15 سبتمبر 2013

استدعاء الأشباح لمقاومة التغيير

 استدعاء الأشباح لمقاومة التغيير

              دكتور / محمد محفوظ 

نشر : نوفمبر 2008

( الهيمنة – الأطماع الخارجية – السيطرة على ثروات الأمة – التبعية للخارج – التدخل الخارجى – الهجمة الاستعمارية – الاستعمار الجديد – الإمبراطورية الأمريكية – الحرب على الإسلام والمسلمين – تحقيق التفوق لدولة إسرائيل ..... إلخ ) .

هذه هى الأشباح الجديدة القديمة التى تروج لها بدون كلل ثلاثة اتجاهات سياسية متباينة ومتعارضة ومتصادمة ومتقاتلة , و لكن العجيب أنها تتضامن مع بعضها البعض فى استدعائها لهذه الأشباح , انطلاقا من اتفاقها جميعا فى شيء واحد فقط هو : العداء للحرية والديمقراطية .
وهذه الاتجاهات هى  :
-       أبواق و أقلام وأتباع نظم الحكم القائمة فى المنطقة العربية .
-       الأصوليون الإسلاميون .
-       اليساريون (  القوميون العرب  –  الناصريون  ) .

وللأسف فان كراهية هذه الاتجاهات للحرية والديمقراطية تؤكدها وقائع التاريخ ومجريات الحاضر ,  وهذه النتيجة تتأسس على مبدأ هام ينص على أن ( أفضل أسلوب للحكم على أى اتجاه سياسى يتمثل فى معاينة النتائج التى أسفرت عنها سياسات هذا الاتجاه عندما تم تطبيقها  على  أرض الواقع ) .
وعند تطبيق هذا المبدأ على حصيلة ممارسات هذه الاتجاهات الثلاثة عند توليها لمقاليد الحكم فى أى بلد , فإننا سنجد بالفعل أن هذه الاتجاهات معادية للحرية ومناوئة للديمقراطية .
فالوقائع الراهنة والتاريخية تؤكد بأن هذه الاتجاهات الثلاثة أذاقت الشعوب التى شاء لها حظها العاثر أن تقع تحت قبضة حكمها الذل والمهانة والقهر والاستبداد , بالإضافة إلى تبديدها  لثروات هذه الشعوب إما فى مغامرات عنترية غير محسوبة لمعاداة القوى الكبرى , أو فى تمكينها اللصوص والمرتزقة من نهب المال العام .

وإذا بدأنا بنظم الحكم الراهنة القائمة فى المنطقة , فان الأمر لن يحتاج إلى كتابة أية كلمات لتوضيح النتائج التى ترتبت على استئثار هذه النظم بالسلطة وتخريبها للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية والعلمية  ... إلخ . و ذلك لأن أرض الواقع المعاش تصرخ بما هو أبلغ من كل الكلمات التى يمكن أن تعجز عن وصف هذا الواقع الكئيب المعادى للحرية والديمقراطية .
أما الاتجاه اليسارى ( القومى أو الناصرى ) فان نظام ناصر 67 الذى أضاع فى 6 ساعات أراضى من 4 دول عربية , ونظام الأسد 73 الذى عجز فى ظل زلزال نصر أكتوبر عن تحرير رقعة محدودة من الأرض ( مرتفعات الجولان ) ولم يجرؤ على تنظيم أى مقاومة مسلحة بداخلها أو تسريب المقاتلين من حدوده إلى حدود هذه الرقعة المحتلة , بينما يتغاضى عن ضبط الحدود مع العراق لتمكين عناصــــــر الإرهاب من اختراقها لتخريب التجربة الديمقراطية الوليدة هناك . ونظام القذافى الذى بدد الثروة البترولية الليبية فى مغامرات إرهابية ويسدد الآن أضعافها لدفع تعويضات لضحايا هذه المغامرات . ونظام صدام الدموى الذى أحال العراق إلى معتقل كبير يسكنه الخوف والطغيان والقتل الجماعى والتنكيل وابتزاز دول الجوار .... إن كافة هذه النظم القومية المزعومة لا تمتلك أية إنجازات للحرية والديمقراطية على أرض الواقع المعاش , إلا حرية الفوضى والدمار والاستبداد والقهر والتصادم مع العالم أجمع من أجل شعارات رنانة صارخة يكذبها كل شئ على الأرض .
أما الاتجاه الأصولى فنتائج حكمه بدءاً من الدولة الإسلامية القديمة ( الدولة الأموية – العباسية – العثمانية ) وصولا الى حكم آيات الله فى إيران وحكم الإسلاميين فى السودان وحكم طالبان فى أفغانستان .. توضح بأن الحياة فى ظل نظم الحكم الحالية أو نظم الحكم القومية هى بمثابة جنة سماوية قياسا بجحيم التعصب الدينى وفتاوى الحاكمين بأمر الله التى لا تقبل الجدل أو الاستئناف أو النقض , فاتهامات الكفر والزندقة والخروج على صحيح الدين وإجماع الأمة وولى الأمر , كلها اتهامات نهائية تبيح القتل مباشرة , وكل ذلك تحت اسم الشريعة الغراء والحكم بما أنزل الله .

وبالتالى ..  ينبغى علينا فى ضوء النتائج التى يصرخ بها أرض الواقع أو حقائق التاريخ , أن نرفض كمواطنين نمتلك الوعى السياسى والحس الوطنى تسليم عقولنا للخديعة مرة أخرى , لكى يتبول بداخلها المستبدون الطغاة أعداء الحرية والديمقراطية , فليس مكتوبا علينا أن نظل فى غفلة مدى الحياة , وبالتالى نوفر الفرصة تلو الأخرى لأسوأ من فينا لكى يستغفلوننا ويحكموننا بالحديد والنار .
ينبغى علينا جميعا كمواطنين نعشق الحرية , أن ننقل رسالة واضحة للمستبدين , بأن استدعاء أشباح التدخل الخارجى المزعوم  لم تعد تهز  فينا  شــــــــــعرة , فى ظل حقائق التاريخ التى توضح لنا بأن الديمقراطية اليابانية والألمانية نشأتا نتيجة التدخل الخارجى , ورغم ذلك أصبحت الدولتان من أكبر القوى الاقتصادية فى العالم , ولم تنهب الإمبريالية المزعومة أو الاستعمار الوهمى ثرواتهم ولا يحزنون .
 ولا تحدثوننا عن دعم أمريكا أو الغرب لنظم حكمنا الاستبدادية فى الماضى القريب , لأننا نعلم أن ظروف الحرب الباردة فرضت على المعسكر الغربى التعاون ولو مع الشيطان من أجل تدمير إمبراطورية الطغيان الســـــــــوفيتية , وبالتالى فما تروجون له أصبح خدعة قديمة لن نشربها كما شربنا غيرها بالماضى .

أيها الدجالون .. تحضير الأشباح والعفاريت لمقاومة وإجهاض التغيير لم يعد يخيل علينا أو يرهبنا أو يخدعنا . وإذا كان ( اللى بيخاف من العفريت بيـــــــــــطلع له ) , فإننا نقول لكم بأن الشعوب العربية بلغت سن الرشد السياسى , وينبغى عليها كى يحترمها العالم ألا تخاف من أشــــــــباحكم وعفاريتكم بعد اليوم .

