27 يوليو 2011

الضمانات المطلوبة لعدم إعادة إنتاج الدولة البوليسية

ضمانات ( وظيفية - هيكلية - إدارية - تشريعية )

....

دكتور / محمد محفوظ

.....

دراسة تم عرضها بمؤتمر

تحديات التحول الديمقراطي

في مصر

خلال المرحلة الانتقالية

بتاريخ ٢٦ - ٢٧ يوليه ٢٠١١ القاهرة*

.....


يتردد مصطلح الدولة البوليسية كثيراً في أوساط المثقفين؛ باعتباره وصفا للدولة القمعية ، إلا أنه في حقيقته يمثل توصيفا علميا لمجموعة من الأدوات والأساليب والممارسات السلبية الرديئة الفاسدة في مجال الإدارة السياسية ، لتتحول إلى إدارة أمنوسياسية ( أمنية / سياسية ) .


والدولة البوليسية أو الدولة الأمنية؛ هي الدولة التي توجد فيها المظاهر الآتية:


-فالدولة البوليسية ، هي الدولة التي تلتبس فيها العلاقة بين نصوص القانون وبين التجاوزات والانتهاكات التي تمارسها الاجهزة الأمنية في المجتمع ؛ حيث تذوب الحدود الفاصلة بين الاثنين ؛ الأمر الذي يجعل ما تفعله هذه الأجهزة أو ما تريده هو بمثابة القانون ، مهما تعارض أو تصادم معه .


-وهى الدولة التي تترك معظم المشكلات سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية؛ لكي تتفاقم حتى تتحول إلى مشكلات أمنية؛ فيتم استدعاء جهاز الأمن للتدخل والتصدي لها ومواجهتها بحلول أمنية؛ تميل بالطبع نحو أساليب القمع؛ كما أنها تكون دائماً حلولاً مرحلية؛ لأنها قد تخفى مظاهر التمرد المترتبة على هذه المشكلات؛ ولكنها لا تمنع من تصاعد الغضب حتى يحدث الانفجار مرة أخرى.


-وهى الدولة التي تقوم بربط الترشح للمناصب الحكومية الهامة في كافة المؤسسات باختلاف أنشطتها؛ بموافقة الجهات الأمنية؛ حتى لو لم يتم النص في القوانين على ذلك.


-وهى الدولة التي تقوم بتخصيص نسبة كبيرة من المناصب الحكومية على اختلاف أنواعها وتخصصاتها لرجال الأمن.


-وهى الدولة التي تسند الكثير من الأنشطة المجتمعية غير الأمنية إلى عدد من المؤسسات الأمنية.


- وهي الدولة التي تضع عينا أو قدما أو ذراعا او أصبعا أمنية، داخل التنظيمات الحزبية ، أو النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني ، أو المؤسسات الإعلامية .**


إن ما سبق عرضه من مظاهر؛ يوضح بأن الدولة البوليسية تمتلك البنية المؤسسية والتقاليد السياسية التي تجعل استمرارها غير متوقف على وجود فرد ما أو حاكم معين؛ وإنما هي تمثل نظاماً سياسياً يستمد أسباب بقاءه من طابور من المؤسسات ومجموعة من الممارسات؛ التي لا يمكن القضاء عليها إلا من خلال حزمة متكاملة من الضمانات التي تسمح بتفكيك هذه المؤسسات وتجريم هذه الممارسات؛ بما يسد الطريق أمام أية محاولات لإعادة إنتاج الدولة البوليسية. وتتمثل هذه الضمانات في الآتي:


أولاً: ضمانات وظيفية (لمواجهة الخلل الوظيفي) :


وتتعلق هذه الضمانات بالتوصيف الوظيفي الدقيق لدور جهاز الأمن في المجتمع؛ فثمة خلل وظيفي متأصل في بنية الأجهزة الأمنية في الدولة البوليسية؛ يحيد بهذه الأجهزة بعيداً عن وسائلها وعن أهدافها التي كان ينبغي لها أن تقوم بها في المجتمع.


