكبرياء والممانعة . فثمة حقائق سترسم على الأرض لوحاتها .
ولا تعتمد تلك الحقائق على التظاهرات أو الاحتجاجات ومدى حجمها أو عددها أو تواتر استمرارها . كما لا تعتمد أيضا على ما ستثبته الدراسات الفنية من تأكيد تبعية الجزر للسعودية أو نفيها . وذلك لأنه ما كان قبل التنازل عن الجزيرتين ، لن يكون بكل بساطة مثل ما هو بعدها . فثمة علامات فارقة وومضات كاشفة تعري أساسات الثقة وتزلزل ثباتها .
فلن يغفر قطاع كبير من رجال القوات المسلحة للسيسي - وهو خارج من بين صفوفهم - ما فعله واقترفه . ومهما ارتدى القادة أقنعة المسايرة ، فإن القاعدة العريضة من ضباطهم وأفرادهم ستشعر بالخجل من سلطة أهانت تضحياتهم وأهدرت نضالهم . بالطبع لن يخرجوا على قائدهم الأعلى ، ولكن ربما يكون ملائما أن يخرجوه هو - ولو جزئيا - من دائرة الصورة التي تصدِّرها للمجتمع أجهزة دعايتهم وإعلامهم .
كما ستبدأ الأجهزة السيادية في فتح قنوات الاتصال لتبادل المعلومات فيما بينها ، خلافا لتنافسها السابق من أجل حجبها عن بعضها بعضا تقربا للقيادة السياسية وطمعا في الانفراد بثقتها . بالطبع لن تطرمخ الأجهزة على المعلومات أو تزيف بعضها ، ولكنها بالتأكيد ستتباطأ في رفعها كي لا تحقق أثرا يساهم في توريطها .
كما ستبدأ باقي مؤسسات الدولة في التشرنق حول ذاتها ؛ لوقاية نفسها من أي ركام يتساقط من جثة سلطة باتت ترقد في نعشها .
مات السيسي سياسيا . ولكن .. ماذا بعد ؟؟؟
بالطبع ، لا تملك مصر رفاهية رحيل رئيس قبل نهاية فترته الرئاسية ، حتى لو أدار السلطة من المقابر السياسية في قصر العروبة أو الاتحادية . 
ولكنها تملك أن تهرب من قضاء السياسة إلى قضاء السياسة ، بأن تبادر بتفعيل نصوص دستورها ، ودسترة رئيسها من خلال حصره في المساحة الدستورية المرسومة له .
وبالتالي ، لن يسامح التاريخ مجلس النواب لو منح الثقة لحكومة شريف إسماعيل بكل رجالها ونسائها . فالحكومة التي فقدت المرؤة السياسية والنخوة الوطنية ولم يبادر رجل أو امرأة من أعضائها بالامتعاض أو بالاعتراض على الاستهانة والاستخفاف بالشعب الذي يدفع مرتباتها ويمول مخصصاتها ، هي حكومة لا تستحق البقاء في مقاعد السلطة داخل وطنها . 
لذلك على مجلس النواب أن يعلن سحب الثقة من تلك الحكومة الخائرة ، ويبادر بتشكيل حكومته . 
وقد يرى الكثيرون بأن البرلمان بتشكيلته الحالية لن يأتي بحكومة أفضل من الحكومة القائمة . ولكننا نقول بأن حكومة ائتلافية تتنوع أجنحتها لتنال ثقة برلمانها ، وتتجادل تياراتها السياسية لرسم سياساتها، ويتمرد على توجهاتها بعض أعضاءها ، هي حكومة أفضل لمصر من حكومة موظفين خاضعين خانعين خائرين ، لا رأي ولا لون ولا طعم لهم .
وعلى الحكومة الائتلافية ومجلس النواب ؛ أن يعضوا بأسنانهم على دسترة السيسي بموجب نصوص دستور النوايا الحسنة ، ويؤكدوا على محدودية سلطاته في مواجهة سلطاتهم . 
ولئن كان الوفاء يحتم عليهم بأن يحفظوا للسيسي مكانته وهيبته حتى نهاية فترته تقديرا لوقوفه ضد الإخوان مع الشعب في ثورته . فإن هذا لا يمنع من التزامهم بنسف ما سبق وأعوج من سياساته وقراراته . وأولها، رفض التصديق على إتفاقية " تيران وصنافير " ،  وتخيير المملكة العربية السعودية للجوء إلى الجهات الدولية للمطالبة بما تراه حقا لشعبها وحكومتها وأرضها .
مات الرئيس سياسيا .. 
ولكن يمكن لمصر أن تحفظ المسافة بينها وبين مصيره . لو اعتنق مجلس نوابها حكمة خالدة مفادها أن : إكرام الميت سياسيا .. دفن سياساته . 
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com