*****
                                                        دكتور / محمد محفوظ


  

حسابات النصر و الهزيمة فى الحرب الإسرائيلية اللبنانية

حسابات النصر و الهزيمة فى الحرب الإسرائيلية اللبنانية

                                  دكتور / محمد محفوظ

نشر : أغسطس 2006

لا تنكشف نتائج الحروب إلا بنهايتها .. ولا يمكن التعرف على هذه النتائج  إلا من خلال استخدام المنهج المقارن لمقارنة الوضع القائم قبل الحرب بالوضع الجديد الناشئ بعدها . إذ إن الحرب ليست مشاجرة صبيانية تتحدد نتائجها بناءاً على قدرة أحد الأطرف على إغاظة الطرف الآخر أو استفزازه أو تمزيق ملابسه  .
 وبالتالى .. وحتى يمكن تقييم حسابات النصر وحسابات الهزيمة فى الحرب الإسرائيلية اللبنانية , فإنه لا بد من تطبيق هذا ( المنهج المقارن ) على ضوء ( القاعدة المعيارية ) التى توضح بأن : ( المنتصر هو الذى يصبح وضعه بعد الحرب أفضل من قبلها , والمهزوم هو الذى يصبح وضعه بعد الحرب أسوأ من قبلها ) .
ومن خلال استخدام ذلك المنهج و تطبيق تلك القاعدة المعيارية - على الأوضاع قبل الحرب و الأوضاع بعدها - يمكن أن نقرر بأسلوب علمى  أى الطرفين يقف فى خانة النصر وأيهما يقبع فى خانة الهزيمة .
فما هى إذن الأوضاع التى كانت قائمة ومستقرة قبل الحرب لكل طرف من الطرفين ؟؟

الأوضاع القائمة قبل الحرب بالنسبة لحزب الله :
-   الانتشار العسكرى فى مناطق الجنوب اللبنانى حتى الحدود اللبنانية الإسرائيلية ( الخط الأزرق ).
-      الدعم التمويلى و التسليحى من إيران و سوريا .
-      القدرات التسليحية المتمثلة فى الصواريخ التكتيكية القادرة على الوصول إلى شمال إسرائيل .
-   النفوذ الاجتماعى بمناطق الجنوب اللبنانى من خلال انتشار المؤسسات الاجتماعية والخيرية ( الصحية والتعليمية والإعلامية والتثقيفية والدينية ) .
-   التأييد الشعبى فى الداخل اللبنانى الناشئ عن الاحتفاء الدائم بحزب الله باعتباره (على حد قول اللبنانيين ) صاحب الفضل فى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان حتى تمام الانسحاب عام 2000 .
-   المناورة السياسية المتمثلة فى إمكانية استثمار النتائج العسكرية لتحقيق مكاسب سياسية ( مثل عمليات تبادل الأسرى بين حزب الله و الجانب الإسرائيلي ) .

الأوضاع القائمة قبل الحرب بالنسبة لإسرائيل :
-   احتلال مزارع شبعا , و عدم التواجد العسكرى بباقى مناطق الجنوب اللبنانى بسبب الانسحاب عام 2000 .
-   التوجس من القدرات الصاروخية لحزب الله والتى يمكن أن تصل إلى مدن شمال إسرائيل .
-      التفوق العسكرى الإسرائيلي جوياً وبحرياً وبرياً .
-      ضعف الدعم الأوربي للسياسات الإسرائيلية بمنطقة الشرق الأوسط .

كانت هذه إذن الأوضاع القائمة قبل الحرب بالنسبة للطرفين , ولكن بوقوع الحرب واستمرارها لمدة شهر وصدور قرار مجلس الأمن رقم 1701 , فإن ثمة أوضاعاً جديدة ستنشأ  لترسم مجموعة من التحولات تعزز من حسابات النصر أو  تفضح حسابات الهزيمة . فما هى إذن الأوضاع الجديدة التى ترتبت على هذه الحرب ؟؟؟

الأوضاع الناشئة بعد الحرب بالنسبة لحزب الله :
      -  عدم تحرير مزارع شبعا .
-   انتشار الجيش اللبنانى و قوات الطوارئ الدولية فى جنوب لبنان حتى الحدود مع إسرائيل وسوريا .
-   فرض طوق من الحصار على الدعم التسليحى المتسرب لحزب الله من سوريا وإيران أو أية أطراف أخرى واقتصار التسليح على الجيش اللبنانى .
-   تدمير نسبة كبيرة من القدرات الصاروخية لحزب الله خلال القصف الجوى الإسرائيلي والتوغلات البرية .
-   صياغة رسالة شديدة الوضوح من إسرائيل إلى حزب الله مفادها بأن الرعب الصاروخى وإن أدى إلى تعطيل الحياة فى إسرائيل , فإنه أدي إلى تدمير البنية التحتية للحياة المدنية فى لبنان , وبالتالى فإن هذا الثمن الفادح يمسخ شعار توازن الرعب لكى يتحول إلى تفاوت الرعب .
-   تدمير البنية المؤسسية لحزب الله فى المجتمع اللبنانى من خلال قصف معظم المقرات والمؤسسات الاجتماعية والخيرية والصحية والاجتماعية .. إلخ .
-   موت المناورة السياسية بالسكتة العسكرية , والتى تمثلت فى القراءة السياسية الخاطئة لحدود الرد الاسرائيلى على عملية خطف الأسرى الإسرائيليين , وبدلا  من جنى ثمار هذه العملية لتحقيق نتائج سياسية كالمرات السابقة , فقد أدت النتائج العسكرية إلى نتائج عسكرية مضادة وكارثية .
-      اتساع التأييد الجماهيرى لحزب الله ليمتد من الداخل اللبنانى إلى الخارج العربى والإسلامي.

الأوضاع الناشئة  بعد الحرب بالنسبة لإسرائيل :
-   استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا , وإعادة احتلال الجيش الإسرائيلي لمناطق من جنوب لبنان . ولعل المفارقة هنا تتمثل فى أن المقاومة التى يتم التعامل معها باعتبارها أخرجت إسرائيل من الجنوب عام 2000  , هى نفسها التى أعادت الاحتلال مرة أخرى .
-   استمرار التفوق العسكرى الجوى والبحرى لإسرائيل , وتراجع التفوق العسكرى البرى فى مواجهة القوات غير النظامية لحزب الله التى تمارس أساليب حرب العصابات .
-   إحراج قوى السلام فى إسرائيل وقوى اليمين المعتدل , وإتاحة الفرصة لصعود حجج المتشددين و قوى اليمين المتطرف الرافضة للإنسحابات الأحادية الجانب للقوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة والتى ما إن تخرج منها إسرائيل حتى يسيطر عليها المتشددون الإسلاميون ( حماس فى غزة و حزب الله فى جنوب لبنان ) .
-      تراجع سمعة الجيش الإسرائيلي انطلاقاً من مأزقه فى مواجهة قوات غير نظامية .
-   تصاعد الدعم الأوربي للسياسات الإسرائيلية فى مواجهة حزب الله , مما انعكس على المقررات التى نص عليها القرار 1701 وتوافقها مع معظم الأهداف الإسرائيلية من الحرب مع حزب الله.

وبناءاً على ما سبق .. فإن مقارنة أوضاع ما قبل الحرب بالأوضاع الجديدة الناشئة بعدها - على ضوء القاعدة المعيارية السابق توضيحها – ستوضح بأنه  إذا كان معظم ما  أرادته إسرائيل قبل الحرب قد تحقق بعدها , وإذا  كان معظم ما رفضه حزب الله قبل الحرب قد وافق عليه أو اضطر إلى الموافقة عليه بعدها . فإن إسرائيل بهذا المعنى تكون قد انتصرت مادياً و لكنها انهزمت معنوياً , فى حين أن حزب الله قد انهزم مادياً  ولكنه انتصر معنوياً .