وواقع الأمر أن دور جهاز الأمن في أي مجتمع ينقسم إلى شقين متكاملين:


-دور وقائي: يهدف إلى منع الجرائم قبل وقوعها؛ من خلال أعمال التأمين والحراسة والدوريات الأمنية وكاميرات الملاحظة المنتشرة في ربوع المدن والأحياء وأماكن التجمعات؛ بما يمثل قوة أمنية رادعة وظاهرة تؤدى إلى تضييق مساحات الخروج على القانون.


-دور جنائي: يهدف إلى ضبط الجرائم بعد وقوعها؛ من خلال جمع الاستدلالات والأدلة وسؤال الشهود وإيقاف المشتبه فيهم أو المدانين بارتكاب الجرائم.


وبالطبع؛ فإن كلا الدورين الوقائي والجنائي يعتريهما الخلل الوظيفي الضارب في بنية الدولة البوليسية. حيث يتم تشويه الدور الوقائي من خلال التوسيع المبالغ فيه لدائرة الاشتباه بصورة تشير إلى تضخم هاجس الأمن الوقائي لدى أجهزة الأمن؛ الأمر الذي يأتي بنتيجة عكسية تجعل من وجود قوات الشرطة في الشارع مدعاة لترويع المواطنين بدلاً من أن يكون ذلك حافزاً لإحساسهم بالأمن؛ ويتم التمادي في الانسياق وراء هاجس الأمن الوقائي إلي مداه الأقصى فيما يتعلق بالأمن السياسي (أمن النظام)؛ بحيث يتحول إلى مبرر للتجسس على الأحزاب السياسية ورموز المعارضة والتجمعات النقابية والعمالية والطلابية... الخ.


كما يتم تشويه الدور الجنائي؛ من خلال اغتصاب جهاز الأمن لسلطة النيابة العامة؛ فيتجاوز دوره في جمع الاستدلالات ليمتد إلى ممارسة سلطة التحقيق مع المشتبه فيهم لاستنطاقهم من خلال الضغط عليهم نفسياً وجسدياً؛ لإجبارهم على الاعتراف.


ولاشك بأن التوصيف الوظيفي الدقيق لدور الأمن في المجتمع وقائياً وجنائياً هو أمر يتعلق بصورة جوهرية بالإرادة السياسية لدى النظام السياسي؛ ومن هنا فإن وضع الحدود الفاصلة و الخطوط الحمراء التي لا ينبغي لأجهزة الأمن تجاوزها أثناء ممارستها لدورها؛ وسن الجزاءات القانونية الرادعة لمنع هذه الأجهزة من الجور على صلاحيات السلطات الأخرى؛ هو أمر يتطلب ترسيخ وتفعيل الضمانات أو المبادئ الآتية: 


١-ضمانة الرقابة العامة:

من خلال الضمان الدستوري الراسخ  لمبدأ (الفصل بين السلطات)؛ بما يجعل السلطة التشريعية المنتخبة تحتل موقع المراقب الدائم لأعمال السلطة التنفيذية بجهازها الأمني؛ وبما يجعل السلطة القضائية المستقلة تمارس كافة صلاحياتها دون وجل في مواجهة باقي سلطات الدولة بدون استثناء. 


٢-ضمانة الرقابة المجتمعية:

من خلال تقنين دور منظمات المجتمع المدني الحقوقية في ممارسة الرقابة المجتمعية الشعبية على أجهزة الأمن؛ بما يؤدى إلى تفعيل نوعية مستقلة من الرقابة تتنافس مع الرقابة التي تمارسها كل من السلطة التشريعية والسلطة القضائية. 


٣-ضمانة الرقابة الذاتية:

من خلال السماح بحق التنظيم لرجال الأمن بما يسمح بإنشاء نقابة للدفاع عن حقوقهم وتنظيم واجباتهم؛ الأمر الذي يساهم في تنمية الوعي لدى كل العاملين بجهاز الأمن بأهمية وضع معايير للرقابة الذاتية تساعد على تدعيم الإحساس بالمسئولية الأخلاقية تجاه المجتمع , باعتبار أن الحقوق المكفولة لهم بموجب الدستور والقانون؛ ترتبط في ذات الوقت ارتباطاً وثيقاً بمجموعة من المسئوليات الدستورية والقانونية التي تهدف إلى تحقيق أمن المجتمع وليس أمن النظام.