02 أبريل 2016

نقول كمان .. حرية التعبير وفوبيا ازدراء الأديان

 د. محمد محفوظ يكتب : نقول كمان .. حرية التعبير وفوبيا ازدراء الأديان

لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتاً ولو كان معززاً بالقانون
المحكمة الدستورية العليا

يبدو انه لم يسلم أحد من فوبيا إزدراء الأديان . فقد اكتوى بها الكبار والأطفال . المسلمون والمسيحيون . الرجال والنساء . المفكرون والمبدعون . العلمانيون والأزهريون . 

بل وتبدو مواد الدستور في مواجهة النصوص القانونية التي تعاقب بالحبس على ازدراء الأديان مجرد حبر على ورق سوليفان . ويبدو مجلس النواب منشغلا عنها بناديه ولائحته وميزانيته وتوزيع لجانه ومكافآت أعضائه ، ولا يبالي بمن تحبسهم السجون خلف قضبانها بلا دليل من الدستور أو برهان .

ولذلك كان لزاما علينا أن نجتر البديهيات التي حسمها العالم المتقدم منذ زمن طويل . تلك البديهيات التي يؤدى غيابها إلى حتمية الصدام المتكرر مع المواد الفكرية أو الدرامية أو الأدبية أو الفنية أو الإعلامية التى تتضمن إساءة حقيقية أو مزعومة للأديان والرموز الدينية . مما أهدر الكثير من القدرة على استيعاب وفهم تلك المواد في إطارها الصحيح ومعناها الحقيقي ؛ وفتح الباب واسعاً لتكريس ممارسات التزمت والتشدد ومحاصرة الوعى ومحاكمة الضمائر والأفكار .

وتتمثل هذه البديهيات في ٥ تساؤلات ؛ ربما تؤدى الإجابة عليها إلى إزالة اللبس المطروح على الساحة ؛ إذ أن استمرار وجود هذه التساؤلات بلا إجابات فى ثقافتنا المعاصرة ؛ يمثل المقدمات التى يتم البناء عليها للوصول الى نتائج مغلوطة ؛ وعواقب كارثية ، وأجواء مورستانية  .

ولنستعرض معا هذه التساؤلات :

 السؤال الأول : هل حرية التعبير تُمنح للتعبير الإنساني ذاته ، أم إلى الأفراد ؟

 ويثور هذا التساؤل لأن مصطلح حرية التعبير يفتقر إلى الدقة الإصطلاحية ، نظراً لأن معناه المستقى من تركيبته اللغوية ، يجعل الذهن ينصرف إلى أن الحرية هنا تتعلق بالتعبير ذاته ، بينما هى تتعلق بالأفراد الذين يمارسون هذا التعبير . فالمادة التعبيرية تتكون من رموز تتشكل في صوت مسموع وصور مرئية أو مطبوعة ، إلى آخر الأشكال المتعددة لصياغة الرموز التعبيرية للإنسان . وبالتالي فهى مجرد رموز فاقدة للحياة ولا يمكن أن تتمتع بأي حرية ، وإنما تنصرف الحرية إلى الفرد ذاته ، الذي يتولى توليد هذه الرموز وصياغتها وتوصيلها للآخرين . 

وبالتالي يصبح التركيب اللغوي الصحيح للمصطلح هو : حرية الأفراد في التعبير . ونظراً لأن الأفراد مختلفين بحكم المنطق والواقع والضرورة ، فإن المجادلة بأن حريتهم في التعبير مصونة في كافة المجالات ، باستثناء الأمور الدينية ، هى مجادلة غير صحيحة . لأنها تتناسى بأن هناك بعض الأفراد غير المؤمنين بالأديان بصفة عامة أو ببعض الأديان بصفة خاصة ؛ أو الذين تختلف درجة إيمانهم عن درجة إيمان أقرانهم فى نفس الدين ؛ أو الذين ينتمون لمذهب يتعارض مع مذهب آخر فى ذات الدين ، وبالتالي سيتم الحجر على حق كل هؤلاء في الجهر بآرائهم اللادينية ، أو الدينية المعارضة ؛ لو تم استثناء القضايا الدينية من دائرة حرية الأفراد في التعبير .