فلقد انتصرت إسرائيل مادياً لأنها ما زالت تحتل مزارع شبعا وأصبحت تحتل مناطق من الجنوب اللبنانى ودمرت المؤسسات الاجتماعية لحزب الله و نسبة كبيرة من قدراته الصاروخية و العسكرية . وأجبرت الدولة اللبنانية على استخدام ورقة الجيش اللبنانى ونشره فى الجنوب معززاً بقوات الطوارئ الدولية لإضعاف سيطرة حزب الله . ولعل ما حققته إسرائيل سياسياً بالقرار 1701 كان بسبب التدخل العسكرى وبعده ومترتباً عليه . وبالتالى أكملت النتائج السياسة العملية العسكرية كما فعلت مصر فى حرب أكتوبر عام 1973 , عندما أكمل السادات الهجوم العسكرى بالمبادرة السياسية فاكتمل بذلك النصر العسكرى . إذ إن السياسة دائماً هى الأصل والحرب ما هى إلا حلقة من العنف داخل سلسلة العملية السياسية الدبلوماسية .
ولكن إسرائيل انهزمت معنوياً لأن سمعة جيشها وسطوة نفوذه قد ضُربت فى الصميم عندما لم يحقق الهدفين الكبيرين عسكرياً وهما الإفراج عن الجنديين الأسيرين ووقف إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل . ولعل أى خبير عسكرى يستطيع أن يتفهم بأن القادة العسكريين الإسرائيليين لم يكونوا بالسذاجة التى يتوقعون من خلالها إمكانية تحقيق هذين الهدفين عسكرياً  , ولكنهم اعتقدوا أنه من خلال شدة وطأة القصف على لبنان - نتيجة تداخل المقاومة بمؤسساتها فى بنية المجتمع المدنى اللبنانى – فإن حزب الله سيرضخ ويوقف إطلاق الصواريخ ويفرج عن الأسيرين من أجل حماية المدنيين اللبنانيين . ولعل تقدير إسرائيل هنا للحسابات الإنسانية للحركات الإسلامية المسلحة كان خاطئاً , مما أدى إلى هزيمتها المعنوية  . ولكن هذه الهزيمة ما هى إلا هزيمة مؤقتة تتعلق بمرحلة عسكرية انتقالية تمر بها كافة الجيوش النظامية فى الوقت الراهن , وتتمثل فى أن التكنولوجيا العسكرية الراهنة تعجز عن إلحاق الهزيمة الساحقة بأية قوات غير نظامية . ويؤكد ذلك مأزق الجيش الأمريكي فى مواجهاته مع الجماعات المسلحة فى العراق ومن قبله الجيش السوفيتى فى أفغانستان . وهذا يوضح بأن الكرة الآن أصبحت فى ملعب مراكز أبحاث التكنولوجيا العسكرية التى ستعكف على ابتكار تكنولوجيا جديدة يمكنها إلحاق الهزيمة الساحقة بأية قوة غير نظامية بأقل الخسائر الممكنة . ولعل العقد القادم لن يمر قبل ظهور هذه التكنولوجيا فى ظل الاستنفار العالمى لمواجهة المنظمات الإرهابية  .
أما حزب الله .. فقد انهزم مادياً لأن إسرائيل مازالت تحتل مزارع شبعا بل وزادت عليها بمناطق من جنوب لبنان . ولأن الجيش اللبنانى بدأ انتشاره فى مناطق الجنوب معززاً بقوات الطوارئ الدولية الأمر الذى سينتقص بلا شك من انفراد حزب الله بالسيطرة على هذه المناطق . ولا شك بأن الدولة اللبنانية ستعد برنامجاً طموحاً لإعادة إعمار مناطق الجنوب لكى تقلص من النفوذ الاجتماعى لحزب الله وتفوت عليه الفرصة للانفراد بإعادة الإعمار .
كما انهزم حزب الله مادياً لأنه كان السبب فى تدمير البنية التحتية للدولة اللبنانية وإحراجها وإظهارها بمظهر الدولة ناقصة السيادة , بل وأدت الحرب إلى أن يظهر الجندى الإسرائيلي وهو  يموت دفاعاً عن شعبه , بينما كان الشعب اللبنانى يموت بسبب اندماج المظاهر العسكرية للمقاومة داخل البنية المدنية اللبنانية .
ولكن فى المقابل فقد انتصر حزب الله معنوياً , لأن دائرة مؤيديه اتسعت لتشمل الجماهير العربية والإسلامية . و لكنه نصر مؤقت فرضته حالة المراهقة السياسية التى تعيشها الجماهير العربية , تلك الحالة الناتجة عن أساليب التضليل الإعلامي التى مارستها لسنوات وسنوات  المؤسسات الإعلامية العربية التابعة لأنظمة الحكم الاستبدادية , مما أدى إلى تشويه البنية الفكرية لدى الجماهير . فالاستبداد لا يشوه فقط البنية السياسية والاقتصادية والتركيبة الاجتماعية , وإنما يشوه أيضاً البنية الفكرية لدى الجماهير ويشوه الصور فى رؤوسها , ويجعلها  تتخذ مواقفها السياسية وفقاً لمحددات عاطفية تتغذى بمشاعر التعصب و الكراهية , وهكذا تتورط هذه الجماهير دائماً لكى ترفع على أعناقها أسوأ أبناءها  .
وبالتالى فإن الجماهير العربية ستكتوى بنيران زعمائها المقاومين الجدد , كما اكتوت بنيران قادتها المستبدين الراحلين أو الجاثمين . ولعل هذه الجماهير فى مراهقتها السياسية تشبه المراهق الذى أحب فتاة ساقطة ولم يعرف حقيقتها لقلة خبرته بأمور النساء , وعندما هجرته فجأة لتذهب لغيره , انكسر قلبه وظل الجرح متوارياً داخله , حتى مرت الأعوام وأصبح عقله أكثر نضجاً  فتخلص من ذلك الجرح وعرف حقيقة الفتاة التى أحبها , وإذا به يتعجب من حبه لها فى يوم من الأيام , ويتساءل دائماً : كيف أحببت يوماً ما هذه الساقطة ؟!!
ولعل أحفاد الجماهير الألمانية التى عاصرت هتلر وهللت له عندما غزا أوربا وشن حرباً على العالم , يتساءلون اليوم نفس السؤال : كيف أيد أجدادنا هذا الدكتاتور المهووس ؟!!  و لعل أحفاد الجماهير العربية فى المستقبل البعيد سيتساءلون السؤال ذاته : كيف أيد أجدادنا يوماً ما هؤلاء المتشددين الفاشلين صُناع الموت والدمار والانتصارات الوهمية ؟!!

*****

دكتور / محمد محفوظ 

العولمة ؛ المسيرة البشرية لإدراك المشتركات الإنسانية

العولمة ( المسيرة البشرية لإدراك المشتركات الإنسانية )

                          ( قراءة ضد التيار )                   