وهذا يوضح بأن الصياغة القانونية الجزائية الواضحة والمحددة للدورين الوقائي والجنائي لأجهزة الأمن في المجتمع؛ ينبغي أن تترافق مع عدد من الضمانات التي تحقق الرقابة العامة والمجتمعية والذاتية؛ بحيث يمثل هذا المثلث الإطار الوظيفي لردع أية ممارسات محتملة لإعادة إنتاج الدولة البوليسية.


ثانياً: ضمانات هيكلية :

تشير الضمانات الهيكلية إلى إعادة هيكلة جهاز الأمن بما يغير من الهياكل المؤسسية القائمة به؛ والتي تعكس الحاجة الماسة لدى الدولة البوليسية لبعض المؤسسات الأمنية باعتبارها أداة في يد النظام لضمان استمراره. ومن هنا فإن الضمانات الهيكلية تتمثل في الآتي:


١-معالجة التضخم في الهيكل التنظيمي لجهاز الأمن:

فمن منطلق الدولة البوليسية؛ يتم تكليف وزارة الداخلية بأعباء غير أمنية , بما يسمح لجهاز الأمن بأن يضع عيناً له في كل مرافق الدولة؛ الأمر الذي يصبغ المجتمع بصبغة أمنية ويؤدى إلى التأثير بالسلب على المهام الأمنية المجتمعية الأساسية.

وبالتالي لابد من إعفاء وزارة الداخلية من جميع الأعباء غير المتصلة بصميم عملها الأمني، والمؤثرة سلباً على مهامها الأساسية.

فيجب على سبيل المثال لا الحصر؛ نقل اختصاص وزارة الداخلية بتنظيم قرعة الحج إلى وزارة الأوقاف، ونقل مصلحة الأحوال المدنية إلى وزارة التنمية الإدارية، ونقل استخراج تصاريح العمل إلى وزارة القوى العاملة، ونقل مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية إلى وزارة الخارجية، ونقل الإشراف على السجون إلى وزارة العدل، ونقل الإشراف الطبي على أماكن الاحتجاز والسجون إلى وزارة الصحة.


أيضاً؛ ينبغي إلغاء عدد من المهام غير الأمنية التي تتولاها عدد من الإدارات العامة التي تندرج في صلب بنيان وزارة الداخلية؛ رغم إمكانية قيام إدارات أمنية تابعة للجهات أو شركات الأمن الخاص بتلك المهام من خلال أفراد الأمن المدربين. وذلك مثل: الإدارة العامة لشرطة النقل والمواصلات - الإدارة العامة لشرطة الكهرباء - الإدارة العامة لشرطة السياحة والآثار.. الخ.

فكل تلك الجهات تمثل عبئاً بشرياً ومالياً يختصر من المهمة الأساسية لجهاز الأمن؛ وتسمح بوجود ذراع أمنى في كل مرافق الدولة مما يصبغ المجتمع بصبغة أمنية بوليسية. 


علاوة على ذلك ، يتوجب تفكيك المنظومة الاستثمارية الخاصة بوزارة الداخلية ، والتي تمتد لكافة الأنشطة الاقتصادية وتصب أرباحها داخل موازنتها .

بما يجعل من الأجهزة الأمنية لاعبا في ساحة كعكة الاقتصاد المحلي ، ومن ثم يحتم وقوعها في مصيدة تضارب المصالح بين مسئولياتها الأمنية وطموحاتها الاستثمارية .


٢-تفكيك البنيان المركزي لجهاز الأمن الوطني:

وذلك من خلال نقل اختصاصات الجهاز المتعلقة بالجرائم السياسية ومكافحة الإرهاب إلى أقسـام ( مجرد أقسام ) ملحقة بمديريات الأمن بكل محافظة . وإنشاء جهاز مركزي جديد مثل المباحث الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية ، يكون غير تابع لوزارة الداخلية ، ويمارس اختصاص عام على مستوى الجمهورية لمواجهة الجرائم السياسية والجنائية التي تفوق قدرات أجهزة الشرطة المحلية أو تتعدى دوائرها الجغرافية ، على أن يتمتع الجهاز بالاستقلال تماما عن السلطة التنفيذية .