 ولعل هذا يزيل اللبس ، ويوضح بأن عدم استبعاد الإساءة الفعلية أو المزعومة إلى الأديان أو إلى الرموز الدينية من دائرة حرية الأفراد فى التعبير ، هو أمر ينطلق من مبدأ هام ، مفاده : أن كافة الأفراد متساوين أمام القانون والدستور ، ولا يجوز حرمان أية طائفة من حق ممنوح بالضرورة لباقي الطوائف الأخرى . وبالتالي لا يمكن فتح الساحة للمؤمنين ـ أو لبعض المؤمنين ــ بمفردهم للتعبير عن توجهاتهم الدينية ، وإغلاقها أمام غير المؤمنين بالديانات عموماً أو غير المؤمنين بدين معين أو مذهب معين ؛ للتعبير عن توجهاتهم غير الدينية أو الدينية المعارضة . 

ولعل هذه هى البديهية الأولى الغائبة عن ثقافتنا المنغلقة المعاصرة .

 السؤال الثاني : هل حدود حرية الفرد في التعبير تتوقف عند حدود حرية الآخرين في التعبير ؟

يجادل الكثير من المتحدثين بأن حرية كل فرد تتوقف عند حدود حريات الآخرين . ولعل هذا صحيح ، و لكن – فقط – في مجال الحريات المادية التي تدخل في نطاق الأفعال . 
أما حرية التعبير فهى حرية رمزية - غير مادية - لأن مادتها الوحيدة تتمثل في الرموز . وهذا يوضح بأنه بينما يستحيل على الحرية المادية للفرد أن تتقاطع مع حريات الآخرين ، لأن هذا التقاطع سيؤدى بالضرورة إلى التصادم بحكم طبيعتها المادية ؛ إذ لا يمكن ــ مثلاً ــ الانطلاق بالسيارة في شارع مكتظ بالمشاة ، لأن هذا يعنى بالضرورة الاصطدام بهم . بينما الحريات الرمزية يمكن أن تتقاطع ؛ حيث يمكن للفرد المجاهرة بآراء تتعارض تماماً مع آراء البشر جميعاً ، وهذه الآراء لن تتصادم بحيث يدفع بعضها الآخر . فالنطاق الرمزي لحرية الأفراد في التعبير يجعل نطاقات ممارسة هذه الحرية لا تتدافع أو تتصادم ، لأنها تتشكل في دوائر رمزية يمكنها أن تتداخل وتتقاطع مع بعضها البعض . 
وبالتالي لا يمكن الاحتجاج بأن حرية الفرد في التعبير تقف عند حدود حرية الآخرين في التعبير ، لأن نطاق هذه الحرية هو نطاق رمزي غير محدود .

 ولهذا فإن عدم استبعاد الإساءة الحقيقية أو المزعومة إلى الأديان أو إلى الرموز الدينية من دائرة حرية الأفراد فى التعبير ، هو أمر ينطلق من مبدأ هام ، مفاده : أن الحريات الرمزية يمكنها أن تتقاطع وتتداخل ولا تتصادم مع بعضها البعض نظراً لطبيعتها الرمزية ، بخلاف الحريات المادية التي لا يمكنها أن تتقاطع أو تتداخل وإنما تتصادم بحكم طبيعتها المادية . و

ولعل هذه هى البديهية الثانية الغائبة عن ثقافتنا المأزومة المعاصرة .