دكتور محمد محفوظ

 نشر : سبتمبر 2008

يتيح تحليل مضمون أدبيات العولمة التعرف على المظاهر المرتبطة بها والناشئة عنها والكاشفة عن آثارها المادية التى تعكسها على كافة الأصعدة والمجالات. ففى الأدبيات المؤيدة أو الناقدة للعولمة ثمة عبارات تتكرر بانتظام لتكشف عن المظاهر المرتبطة بكافة عمليات العولمة فى أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية ( الإعلامية ).
          وتتوارد هذه المضامين الدالة على مظاهر العولمة فى العبارات التالية:
توحيد - توحد - انقسام - تفتت - تفرق - تنوع - تفكك - مشاركة - شمول - اندماج - تكامل - تركز - تكتل - تراكم - تنميط – تشظي - تجانس - تماثل - اعتماد متبادل - تشابك - تفاعل - تقارب - تعاون - انتشار - تشابه - تذويب - ترابط - تداخل - تعددية - لامركزية - فردية - تآكل - تخصص – مركزية -  تحول - زوال - تسارع - سيولة - انفتاح - اختراق - تغيُّر - توسع - انحسار - توازن - انكماش - عدم ارتداد - ضغط الزمان - لا مكان - اختزال.... إلخ.
          ولعل التحليل اللغوى لمعانى تلك العبارات يوضح مدى التناقض المتولد عن تلك العبارات المتعاكسة والمتضادة والمتفارقة فى دلالتها ومضمونها وتأثيرها. فالعولمة بذلك فى أوضح مظاهرها تعبِّر عن مجموعة متناقضات يعجز المنطق البسيط عن جمعها معاً فى بوتقة واحدة. إذ كيف تتلاقى المتناقضات لكى تُشكِّل - فى مجملها - بناءاً متكاملاً متماسك الأركان لا يفتقر إلى الصلابة والقوة.
          من هنا تنبع أهمية التعامل مع العولمة باعتبارها عملية مركبة مزدوجة ومتعارضة , يتجاذب فيها منطق التوحيد مع آليات الانقسام , ويعمل الميل إلى الائتلاف والتجانس مع الميل إلى الاختلاف والتنافر. وهذا شأن كل اجتماع بشرى وكل تجمع حضارى أو فضاء ثقافى . و ذلك كما يقرر الكاتب  :على حرب فى كتابه المتميز ( حديث النهايات .. فتوحات العولمة ومآزق الهوية ) .
          فالعولمة إذن - كعملية مركبة - تتشكل وتتمظهر فى إطار ما يمكن أن نطلق عليه « إستراتيجية التوحد والتكتل والاندماج » و « تكتيكات التشظى والتجزؤ والانقسام ».
          ولعل هذه الحقيقة الملازمة لمظاهر العولمة لا تعبِّر عن تناقض داخلى، بل هى تعبِّر عن منطق الأمور  والأشياء فى طبيعتها الفطرية، فالكل يتركب من الأجزاء، والأجزاء تتفرع من الكل.
          وبالتالى فإن العولمة توحِّد الأطر فى إطار واحد، بينما تقسِّم المضامين. تختصر المرجعيات، بينما تتفرع فى الوسائل والأساليب.
ولهذا فإن الحديث عن مظاهر التوحد والتكتل والاندماج فى العولمة، لا يمكن فصله عن مظاهر التشظى والتجزؤ والانقسام . فكل مظهر منهما متلازم مع الآخر ، بحيث يمكن التقرير أن أعم مظاهر العولمة يمكن صياغتها فى التعبير التالى : التوحد الملازم للانقسام، أو التكتل الملازم للتجزؤ، أو الاندماج الملازم للتشظى.. وهكذا.
وهذه المظاهر المادية للعولمة التى يترافق فيها التوحد و التكتل و الاندماج مع التشظى و التجزؤ و الانقسام, ما هى إلا انعكاسا لطبيعة كامنة فى العولمة ترتبط بتخلقها و نشأتها . فالعولمة تحمل فى داخلها مظاهر تخلقها ونشأتها المتمثلة فى قدرتها على التركيب و التفكيك . فهى عملية مستمرة.. تؤدى إلى تركيب الأجزاء المتعددة فى كل واحد من خلال إستراتيجيتها للتوحد والتكتل والاندماج.. وتفكيك الكل إلى أجزائه المتعددة من خلال تكتيكاتها للتشظى والتجزؤ والانقسام. ولعل تعاملنامع العولمة بهذا الفهم سيقودنا إلى اكتشاف أن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم الذى يعيش فيه، وإدراكه للمشتركات الإنسانية ( المادية والمعنوية ) فى هذا العالم. وتلك المرحلة المتقدمة سبقتها مراحل متعددة، مارست فيها الأجيال البشرية المتتابعة عملية تركيب وتفكيك لكل من : الطبيعة من حولها، والوعى داخلها، فى محاولة لبناء الإدراك والتبصر والفهم والمعرفة على المستويين المادى و المعنوى.
والمقصود بتعبير " المشتركات الإنسانية " - فى هذا الإطار - المفاهيم الرمزية والهياكل المادية التى تتفق عليها الجماعة البشرية، رغم اختلاف الجغرافيا والتاريخ ، واختلاف الثقافات والحضارات والهويات .. بحيث تصبح هذه المفاهيم الرمزية وتلك الهياكل المادية بمثابة عاملاً « مشتركاً » يلتف حوله كافة البشر، انطلاقاً من انتمائهم جميعاً للجماعة الإنسانية . فالمشترك الإنسانى بهذا المعنى.. بمثابة محور رمزى و مادى تأتلف حوله الجماعة الإنسانية رمزياً أو مادياً، رغم اختلاف التاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة والهوية.
وسنعرض فيما يلى لهذه المشتركات الإنسانية الناشئة عن التركيب و التفكيك للتدليل على الخلفية الفكرية والتاريخية التى انطلقت منها العولمة والتى تعطى الشرعية للفهم الذى يتعامل معها باعتبارها مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم من حوله .
أولاً: المشترك الإنسانى المـادى:
(1) التفكيـك:
          لقد تطور الوعى الإنسانى خلال الحقب المتتالية التى مرت بها البشرية، من الوعى الفطرى، إلى الوعى البسيط، ثم الوعى المركب، وصولاً إلى الوعى الفائق . وترافقت تلك المراحل المتتابعة لتطور الوعى مع العصور البشرية المتتالية المعبِّرة عن النشاط الإنسانى. بدءاً من عصور الصيد، فعصور الزارعة، ثم عصور الصناعة، وصولاً إلى عصرنا الحالى ( عصر ما بعد الصناعة ) أو عصر المعلومات.
          ولقد كان الوعى الفطرى الذى نشأ عن الملاحظة هو الوعى الذى قاد الإنسان إلى ملاحظة البيئة الطبيعية من حوله, بحيث كان تحركه خلالها بمثابة رد فعل لحركتها هى. و بالتالى كانت انتقالاته خلال هذه البيئة - خلف قطعان الصيد ونحو المناطق النباتية ومسارات الأنهار - من أجل توفير حاجته الغذائية من اللحوم والثمار والمياه. وهذا يوضح بأن هذا الوعى الفطرى قاد الإنسان نحو الانفعال الفطرى بكل ما هو متحرك ونامٍ، فكانت حركته فى البيئة الطبيعية بمثابة رد فعل فطرى من جراء ملاحظة الحركة والنمو، الأمر الذى أدى إلى أن تصبح تلك العصور هى عصور الصيد والتقاط الثمار والترحال.
          ثم كانت المرحلة التالية التى ارتقى فيها الوعى الإنسانى من الوعى الفطرى إلى الوعى البسيط . فمن خلال تطور الملاحظة , تمكن الإنسان من التحكم فى البيئة من حوله، بحيث تنفعل هى من جراء تدخلاته فيها. حيث سيطر الإنسان على البيئة النباتية من خلال اكتشاف الزراعة، ومن خلال التحكم فى مصادر المياه بشق الترع و القنوات للأراضى الزراعية والاستقرار حول مصبات وفروع الأنهار.. كما تمكن من التحكم فى البيئة الحيوانية من خلال استئناس الحيوانات الأليفة والداجنة وحيوانات المراعى. و بالتالى قادت مرحلة الوعى البسيط الإنسان نحو التحكم فى حركة ونمو البيئة الطبيعية المتحركة والنامية من حوله. أى التحكم فى كل ما هو نامٍ ومتحرك. وبالتالى كانت تلك العصور هى عصور الزراعة وتربية الحيوانات والاستقرار.