٣-كليات الشرطة ومعاهدها:

ضرورة التعديل الجذري لنظام الدراسة في كلية الشرطة ومعاهدها؛ بما يمنع إعداد رجال الأمن لكى يكونوا أدوات في يد النظام؛ ويسمح بعدم الاقتصار على كلية واحدة للشرطة وإنشاء كليات متعددة ومدنية ومفتوحة؛ الأمر الذي يكرس الطبيعة المدنية لجهاز الشرطة ويستأصل منه الصبغة العسكرية. ويمكن إجراء ذلك من خلال عدد من التدخلات كالآتي:

-إلغاء المادة ١٤ من قانون أكاديمية الشرطة التي يخضع بموجبها الطلبة لقانون الأحكام العسكرية.

-إلغاء نظام الإقامة الداخلية بكليات الشرطة فيقيم طلابها بمنازلهم أو في المدن الجامعية مع باقي طلاب الكليات الأخرى. 

-إنشاء عدد من كليات الشرطة على مستوى المناطق الإقليمية وعدم الاكتفاء بكلية واحدة في العاصمة بما يلبى الاحتياجات الأمنية التي تتفاوت من إقليم لأخر.

-قصر الالتحاق بكليات الشرطة على خريجي كليات الحقوق، ويتم تأهيلهم للعمل الشرطي خلال مدة دراسية تتفق ومجال التخصص. 


٤-إلغاء نظام ندب المجندين من القوات المسلحة إلى وزارة الداخلية:

فبالإضافة إلى دور كلية الشرطة في عسكرة جهاز الشرطة؛ فإن هناك أسباب أخرى تساهم في نمو تلك الصفة العسكرية تتمثل في كل من:- 

-نظام ندب المجندين من القوات المسلحة إلى وزارة الداخلية لأداء الخدمة العسكرية؛ بموجب نص المادة رقم ٢ فقرة (ب) من قانون الخدمة العسكرية والوطنية.

-قرار وزير الدفاع رقم ٣١ لسنة ١٩٨١م ؛ الذي يعتبر وزارة الداخلية من الهيئات ذات الطابع العسكري التي يجوز أداء الخدمة العسكرية بها.

وللأسف؛ فإن إلحاق المجندين بالقوات المسلحة لأداء فترة تجنيدهم الإجباري بوزارة الداخلية؛ يؤدى إلى عسكرة جهاز الشرطة بالمخالفة للدستور .


ومن ثم؛ وللقضاء على تلك الصفة العسكرية التي هى أحد الأركان التي تقوم عليها الدولة البوليسية؛ فإنه ينبغي إلغاء هذا النظام؛ واقتصار الالتحاق بوزارة الداخلية على التعيين فقط؛ بحيث يقتصر الصف الثاني بوزارة الداخلية على الأفراد الشرطيين الذين قبلوا باختيارهم الخاص الانخراط في مهنة الأمن.

 

٥-إلغاء قطاع الأمن المركزي وقوات الأمن:

يستتبع إلغاء نظام ندب المجندين لوزارة الداخلية؛ ضرورة إلغاء قطاعي الأمن المركزي وقوات الأمن؛ باعتبارهما الركن المسلح في بنية الدولة البوليسية؛ واستبدالهما بمجموعات لمكافحة الشغب ملحقة بأجهزة الشرطة المحلية؛ يكون الملحقون بها من أفراد الشرطة المتخصصين للقيام بهذه المهام وليس المجندين. وتكون المهمة الأساسية لهذه القوات هي حماية التجمعات والتظاهرات وليس منعها أو حصارها؛ على أن يتم النص في القانون على تجريم استخدام السلاح ضد أي تجمعات جماهيرية إلا في حالة إطلاق النار من المتظاهرين.


ثالثاً: ضمانات إدارية : 

تشير الضمانات الإدارية إلى مواجهة أساليب الإدارة التي أنتجت الدولة البوليسية من خلال استبدالها بأساليب مناقضة تؤدى إلى إنتاج دولة سيادة القانون؛ وتتمثل هذه الأساليب في الآتي:


١-الإدارة السياسية:

بحيث يتولى وزارة الداخلية " وزير سياسي " من خارج هيئة الشرطة، لكي يتم التعامل مع القضايا الأمنية بمنظور مجتمعي وسياسي، يقيد وزارة الداخلية بأجندة المجتمع وأولوياته الأمنية بدلاً من أن تفرض الوزارة أولوياتها الأمنية على المجتمع. وذلك لأن استبعاد أسلوب الاعتماد على كادر أمنى لقيادة وزارة الداخلية؛ سوف يوفر رؤية سياسية عريضة لإدارة العمل الأمني؛ تخرج به من حيز الرؤية المهنية الضيقة المتحيزة للمؤسسة الأمنية أكثر من انحيازها للمجتمع. الأمر الذي يرسخ لمبدأ أن تكون وزارة الداخلية أداة لخدمة المجتمع بدلاً من أن تكون أداة في يد النظام. 