 السؤال الثالث : هل من المشروع استخدام الفعل المادي للرد على التعبير الإنساني ؟

يقرر المنطق الفطري والقانوني بأن قيام أحد الأفراد برش آخر بالماء ، لا يبرر للآخر الرد عليه بإطلاق الرصاص ، وذلك رغم وقوع الفعلين في دائرة الأفعال المادية . و لعل ذلك يتحدد وفقاً لقاعدة هامة مفادها : أن رد الفعل يجب أن يتناسب مع الفعل ، وإلا أصبحت المبالغة في رد الفعل خروجاً عن المألوف . ولكن ما بالنا لو كان رد الفعل المادي بمثابة رد على التعبير الرمزي . لا شك بأن عدم التناسب يصبح صارخاً ، نظراً لاختلاف المجال المادي لرد الفعل عن المجال الرمزي للتعبير الإنساني . 

ولنا في آيات القران أسوة حسنة ، إذ يقول سبحانه في قرآن يُتلى على أسماعنا صباح مساء .. في قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . البقرة / ١٩٤ . بما يعنى قياساً أنه إذا كان العدوان الواقع رمزياً ولا يدخل في دائرة الأفعال المادية ، فإن الرد عليه ينبغي أن يظل محصوراً في دائرته الرمزية ، ولا يتطور إلى الأفعال المادية . وإلا أصبح هذا العدوان غير مبرر ، ولا يتناسب مع منطق الشرع والتوجيه الإلهي ، الذي وإن أباح الرد على العدوان بما يتناسب معه .. في قوله تعالى : والعين بالعين . المائدة / ٤٥ . فإنه أشار بالمثل إلى فضل العفو والغفران .. في قوله تعالى : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . آل عمران / ١٣٤ .. وفي قوله تعالى : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم . النور / ٢٢.

 وهكذا تتضح عدم مشروعية استخدام الفعل المادي للرد على التعبير الإنساني سواء من ناحية المنطق أو القانون أو الدين . وسواء تمثل هذا الرد المادي في استخدام العنف أو حتى استخدام الحق فى التقاضى الذى تنتج عنه عقوبات بدنية أو سالبة للحرية أو مالية أو أى أساليب مادية أخرى . إذ لا يفقد التعبير الرمزى الحماية التى ينبغى أن تكون مقررة له ؛ إلا إذا ترتبت عليه آثار مادية مباشرة ضارة بالأشخاص أوالممتلكات ؛ الأمر الذى يبيح التعامل معه بأساليب مادية نظراً لفقدانه لصفته الرمزية . 

ولعل هذه هى البديهية الثالثة التي تغيب عن ثقافتنا المتراجعة المعاصرة ، بما يجعلنا نخالف تعاليم ديننا من حيث ندعي الدفاع عنها .

 السؤال الرابع : هل الاستناد الى حرفية النصوص القانونية ؛ دون ربطها بنصوص الدستور أو بأحكام المحاكم العليا ؛ يمكن أن يكون مبرراً لمحاصرة حرية الأفراد فى التعبير؟

 والواقع أن الغابة التشريعية المصرية مسكونة بالعديد والعديد من الشراك والأفخاخ القانونية ؛ التى تجعل السجن أو الحبس هما العقوبة التلقائية فى مواجهة أى ممارسة لحرية التعبير تخرج عن نطاق العرف أو تتصادم مع المألوف أو تتعارض مع الفكر المحافظ أو تحمل أى نوع من التجديد . 

ولذلك فقد انتصر الدستور لحرية التعبير وأسبغ عليها حماية تحصن صاحبها من أي عقوبة سالبة للحرية ، وذلك بموجب المادة رقم ٦٧ التي تنص على الآتي : ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الفكري أو الأدبي . وبموجب المادة رقم ٧١ التي نصت على الآتي : ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أوالعلانية .
وللأسف فان هناك طائفة من رجال القضاء لا ينشغلون بالبحث الدستوري  والقانونى ؛ ويتغافلون عن التصدي للنصوص القانونية التي تحمل شبهة عدم الدستورية فلا يحيلونها للمحكمة الدستورية للفصل فيها . 
فضلا عن عدم متابعتهم لأحكام المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض والمحكمة الادارية العليا وقرارات النيابة العامة المصرية ؛ التى انتصرت فى دعاوى كثيرة لحرية الأفراد فى التعبير . 
تلك الأحكام والقرارات التى ينبغى التعامل معها باعتبارها مبادئ وتفسيرات دستورية وقواعد قانونية وسوابق قضائية ؛ ينبغى الاستناد إليها فى الانتصار لحرية الكلام والنقاش والإبداع والتفكير والاعتقاد ؛ وباعتبارها تمثل خلاصة تجربة مؤسسة العدالة فى مصر فى أزهى صورها .