          ولقد كانت مرحلة الانتقال من الوعى البسيط إلى الوعى المركب بمثابة تحول فى الوعى الإنسانى الذى ازداد تعقيداً. حيث تطورت ملاحظة الإنسان للبيئة الطبيعية، وامتدت إلى ما هو ثابت وغير نامٍ من عناصر الطبيعة الصلبة والسائلة والغازية، ومحاولة التعامل معها بالاستخراج والصهر والتشكيل والتركيب. بحيث أكسب الإنسان - بوعيه المركب - تلك العناصر الجامدة الثابتة غير النامية، القدرة على الحركة الميكانيكية. لقد كان الوعى المركب الذى قاد الانسان إلى التصنيع بمثابة نقلة نوعية هامة مكنت الإنسان من التحكم فى كل ما هو جامد وثابت وغير نامٍ، مثلما سبق له السيطرة على كل ما هو متحرك ونامٍ. وبالتالى كانت تلك العصور هى عصور الصناعة وابتكار الأجهزة والماكينات ووسائل الانتقال.
          ولكن عندما تطور وعى الإنسان من الوعى المركب إلى الوعى الفائق، كانت تلك مرحلة جديدة تمثل تعاظماً كبيراً فى تعقُّد ذلك الوعى. حيث تطورت ملاحظة الإنسان للبيئة الطبيعية، وامتدت إلى ما هو مخفى فيها وغير ظاهر وغير مُدْرَك بالحواس الطبيعية. وأسفر هذا عن اكتشاف التركيب الخلوى للكائنات الحية النباتية والحيوانية والإنسانية، والتركيب الذرى للعناصر ( الصلبة والسائلة والغازية ) , واكتشاف الكائنات الميكروبية ( الفطريات - البكتيريا - الفيروسات )... لقد كانت مرحلة الوعى الفائق سبيلاً إلى رفع الحجاب عن إدراك الإنسان من خلال ابتكاره لوسائل مساعدة شكلت امتداداً فائقاً لإدراكه وحواسه، بل وتطور الأمر إلى إضافة امتدادات عظيمة لقدراته العقلية أيضا , من خلال استغلال الخواص الخفية للظواهر الطبيعية كالإلكترونات والكهرومغناطيسية لنقل الاتصالات والمعلومات وتخزينها وتحليلها باستخدام الحاسبات الآلية. وبالتالى أصبح العصر الحالى هو عصر ما بعد الصناعة أو عصر المعلومات أو العصر التكنوترونى أو الإلكترونى أو عصر المعرفة .
(2) التركيب :
          ولكن هذا الوعى الإنسانى بمكونات وخصائص البيئة الطبيعية المحيطة، والذى ارتقى من الوعى الفطرى إلى البسيط إلى المركب إلى الفائق، وبالتالى انتقل من ملاحظة الظاهر إلى معاينة المخفى، ومن إدراك البنية الكلية للمخلوقات والعناصر إلى إدراك البنية الخلوية الجزيئية والذرية والنووية لها. هذا الوعى- الذى كان ذا طابع تفكيكى فى مجمله فى مجال اهتمامه بالبيئة الطبيعية الملاصقة للإنسان - كان على الجانب الآخر وعياً ذا طابع تركيبى فى مجال اهتمامه بالبيئة الفضائية المحيطة بالإنسان والبعيدة عنه.
فلقد كان الوعى الفطرى يدرك الأرض المحيطة بوصفها الكون بأكمله. ويدرك أن الأجرام الأخرى كالنجوم والشمس والقمر ما هى إلا مصابيح يمكن من خلال متابعة تحركاتها وغيابها وظهورها ضبط مواقيت الفصول والزراعة والتنبؤ بمصير الإنسان. فالكون هو الأرض المحيطة التى تحدها البحار السحيقة وغلالة رقيقة هى السماء بمصابيحها المتحركة.
          ثم ارتقى الوعى الإنسانى إلى مرحلة الوعى البسيط، من خلال تراكم عمليات الرصد لتحركات الأجرام السماوية. واستطاع « كلوديوس بطليموس » عام 140م أن يصمم نظاماً مركزياً للكون قائماً على التحركات التى تم رصدها لتلك الأجرام، امتد بموجبها الكون واتسع، حيث أصبحت الأرض هى المركز وحولها الشمس والكواكب فى مدارات دائرية متتابعة تفصل بينها مسافات، ثم تأتى أخيراً السماء بنجومها الثابتة المضيئة كحد نهائى للكون. وبذلك اتسعت حدود الكون الذى تحتل الأرض مركزه بفضل النظام المركزى الذى صممه بطليموس، واستمر هذا الوعى بحدود الكون قائماً لمدة تصل تقريباً إلى الألف عام.
          ولكن مع مرحلة الوعى المركب، لم يتقبل الإنسان تلك المركزية للأرض ولا تلك الحدود المزعومة للكون. وأسهمت الجهود العلمية لكل من « نيقولا كوبرنيكوس » (1473 - 1543) و«جوهان كبلر» (1571 - 1630) و«جاليليو جاليلى» (1564 - 1642) فى وضع الأسس اللازمة لظهور وعى مركب جديد بالكون ينفى فكرة مركزية الأرض، ويضعها فى موقعها الحقيقى، باعتبارها كوكباً مثل باقى الكواكب التى تدور حول الشمس، تلك الشمس التى اتضح - مع تطور التلسكوب فى زمن  « جاليليو » - أنها مجرد نجم مثل باقى النجوم التى تملأ السماء. وعلى يد « إسحق نيوتن » (1642 - 1727) تم اكتشاف قوانين الجاذبية التى تمسك هذا الكون فى ظل نظام ميكانيكى متكامل ومنضبط. وبذلك أصبح الكون بناءً مادياً شاسع الاتساع تتجاذب كل أجرامه بقوة الجاذبية وقوانينها، ويغوص وسط فضاء لا نهائى، وبذلك اتسعت حدود الكون إلى ما لا نهاية.
          ولقد كانت مرحلة الوعى الفائق بمثابة نقلة جبارة فى وعى الإنسان بالكون المحيط وظواهره. وأسهمت الجهود العلمية لـ « ألبرت أينشتاين » (1879 - 1955) فى صياغة « نظرية النسبية »، التى حطمت الكون الثابت الشاسع اللامتناهى لنيوتن، وأثبتت أن الكون ما هو إلا « متصل زمكانى » يحتل الزمن فيه البعد الرابع، وأنه كيان شاسع متناهى ولكن غير محدود ؛ لأنه دائم التمدد والاتساع و قابل للانكماش بعد فترة غير معلومة من التمدد.
          علاوة على ذلك، فقد أدى اكتشاف أن الوحدة فى البناء السماوى هى المجرة - وأن الكون يتكون من مجرات تنتظم فى داخلها مليارات النجوم - إلى نشوء فهم تركيبى جديد حول الكون الذى يتكون من مجرات تتباعد عن بعضها نتيجة تمدد هذا الكون. وأن نجمنا الشمس الذى تدور حوله أرضنا ( كوكب الأرض ) ما هو إلا نجم ضئيل داخل إحدى المجرات التى تدور حول مركز الكون الذى يتمدد ويتسع وقد ينطوى وينكمش فى أجل آخر غير معلوم، وفقاً لأطروحات نظرية « الانفجار العظيم »  Big Bang التى تفسر نشأة هذا الكون.
(3) المشتركات المادية:
          إن ترافق أو تزواج التركيب مع التفكيك فى الوعى الإنسانى، قاد ذلك الوعى إلى إدراك جوهر هذا الكون وماهيته. فالوعى التفكيكى أدى إلى إدراك وحدة البنية الذرية للكون والعالم والإنسان. والوعى التركيبى أدى إلى إدراك وحدة الكون المنظور على الرغم من اتساعه. وبالتالى فإذا كان المشترك المادى الجزئى الناتج عن التفكيك هو ( الذرة وجسيماتها )، والمشترك المادى الكلى الناتج عن التركيب هو (الكون)، فإن المشترك الإنسانى المادى بينهما - الذى يمارس الإنسان حياته عليه أو فى مجاله أو فى نطاقه - يتمثل فى: الأرض ( العالم ) أو المجموعة الشمسية أو المجرة. أى أن ذلك التسلسل من جسيمات الذرة إلى الأرض     ( العالم ) إلى المجموعة الشمسية إلى المجرة إلى الكون يُشكل ثمار الوعى الإنسانى بالكون فى مساره من الكل إلى الجزء أو من الجزء إلى الكل.
          لقد اتضح أن الكون هو المشترك المادى الأكبر الذى يضم كل شئ ، والجسيمات الذرية هى المشترك الأصغر التى نشأ عنها كل شئ ، والعالم ( الأرض ) هو المشترك المادى الإنساني الذى يضم الجنس البشرى ( الإنسان ).
          وهكذا يبدو العالم ( الأرض ) فى المسافة الرمزية من الذرة إلى الكون , بمثابة « المشترك الإنساني المادى » للجنس البشرى. والمجموعة الشمسية هى « المجال » المادى. والمجرة هى «المستقر» المادى. والكون هو « المستودع » المادى الكلى.  
          ومن هنا.. فإن الوعى بأن العالم (الأرض) يمثل المشترك المادى للجنس الإنسانى هو بمثابة وعى عولمى (العولمة ).
          والوعى بأن المجموعة الشمسية بكواكبها تمثل المجال المادى هو بمثابة وعى كوكبى ( الكوكبة ).
          والوعى بأن المجرة تمثل المستقر المادى هو بمثابة وعى مجرى ( المجرية ).