٢-الإدارة الأمنية المحلية:

ضرورة التحول بجهاز الأمن من الإدارة المركزية الشديدة إلى الإدارة المحلية؛ بحيث يكون لكل محافظة جهاز شرطتها الخاص؛ التابع لمحافظ المحافظة تنفيذياً؛ والتابع لوزارة الداخلية إدارياً وفنياً؛ على أن يواكب ذلك تبني نظام انتخاب المحافظين، ليصبح " الارتفاع بمستوى الخدمات الأمنية" أحد عناصر البرنامج الانتخابي للمرشحين لمنصب المحافظ، بما يساهم في توجيه جهاز الأمن لخدمة المواطنين وليس خدمة السلطة المركزية؛ ويبتعد به تماماً عن الالتصاق بالسلطة التنفيذية في ظل علاقة غير حميدة لا تنتج إلا الدولة البوليسية.


٣-انتخاب رئيس السلطة القضائية:

تثبت التجارب بأن غياب جانب المسئولية في إدارة السلطة القضائية هو أمر ينال من مدى استقلالية تلك السلطة. فالنتيجة المترتبة على تدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء؛ تشابه النتيجة المترتبة على عدم اضطلاع القضاء بمسئوليته الدستورية تجاه الشعب. فسلطة بلا مسئولية تفتح الباب لممارسات الفساد والإهمال التي يمكن أن تنفذ منها ضغوط السلطة التنفيذية. وبالتالي فإذا كانت أحكام القضاء تتصدرها عبارة: باسم الشعب؛ بما يعنى أن السلطة القضائية تستمد ولايتها من الشعب؛ ومن ثم فهي تقضي باسمه؛ فإن انتخاب رئيس السلطة القضائية يصبح لازماً لكي يصبح هذا الرئيس مسئولاً أمام الشعب - الذي نال ثقته - عن كفاءة ونزاهة مرفق القضاء. الأمر الذي يقطع الطريق على الدولة البوليسية لكي تعيد إنتاج أحد أهم أدواتها وهى: القضاء غير المستقل. 


رابعاً: ضمانات تشريعية :

وهى تشير إلى ضرورة إجراء تعديلات تشريعية لاستئصال الصياغات القانونية المطاطة التي تفتح الطريق لممارسات الدولة البوليسية؛ وتلبي التغييرات المؤسسية المطلوب إدخالها علي أجهزة الأمن لتنحاز لأمن المواطنين عوضاً عن أمن النظام. وتتمثل هذه الضمانات في الآتي:


١-تعديل أحكام قانون العقوبات المتعلقة بـ" الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل " وكافة المواد الأخرى بقانون العقوبات المرتبطة بنفس المضمون، وذلك لأن تلك النصوص التشريعية تحتوي على صياغات مطاطة ومصطلحات تجريمية مبهمة؛ تؤدى إلى تكريس إطار عقابي واسع؛ يسمح بخلق مناخ من الترويع؛ يتيح للأجهزة المسئولة عن أمن الحكومة (أو أمن الدولة) الاستقواء في مواجهة المواطنين وباقي سلطات الدولة.


٢-سن قانون جديد للشرطة: يلبي متطلبات احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان ويتلاءم مع التحولات الهيكلية المطلوب إدخالها على جهاز الأمن ودوره في المجتمع. 


٣-حظر تقلد المناصب الحكومية والسياسية لرجال الأمن إلا بعد فترة تمتد لعدة سنوات من تقاعدهم. 