واسمحوا لى أن أقدم لكم طائفة من نصوص أحكام المحكمة الدستورية العليا التي انتصرت لحرية التعبير ؛ والتى أعتقد بأن القضاة الذين مازالوا يصدروا أحكاما بالحبس في قضايا فوبيا ازدراء الأديان لم يقرأوها أو يعلموا أصلا عن وجودها . وبالتالى هم لا ينشغلون بالبحث عن الحكمة التى هى سند العدل عند التصدي للفصل في النزاعات بين الأفراد . 

وفيما يلى جواهر منتقاة من أحكام المحكمة الدستورية العليا فى عهد المرحوم المستشار الدكتور / عوض المر .

١- حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم ٣٧ لسنة ١١ قضائية دستورية بتاريخ ٢ فبراير ١٩٩٣ :
 ” إن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين عن ممارستها ،  وإن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن فى ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح …. إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتاً ولو كان معززاً بالقانون . ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل ، ولحرية الإبداع والأمل والخيال ، وهو فى كل حال يولّد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه بما يعزز الرغبة فى قمعها ، ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها ، مما يهدد فى النهاية أمن الوطن واستقراره “.

٢- حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم ٧٧ لسنة ١٩ قضائية دستورية بتاريخ  ٧ فبراير ١٩٩٨:
 ” وحيث أن المشرع وكلما تدخل بلا ضرورة لتقييد عرض آراء بذواتها بقصد طمسها أو التجهيل بها بالنظر إلى مضمونها ، كان ذلك إصماتاً مفروضاً بقوة القانون فى شأن موضوع محدد انتقاه المشرع انحيازاً ، مائلاً بالقيم التى تحتضنها حرية التعبير عن متطلباتها التى تكفل تدفق الآراء وانسيابها بغض النظر عن مصدرها أو محتواها ، … وإن الحمل على اعتناق بعض الآراء أو إقماع غيرها ، سوءتان تناقضان مفهوم حوار يقوم على عرض الأفكار وتبادلها والإقناع بها . كذلك فإن موضوعية الحوار شرطها شفافية العناصر التى يدور الجدل حولها ، بما يحول دون حجبها أو تشويهها أو تزييفها “.

٣- حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم ٣٧ لسنة ١١ قضائية دستورية بتاريخ ٢ فبراير ١٩٩٣ :
 ” إن الطبيعة البناءة للنقد لا تفيد لزوماً رصد كل عبارة احتواها مطبوع وتقييمها – منفصلة عن سياقها – بمقاييس صارمة . ذلك أن ما قد يراه إنسان صواباً فى جزئية بذاتها ، قد يكون الخطأ بعينه عند آخرين ، ولا شبهة فى أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيراً ما يلجأون إلى المغالاة ، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس فى المجال الذى لا يمكن أن تحيا بدونه ، فإن قدراً من التجاوز يتعين التسامح فيه ، ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط فى بعض الآراء مستوجباً إعاقة تداولها “.

والواقع أن مضمون هذه الأحكام يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ؛ بأن المحكمة الدستورية العليا تنظر إلى كافة القوانين التى تقيد حرية الأفراد فى التعبير باعتبارها قوانين غير دستورية ؛ فما بالنا وقد أصبح الدستور المصري يقيد العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية . ومن ثم كان ينبغى على أى قاضٍ يحترم مقعد العدالة الذى يجلس عليه ؛ أن يحيل أي دعوى تستند إلى نصوص قانونية تقيد حرية التعبير أو تعاقب صاحبها بالحبس إلى المحكمة الدستورية العليا لإبداء الرأى فيها ؛ قبل أن يلوث يديه بإصدار حكم يصادر به حرية الأفراد فى التعبير ويزج بهم خلف القضبان. 

 السؤال الخامس : وهو سؤال أتصور أن يُطرح في ظل النموذج الثقافي الفكري الإعلامي المتعصب المنغلق السائد ؛ وهو :

 هل كاتب المقال يؤيد إزدراء الأديان والرموز الدينية ؟

 والإجابة قولاً واحداً ؛ هي : إن كاتب المقال لا يؤيد الإساءة للأديان والرموز الدينية .