          والوعى بأن الكون يمثل المستودع المادى الكلى هو بمثابة وعى كونى ( الكونية ).
          إن هذه  الرؤية توضح أن محاولات الإنسان للتركيب والتفكيك قادته إلى إدراك المشتركات الإنسانية المادية. وكان أولها إدراك أن العالم هو المشترك الانسانى المادى. وأن البشر جميعهم فى سفينة واحدة هى كوكب الأرض. وبالتالى فالعولمة - تعنى بكل بساطة - أننا فى عالم واحد وليس فى عوالم متعددة، وأن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بأصل الكون والعالم من خلال التركيب والتفكيك. وبذلك تصبح العولمة - من هذا المنظور - خروجاً على المألوف المكانى والمألوف الزمانى وإنشاء أو تقديم رؤية مشتركة لمألوف « زمكانى » يضم كل سكان هذا العالم، ذلك العالم الذى لن يمكن مواجهة قضاياه العالمية إلا من خلال تنمية الاعتراف بالمشتركات الإنسانية, التى توضح وحدة النشأة ووحدة الإنجاز ووحدة المصير, رغم اختلاف اللغات والثقافات والحضارات .
ثانياً: المشترك الإنسانى المعنوى:
          إن عملية التزواج بين التركيب والتفكيك فى الوعى البشرى - والتى قادت إلى إدراك المشترك الإنسانى المادى - هى التى أسفرت أيضاً عن إدراك المشترك الإنسانى المعنوى. وذلك انطلاقاً من أنه إذا كان الوعى الإنسانى بعناصر البيئة الطبيعية هو الذى صاغ وشكَّل التطورات الحضارية الكبرى فى تاريخ البشرية، وذلك وفقاً لمستوى تطور هذا الوعى. فإن البحث عن منشأ هذا الوعى وموجهه، هو الذى سيقود بالمثل إلى إدراك المشترك الإنسانى المعنوى.
          ولقد قادت عملية التركيب فى الوعى الإنسانى إلى إدراك أن كل هذا الكون ما هو إلا نتاج لعقل مطلق يمثله الله سبحانه وتعالى، فهو عقل شامل محيط غير محدود.
          كما قادت عملية التفكيك فى الوعى الإنسانى إلى إدراك أن التطور الإنسانى ما هو إلا نتاج لعقل محدود يمثله الإنسان، وذلك العقل المحدود يكتسب معارفه بالتراكم والتوارث والخبرة والصواب والخطأ، فهو عقل جزئى محدود غير شامل وغير محيط .
          ولقد كان المشترك الإنسانى المناسب للقيام بدور الوسيط بين العقل المطلق الذى يمثله الله سبحانه وتعالى، والعقل المحدود الذى يمثله الإنسان، يتمثل فى « قيمة الحرية ». حيث تمثل قيمة الحرية المشترك الإنسانى المعنوى القابل لتوصيف العلاقة بين الله والإنسان، باعتبار أن الحرية هى الشرط اللازم لصحة إيمان العقل الإنسانى المحدود بالعقل الإلهى المطلق، والشرط اللازم لشرعية مبدأى الثواب والعقاب الإلهيين. فلا مجال لحساب الإنسان إلا لو امتلك ( حرية الاختيار ) بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الكفر والإيمان , فالحرية هى مناط التكليف. وبالتالى فالمشترك الإنسانى المعنوى الناتج عن عملية التركيب التى تقود إلى العقل المطلق، أو عملية التفكيك التى تقود إلى العقل المحدود، هذا المشترك هو ( الحرية الإنسانية )، تلك القيمة التى لو تم كبتها ومحاصرتها وتقليصها؛ فإن الإنسان يفقد الجوهر الذى يمنحه التفوق على كافة كائنات الأرض.
الخلاصة :
إن كل ما سبق يوضح أن ظاهرة العولمة ليست من صنع الرأسمالية العالمية ولا من صنع غيرها من القوى، لأن الواقع يقرر بأن العولمة لم يخترعها ولم يصنعها ولم يخطط لها أحد. وليس معنى ذلك أنها صنعت نفسها بنفسها، وإنما هذا يعنى أن العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسانية بالعالم من حولها، حيث أدى تراكم المنجزات الإنسانية ( الفكرية والتكنولوجية ) إلى إدراك الإنسانية للمشتركات المادية والمعنوية فى هذا العالم التى تجمع البشرية كلها فى بوتقة واحدة. فالعولمة هى نتاج لمحاولات الإنسان التراكمية منذ بدء الخليقة لتركيب وتفكيك العالم من حوله.  
          ومن هنا كانت مظاهر العولمة أثناء ممارستها لفاعلياتها العملية فى الواقع , تؤكد أنها كما تدفع إلى التوحد والتكتل والاندماج ( التركيب ) فإنها فى نفس الوقت تدفع إلى التشظى والتجزؤ والانقسام ( التفكيك ).
          وهذا أدى إلى أن التحليل السطحى لظاهرة العولمة يقع دائماً فى مأزق إدراك مظهر واحد من مظاهرها دون إدراك المظهر الآخر، نظراً لما يدفع إليه إدراك المظهرين من ارتباك وتناقض.
          وفى الواقع.. فإن امتلاك العولمة لهذه القدرة على الجمع بين الشئ ونقيضه، هى التى تمنحها صفة الظاهرة الشاملة، وتوفر لها التوازن فى المجمل العام، وتمنع استئثار فريق ما بمفرده بالإمكانات التى توفرها. فكما تستفيد بعض القوى من مظاهر العولمة للتوحد والتكتل والاندماج لتحقيق مصالح معينة، فإن بعض القوى الأخرى ستستفيد من مظاهر العولمة للتشظى والتجزؤ والانقسام لتحقيق مصالح أخرى..
          إن هذا الفهم لظاهرة العولمة يوضح بأنها كظاهرة شاملة لا تنتمى إلى قوة أو جهة معينة، وإنما هى تنتمى إلى البشرية كلها. كما أنها لا تصلح لكى تكون مشروعاً فكرياً أو عملياً للرأسمالية العالمية للسيطرة على مقدرات الشعوب والدول، وذلك لأنها تستعصى على التوجيه وتخرج عن نطاق السيطرة، إذ إنها كما تدفع إلى التوحد والتكتل والاندماج، فإنها تدفع - بذات الوقت - إلى التشظى والتجزؤ والانقسام. وبالتالى لا يمكن التعامل معها بوصفها أيدلوجية لأن الأيدلوجية أحادية الاتجاه بينما ظاهرة العولمة تجمع المتناقضات.
          إن كل ما سبق يوضح عدم علمية الخطاب السائد المعادى للعولمة فى دول العالم الثالث وفى المنطقة العربية. ولعل هذا الخطاب يحمل أسباب ارتيابه فى ظاهرة العولمة انطلاقاً من أن جانبها المعنوى المتمثل فى قيمة الحرية يتماثل نسبياً مع فكرة الديمقراطية الليبرالية الغربية، وأن جانبها المادى يشجع تحرير التجارة واقتصاد السوق والإيمان الكبير بالعلم. بينما المنطق الموضوعى يقرر بأن الديمقراطية وتحرير التجارة والسوق والنظرة العلمية، كلها مبادئ إنسانية منطقية فرضت نفسها لواقعيتها وليس لرأسماليتها، ولذلك فإن الاعتراف بإنسانية هذه المبادئ هو فى حد ذاته اعتراف بقابليتها دوماً للمراجعة والتصحيح للحفاظ على جانب العدالة والتوازن فى توجهاتها.
          والواقع يوضح أن العولمة كما تقوم على الشركات المتعددة الجنسيات، فهى أيضاً تقوم على منظمات المجتمع المدنى. وكما تروج لثقافة عالمية إنسانية، فهى تفتح الباب للثقافات القومية. وكما تجعل من شبكة الإنترنت سوقاً للتجارة الإلكترونية، فإنها تجعلها أيضاً ساحة مفتوحة للأفكار والمعرفة.
          وهذا يوضح بأن ظاهرة العولمة ما هى إلا مرحلة متقدمة فى وعى الإنسان بالعالم من حوله نتجت من خلال محاولات الإنسان التراكمية عبر العصور لتركيب وتفكيك ذلك العالم، مما أدى إلى إدراكه للمشترك الإنسانى ( المادى ) المتمثل فى « العالم » ، والمشترك الإنسانى ( المعنوى ) المتمثل فى « الحرية الإنسانية » . و نظراً لأن العولمة نتجت عن التركيب والتفكيك فإن مجمل مظاهرها يتمثل فى دفعها نحو التوحد والتكتل والاندماج فى ذات الوقت الذى تدفع فيه نحو التشظى والتجزؤ والانقسام.
إن العولمة – بهذا المعنى - تتيح الفرص للكافة , و لكن بشرط وجود إرادة للفعل و وجود هدف قابل للإنجاز , فى ظل الإيمان بوحدة مصير العالم والإيمان بقيمة الحرية الإنسانية .