٤-إجراء تعديلات تشريعية تسمح بأن تصبح الدعوى الدستورية دعوى أصلية؛ بما يعني إمكانية الدفع بعدم دستورية القوانين مباشرة أمام المحكمة الدستورية العليا. الأمر الذي يتيح القدرة على التصدي المباشر لكافة صور انتهاك المبادئ والحقوق والحريات الدستورية؛ ومن ثم يؤدى إلى مجابهة الممارسات التي تقود إلى إعادة إنتاج الدولة البوليسية.

…..


تمثل تلك الحزمة من الضمانات الوظيفية والهيكلية والإدارية والتشريعية؛ الإطار الذي يسمح بمحاصرة أية محاولات لإعادة إنتاج الدولة البوليسية بمؤسساتها وممارساتها. الأمر الذي يؤسس لدولة حقوق الإنسان وحرياته العامة؛ دولة الفصل بين السلطات؛ دولة سيادة القانون.

*****

هوامش :

* الدراسة تم عرضها
بمؤتمر تحديات التحول الديمقراطي في مصر خلال المرحلة الانتقالية
بتاريخ ٢٦ - ٢٧ يوليه ٢٠١١ القاهرة

* المؤتمر بالتعاون بين :
- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
- مركز العلاقات الدولية والحوار الخارجي FRIDE بأسبانيا
- ‏صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية UNDEF

** لينك مقال : الدولة البوليسية
https://drmmahfouz.blogspot.com/2016/05/blog-post.html




20 يوليو 2011

مطالب الثورة أوامر

د .محمد محفوظ : مطالب الثورة أوامر

(  وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) [ سورة إبراهيم  – الآية 45  ]

هناك طائفة من البشر أو من الحكام أو من المسئولين لا تتعلم من الأحداث .
وربما نلتمس لهم العذر ؛ لو طالت الفترة الزمنية بين الماضى والحاضر بما يفتح الباب للنسيان .
ولكن كيف نلتمس لهم العذر فى مواجهة الحاضر المقيم الذى تبلعهم أحواله وتحيط بهم أحداثه ، فيتعاملون معها مثل الأطرش في الزفة .
ما العذر الذي يمكن أن نلتمسه لهم ؟!!
هل التبست الأمور عليهم فصاروا لا يفهمونها ؟
أم قست قلوبهم فأصبحت مثل الحجارة أو أشد قسوة ؟
أم ختموا على أسماعهم وأبصارهم حتى لا يسمعوا أو يبصروا ما يعكر مزاجهم ؟
الحاضر المقيم الذي بدأ في 25يناير مازال مستمراً ولم يفارقنا بعد ؛ فلماذا طال عليهم الأمد فأصبح يوم 25 بالنسبة لهم وكأنه حدث منذ 5 سنوات وليس منذ 5 شهور ؟
الحاضر المقيم الذي تبلور يوم 28يناير ؛ فامتلك فيه الشعب المصرى شوارع مصر ليصول فيها ويجول معلناً أنه وحده صاحب السيادة وصاحب البلد ومصدر كل السلطات ؛ هذا الحاضر يحيط بنا وتبلعنا أحداثه وأحواله ووقائعه .
الحاضر المقيم الذي توهج يوم 11فبراير بخلع زعيم العصابة من السلطة ؛ هذا الحاضر مازالت كل رموزه وشخوصه ومحركيه على مسرح الأحداث ؛ ويمكن بكل بساطة أن تتم إعادة كل المشاهد ؛ طالما أن الزهايمر أصبح حجة المتغافلين.  ولقد تم بالفعل إعادة مشهد الاعتصام ؛ والمشهد الذى يليه –  مشهد الخلع أو التنحى أو التخلى  – مازال قابلاً للإعادة .
الحاضر المقيم الذي نعيشه يصرخ برسالة واحدة لكل من له قلب أو عينين أو أذنين ؛ مفادها بأن مطالب الثورة أوامر .. نعم أوامر وليست التماسات أو رجاءات أو تفضلات . مطالب الثورة أوامر واجبة التنفيذ فوراً دون مماطلة أو تسويف أو تبرير أو لف ودوران .