ولكن .. ما أهون الإساءة الرمزية التي يُتَّهَم بها البعض ، قياساً بالإساءة الفعلية والعملية التي يمارسها كل يوم أتباع الإسلام من المسلمين . 
ألا تتم الإساءة للإسلام بمظاهر الفوضى والإهمال والتسيب ، ألا تتم الإساءة للإسلام بتدني أخلاقيات معاملات المسلمين مع بعضهم بعض التي يحكمها الجشع والطمع والاجتراء على الأموال والأعراض وانعدام الضمير ، ألا تتم الإساءة للإسلام بمظاهر الخنوع وانعدام الكرامة والسلبية وخشية بأس السلطة أكثر من خشية الله تعالى ، ألا تتم الإساءة للإسلام باحتقار العلم والإيمان بالخرافات ، ألا تتم الإساءة للإسلام بتأييد القتل وسفك دماء الأبرياء تحت راية : لا إله إلا الله محمد رسول الله .

لهذا .. على كل الغاضبين من الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية بصفة عامة ، أو  الإساءة للإسلام والرموز الإسلامية بصفة خاصة ، أن يوجهوا غضبهم المادي إلى الإساءة المادية ؛ وليس الإساءة الرمزية الفعلية أو المزعومة ، وليحاسبوا أنفسهم على أفعالهم المسيئة للإسلام قبل أن يحاسبوا الآخرين على أقوالهم . مصداقا لقوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون . البقرة – ٤٤ ، وقوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً . الكهف - ١٠٣ / ١٠٤ 

 وأخيراً ، فإن عدم استبعاد الإساءة الفعلية أو المزعومة إلى الأديان أو إلى الرموز الدينية من دائرة حرية التعبير ؛ هو أمر نضطر للقبول به على مضض ؛ من أجل غاية سامية ، وهى : حماية حرية الإنسان في التعبير ، تلك الحرية التي يؤدى ترسخها في أي مجتمع إلى تداول الأفكار وتربية الناس على احترام قيم الاختيار والحوار والنقاش . ومن ثم تتقدم المجتمعات بأفكار كل أبناءها ؛ ويقوم الناس بدورهم في إصلاح الأرض وتعميرها .

أما الذين يمارسون الإساءة الفعلية والعملية إلى الأديان ، من خلال عدم الالتزام بجوهر تعاليمها ، فما هى الغاية السامية التي تقف وراء أفعالهم اللهم إلا غياب الإيمان .. مصداقا لقوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم . الحجرات – ١٤.

وتأكيداً على ما سبق .. فإن كاتب المقال لا يؤيد الإساءة للأديان ورموزها بصفة عامة أو الإسلام ورموزه بصفة خاصة ، ولكنه مضطر إلى التعايش معها على مضض ، في سبيل احترام حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن ذلك الاعتقاد ؛ التي نص عليها القرآن الكريم .. في قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . يونس – ٩٩ . وهذا التعايش على مضض مع هذه الإساءة ، لا يمنع من الرد عليها بنفس أدواتها الرمزية من خلال الحوار والنقاش والتفنيد ، بحيث يظل الرد في نطاقه الرمزي ، ولا يتطور إلى المجال المادي .. مصداقا لقوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر . الغاشية /٢١-٢٢ 

 .. كانت هذه بعض من البديهيات المفقودة في ثقافتنا المنغلقة المأزومة المتراجعة المعاصرة ، التي جعلت الكثيرين منا مرضى بفوبيا ازدراء الأديان أو الأوطان او حتى كل صاحب نفوذ أو سلطان . بحيث أصبح لزاما علينا في دولة تشبه المورستان ، أن نوظف لكل قلم أو لسان جلاد أو سجان . وبينما تتصالح الدولة مع سارقي وناهبي المال العام ، فإنها لا تتسامح مع حاملي رايات الفكر والرأي وأصحاب الرؤى والأحلام . 

.. يادولة البؤس والغم والهوان .. تنحط الأمم عندما يخشى أصحاب العقول فيها من الكلام .. مجرد الكلام .
 *****
 dr.mmahfouz64@gmail.com