*****
دكتور / محمد محفوظ



ثقافة التعصب والكراهية 2/2


ثقافة التعصب والكراهية ( 2/2 )
التسامح المفقود .. في المنطقة العربية

بقلم دكتور / محمد محفوظ

نشر : يونيو 2007

يدل انتشار ثقافة التعصب والكراهية في أى مجتمع على  فقدان هذا المجتمع لثقافة التسامح . ويعتبر التسامح قيمة سياسية عليا في النظم الديمقراطية , ومبدأ ليبرالى هام تتأسس بموجبه  قدرة المجتمع على  تحمل عبء الممارسة الديمقراطية . وقد يتعجب البعض لوصف الممارسة الديمقراطية بالعبء , ولكن الواقع يؤكد بأن الحكومات المستبدة تحكم شعوبها بكل استسهال وإهمال - وبدون أية أعباء - باستخدام عصا القمع و الطغيان , وتمرر  سياساتها  غير الرشيدة دون أن تعبأ بأية معارضة , لأن مسوغ البقاء في السلطة يعتمد على القوة والقهر . وذلك بخلاف الحكومات الديمقراطية التى تكابد  أعباء الممارسة الديمقراطية , ويعتمد بقاءها في السلطة على الرضى العام للجماهير  , وبالتالى تمارس تلك الحكومات عملية مستمرة من العرض والشرح  والتبرير لسياساتها , وتخضع لحساب يومى مستمر من السلطات الأخرى ومن المؤسسات الإعلامية ومن منظمات المجتمع المدنى . ولهذا تهتز دائماً المقاعد بالزعماء في الدول الديمقراطية , نتيجة الزلازل البرلمانية والرياح الإعلامية والمظاهرات الشعبية . بينما تستقر مقاعد الزعماء في الدول المستبدة وكأنها خارج إطار الزمان والمكان والأحداث , لأنها مثبتة إلى الأرض بسلطان الخوف وأوتاد الطغيان .
ولكن التسامح الذى نتحدث عليه , ليس هو التسامح -  فقط - بمعناه اللغوى الذى يعنى القدرة على العفو والتعامل بود أو  ما يسمى في تعبيراتنا الشعبية ( الطِيبَة ) . وإنما يمتد التسامح -  في المعنى السياسى -  إلى قدرة المجتمع على إدارة الاختلاف واحتواء التنوع  . ذلك الاختلاف الذى هو أمر لازم في كل مجتمع على وجه الأرض , لأنه سنة الله في الخلق . لهذا تتوجه كافة القوى السياسية في المجتمعات الديمقراطية بأفكارها وبرامجها المختلفة إلى الجماهير , ومن خلال صناديق الاقتراع في العملية الانتخابية تكشف الجماهير عن اختياراتها . وبالتالى تحترم النظم الديمقراطية ثقافة التسامح , لأنها توفر المناخ الذى يتيح لكل الاتجاهات السياسية التعبير عن توجهاتها , مما يُجنب المجتمع أية احتقانات نتيجة محاصرة بعض الأفكار  أو عزلها .
وتشير ثقافة التسامح إلى مبدأ هام , مفاده أنه لا يجوز التعامل مع الأفكار باعتبارها تجسيداً لأصحابها , وإنما ينبغى عزل الأفكار عن أصحابها , حتى لا يتم إقصاء الآخر المختلف , و يتحول المجتمع إلى ساحة للقتال والشقاق , أو إلى جزر معزولة تستقل كل منها بتوجهاتها الفكرية . ومن هنا كانت ثقافة التسامح هى حصن الأمان لدعم قدرة المجتمع على إدارة الاختلاف , والتعامل مع الأفكار المتنوعة بالحوار والجدل و النقاش الحر  .   
وللأسف فإن المنطقة العربية تفتقر افتقاراً شديداً إلى ثقافة التسامح , وتروج مؤسساتها التعليمية والدينية والإعلامية والسياسية - دون كلل أو ملل - لثقافة التعصب والكراهية والغل الأسود  . ولذلك تتملكنى الدهشة الشديدة عندما أرصد الحيرة  التى يقع فيها أغلب المحللين العرب عند تصديهم لتحليل النزاعات المزمنة في المنطقة , ويدفعهم الفشل في كشف الأسباب الحقيقية لهذه  النزاعات , إلى تعليق الأمر كله على شماعة نظرية المؤامرة . وذلك رغم وضوح السبب الحقيقى مثل وضوح الشمس , والذى يتمثل في غياب ثقافة التسامح في المجتمعات العربية , مما يؤدى  إلى عدم القدرة على إدارة الاختلاف واحتواء التنوع , وبالتالى يتم الانزلاق إلى العنف والقوة والسلاح والسب والشتم والاتهام بالعمالة والخيانة والخروج على ثوابت الأمة والدين والهوية .. إلى آخر قائمة الاتهامات الرخيصة والافتراءات الدنيئة . ويتحول المجتمع بذلك إلى جماعات متحاربة وفرق متصارعة على مذبح الكراهية والتعصب . ولننظر إلى النزاعات في لبنان ( تجمع 14 آذار ضد حزب الله ) وفلسطين ( فتح ضد حماس ) والعراق ( السنة ضد الشيعة ) والصومال ( الحكومة ضد المقاومة الإسلامية ) ودارفور ( العرب ضد الأفارقة ) , لندرك بأنها نزاعات لا يمكن أن تصل إلى أية نتيجة من خلال الحوار , لأنه حوار محكوم عليه بالفشل لافتقاره  إلى عنصر هام , وهو ثقافة التسامح , التى تُرسِّخ إدارة الاختلاف وتحترم  النقاش والجدل كسبيل متحضر  لحل الخلافات بين أبناء المجتمع الواحد .
لقد فقدت المنطقة العربية قدرتها على إدارة الاختلاف , عندما سلمت منابرها الإعلامية والثقافية لدعاة التعصب والكراهية والغل الأسود , من أجل حشد الجماهير ضد إسرائيل أو أمريكا أو الغرب . وبالتالى تم تغذية الجماهير وإرضاعها ليل نهار  بثقافة الكراهية .  فأصبح الاعتدال هو الاستثناء بينما أصبح التطرف هو الأصل , رغم أن المجتمعات الطبيعية هى التى يصبح المتعصبون فيها هم الأقلية - و ليس العكس -  وإلا أصبح هذا نذير خطر يقود المجتمع نحو الانزلاق لصراعات عبثية مزمنة  سواء أكانت  داخلية أم خارجية .
ولعل دروس التاريخ تؤكد لنا بأن ثقافة الكراهية والتعصب لا تحل النزاعات بل تعقدها , ولنضرب مثلاً بالنزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان إبان الحرب العالمية الثانية . فاليابان هى الدولة الوحيدة على وجه الأرض التى تم قصفها بقنبلتين ذريتين , مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين في لمح البصر , غير مئات الآلاف من المصابين والمشوهين . ولعل هذا القصف الأمريكى , كان يمكن أن يكون المبرر الأكبر لكى ينزلق الشعب اليابانى خلف دعاة الكراهية والتعصب , من أجل الانتقام والقصاص لدماء المدنيين الأبرياء . ولكن الشعب اليابانى نبذ التعصب و الكراهية , واختار طريق العقل والحكمة وبناء الذات , بدلاً من طريق الهوس بتدمير العدو . وبالتالى حققت اليابان بقوتها الاقتصادية  ما كانت ستعجز عن تحقيقه بالقوة العسكرية , ألا  و هو احترام و تقدير العالم أجمع .
ولعل ما سبق يوضح أن أى نزاع مهما تفاقمت آثاره المادية أو طال مداه الزمنى , فإنه يمكن أن يصل إلى منتهاه , لو تم التعاطى معه بعيداً عن ثقافة التعصب والكراهية . والمنطق الرشيد يقرر بأن النزاع العربى الإسرائيلى ليس استثناءً من هذه القاعدة .
إن تبنى ثقافة التسامح هو السبيل لكى تخرج هذه المنطقة البائسة  من أزماتها , وتودع أحزانها , وتعالج جنون الكراهية وتشنجات التعصب وهلاوس الغل الأسود , بوقار الاعتدال وتجليات التعددية وفتوحات الديمقراطية .