مطالب الثورة أوامر ؛ لأنها نابعة من مظالم تراكمت على مدى عشرات السنين ؛ تم فيها تجاهل حاجات الناس وأحلامهم ورغباتهم في الحياة الكريمة . وبالتالى لم يعد في جبال الصبر – التى جثمت فوق صدور المصريين لسنين وسنين – أى موضع لم يتم نقبه أو حفره لاستخراج مبررات العزم والاحتمال وتقبل الأعذار .
لقد نفذت جبال الصبر التى كانت هى الزاد الوحيد ؛ ولم يعد ظاهراً في الأفق إلا جبال الإنجاز والتغيير ؛ جبال الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية .
وبالتالى على من يمتلك الكفاءة والرؤية والإرادة والقدرة على تسلق هذه الجبال ؛ عليه أن يتقدم ليتصدر المشهد ؛ لأنه لم يعد مقبولاً أن يحكمنا طائفة من البشر من أصحاب الجلود السميكة والقلوب المتحجرة والعقول الفاقدة للإدراك والأمل والدهشة والشغف .
لم يعد مقبولاً أن يحكمنا من لا يتعلمون من التاريخ ولا يجيدون قراءة الحاضر .
لم يعد مقبولاً أن يتم الالتفاف على معظم مطالب الثورة ليتم تفريغها من مضمونها.
لم يعد مقبولاً أن ينفرد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة الفترة الانتقالية ؛ ويتجاهل كل القوى التى قامت بالثورة ؛ بل ويفرض عليها أجندنه النابعة من أعضائه الذين بحكم عملهم وتخصصهم وتاريخهم وما تربوا عليه ؛ غير قابلين للتعاطى مع أمور السياسة ومشكلات المجتمع المدنى ومهارات التخاطب مع الرأى العام وفهمه واحتماله .
لم يعد مقبولاً الإبقاء على وزير الداخلية في موقعه بعد نقله لقتلة المتظاهرين إلى الإدارات والمصالح المميزة لكى يحصلوا فيها على بدلات ومكافآت توازى عشرات أضعاف مرتباتهم . وكأن وزارة الداخلية تخرج لسانها لأهالى الضحايا ؛ وتقول لقتلة المتظاهرين : لا تخافوا نحن نحميكم .
لم يعد مقبولاً أن يتذرع رجال القضاء بأن الأوراق المعروضة أمامهم فى قضايا قتل المتظاهرين وقضايا الفساد لا تترك لهم من سبيل إلا الحكم بالبراءة ؛ لأنهم بحكم دراستهم القانونية يعلمون أن القاضى فى محكمته هو المحقق الأعلى والخبير الأعلى ؛ وبالتالى فمن حق القاضى الالتفات عن كل الأوراق وإعادة إجراء التحقيق فى القضية المعروضة أمامه بنفسه ؛ فيطلب جلب الشهود الذين عاينوا الوقائع والأحداث ؛ ويطلب انتداب لجان لإعادة كتابة التقارير الطبية . فمثلاً فى قضايا قتل المتظاهرين أمام أقسام الشرطة يعلم القضاة أن تحريات المباحث مجروحة لشبهة الانحياز ؛ وتحقيقات النيابة غير دقيقة لقلة الكفاءة أو الإهمال أو التواطؤ . وبالتالى على رجال القضاء أن يتقوا الله ويستوفوا الأوراق والأدلة فى تلك القضايا لأن هناك دماء سالت وأموال شعب بأكمله نُهبت ؛ ومن لم ولن يؤرقه ضميره من أجل كل ذلك فعليه أن يتبوأ مقعده من النار .
مطالب الثورة أوامر ؛ فمن يرى فى نفسه الاستعداد للامتثال لأوامر هذا الشعب الذى نفذ صبره ؛ فليتبوأ موقعه من كراسى السلطة التى هى ملك الشعب .
أما من لديهم ودن من طين وأخرى من عجين وبيصدروا لنا الطرشة ؛ وفاكرين العناد سياسة ؛ وعايشين دور الزهايمر ؛ وعاملين نفسهم مش واخدين بالهم إن البلد قامت فيها ثورة ؛ فنحن نقول لهم : مطالب الثورة أوامر ؛ واللى مستكبر ينفذ الأوامر فالباب يفوِّت جمل ؛ وخلاص الشعب المصرى اتعلم إن ما فيش مسئول يتبكى عليه ؛ لأن مصر ولادة ؛ واللى مش مصدق يجرب .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com