*****

   دكتور / محمد محفوظ

14 سبتمبر 2013

ثقافة التعصب والكراهية 1/2

ثقافة التعصب والكراهية ( 1/2 )

دكتور / محمد محفوظ
نشر : يونيو 2007

لا يصلح التعصب والكراهية لكى تقوم عليهما أى سياسة , لأن السياسة التى تعتمد على منهج التعصب والكراهية هى سياسة  قد تبدو ناجحة في المدى القصير , ولكنها وفقاً لكل تجارب التاريخ فاشلة على المدى البعيد .
وتعتبر السياسة فى الفقه السياسى هى فن وعلم إدارة المصالح , وبالتالى فإن ( المصلحة ) في أبجديات العمل السياسى هى الإستراتيجية , بينما ( الولاء ) هو التكتيك . فأينما تكون المصلحة يتوجه مؤشر الولاء . لأن السياسة لا تعرف عداوات دائمة أو صداقات أبدية , وإنما عداوات مرحلية وصداقات وقتية , وكل ذلك وفق مؤشر واحد هو : مؤشر المصلحة . 
وبالتالى .. لا يجيد دعاة التعصب والكراهية استخدام لغة السياسة لأنهم لا يجيدون استخدام لغة المصالح . وإنما يجيدون استخدام لغة الانتقام الصاخبة , من خلال السعى إلى الإضرار بالآخر ( العدو ) دون الاهتمام بالسعى إلى بناء الذات . فإستراتيجية الانتقام تلهى صاحبها عن ذاته , وبالتالى لا  يفكر إلا في إيذاء العدو  بينما تغيب عنه مصالحه الذاتية . ولكن نظراً لأن هذا العدو سيحاول دائماً الدفاع عن نفسه , فإن كافة أساليب الانتقام لن تؤدى إلا إلى حث العدو على إجادة أساليب الدفاع عن الذات , ومن ثم يرتد سهم الانتقام إلى صدر صاحبه .
إن الذين يفجرون أدمغتنا ليل نهار بكراهيتهم لأمريكا وإسرائيل والغرب , لا يجيدون إلا لغة التعصب والغل الأسود , وتغيب عنهم لغة السياسة التى توجهها بوصلة المصالح . وياويل الشعب الذى يشاء له حظه العاثر أن يتولى أموره مثل هؤلاء المتعصبين الكارهين . لأنهم بلغة التعصب والانتقام الصاخبة يزجوا بالوطن في مشاحنات وصراعات مع القوى العظمى والدول المجاورة , تؤدى إلى التورط في حروب ونزاعات عبثية تأكل الأخضر واليابس وتدمر الاقتصاد وتسفك دماء الأبرياء .
أقول هذا لأننى ألمح في هذا الوطن موجة متصاعدة  لثقافة التعصب والكراهية . وأجد ميلاً لدى الكثير من المثقفين والبسطاء للانقياد خلف مروجى هذه الثقافة -  أصحاب الخطب الرنانة والسياسات الضبابية -  التى لن تؤدى إلا إلى تعطيل مسيرة هذا الوطن نحو الحرية والديمقراطية أكثر مما هى معطلة .  وبالتالى تنصرف أنظار الجماهير عن العدو الحقيقى المتمثل في الاستبداد والفساد , وغياب العدل وحكم القانون و الديمقراطية .
يا أبناء هذا الوطن .. لا تستمعوا لمن يحرضونكم على قتل أو قتال أعداءكم , سواء كان ذلك باسم الدين أو العروبة أو القومية أو الاشتراكية . ولكن استمعوا لمن يفكرون في إصلاح حياتكم بالعدل والمساواة والحرية والديمقراطية . وأؤكد لكم بأن اليوم الذى تنصلح فيه حياتكم بالعدل والديمقراطية والمساواة , سيكون هو اليوم الذى تنتصرون فيه على أعدائكم بدون قتال , لأنهم وقتها سيخشون بأسكم , ولعل هذا هو الانتصار الحقيقى , لأنه سيكون الدافع الأكبر للسلام والوئام . وتدبروا فى قول الله سبحانه وتعالى في وصفه لدعاة التعصب و الكراهية :  
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد *  وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد * ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله  والله رءوف بالعباد * يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين  ) ( سورة البقرة  /  الآيات 204- 208  ) .
فادخلوا فى السلم ولا تتبعوا خطوات الذين ينفخون  فى نار التعصب و الغل و الكراهية ,لأنكم وقتها ستتّبعون خطوات الشيطان .


*****
دكتور / محمد محفوظ