د. محمد محفوظ يكتب : الانقلاب في تركيا بين الحقيقة والمسرحية ؟!
" ينبغي أن يكون لدينا دستور ديني
ولا مكان للعلمانية في هذا الدستور "
إسماعيل كهرمان - رئيس البرلمان التركي
بتاريخ ٢٥ إبريل ٢٠١٦
ما أحلى الانقلاب لو لم يسفر عن إسقاط النظام ، وانما تسبب في ترسيخ وتثبيت دعائمه !!!
وما أروع الانقلاب لو كانت نتائجه هي : تمرير كل السياسات التي تم الانقلاب عليها ، وتدمير المؤسسات التي كان يسعى الانقلاب للحفاظ على بقائها !!!
وما ألذ الانقلاب لو كانت تتصدى لدباباته ومدرعاته وضباطه وجنوده ؛ قوات الشرطة بطبنجاتها وبنادقها الآلية ورشاشاتها !!!
وربما يتحسر الملك / فاروق ، ملك مصر الراحل في قبره . لو كان يعلم بأنه كان يمكن لبضعة مئات أو آلاف - من قوات الشرطة وأنصار الملكية والباشوات والبكوات وملاك الأراضي - أن تقبض على حفنة الضباط الأحرار قبل أن يُسقطوا دولة الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي .
ولكن ، هكذا صارت الأحداث في تركيا . وصار الانقلاب أشبه بلعبة البوكيمون الإلكترونية ، يتم مطاردة الذين قاموا به في شوارع السلطنة العثمانية الغابرة والسلطنة الأردوغانية المقبلة .
ولهذا سيستمر أردوغان وحزبه وإعلامه في مضغ اللبانة المروجة لأكذوبة مفادها : أن الشعب التركي هو الذي وقف في وجه الانقلاب العسكري ، الذي بدأ ١٥ يوليو ٢٠١٦ ، وفشل ولم يكتمل ومات رضيعا في مهده !!! وسيتم الإلحاح على تكرار مشاهد حصرية ومحدودة لتصدي مجموعات من المواطنين لبعض الضباط والمجندين المشتركين في الانقلاب ، والتعدي عليهم وعلى دباباتهم وآلياتهم .
ولكن الثابت أن الواقع يشهد بعكس ما يريد أردوغان وحزبه الترويج له . فلم تنقل شاشات الفضائيات أي تحركات لحشود جماهيرية كاسحة تفيض بها الشوارع والميادين في مواجهة القوات الانقلابية . وإنما نقلت هذه الشاشات صورا لمجموعات صغيرة متفرقة ، توضح عصبيتها المفرطة أنها من عناصر وكوادر حزب العدالة والتنمية المسلحين بأسلحة شخصية . ورغم أن هؤلاء جزء بالفعل من الشعب ، الا أن ولاءهم هو حصريا لحزب العدالة والتنمية وليس للأمة التركية .
ولهذا تثير الملابسات الغرائبية لهذا الانقلاب الذي يشبه الزوبعة في الفنجان ، تثير الشكوك والوساوس حول مدى تورط أو عدم تورط اردوغان وحزبه وحكومته في التخطيط والتدبير له ، لإطلاق يد حزب العدالة والتنمية في تغيير الهوية العلمانية للدولة التركية ، واستعادة الأيدلوجية العثمانية ، بعد القضاء علي آخر حصون الأيدلوجية الأتاتوركية المتمثلة في الدستور والجيش .
وهذه الشكوك والوساوس لا تنبع من أهواء نفسية أو شطحات عقلية ، وإنما من مقدمات منطقية تردد صداها في وسائل الإعلام الدولية .
فبتاريخ ٢١ مارس ٢٠١٦ ، نشر مركز أميركان إنتربرايز إنستيتيوت ، مقالا لمايكل روبن ، الكاتب حاليا والمسئول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية . وكان المقال تحت عنوان : هل سيكون هناك انقلاب عسكري ضد أردوغان؟
وفي ٣١ مارس ٢٠١٦ نشرت قيادة الأركان التركية بياناً على موقعها الإلكتروني ، تناولت فيه ما قالت أنه : إدعاءات صحفية تطال المؤسسة العسكرية وتتعلق بمحاولة القيام بانقلاب عسكري ، وبوجود أفراد داخل المؤسسة العسكرية يتبعون لـ " الكيان الموازي " في إشارة إلى حركة "فتح الله جولن " . وقد نفى الجيش في البيان بشكل حازم نيته القيام بانقلاب عسكري في البلاد ، مؤكّداً أنّ الجيش التركي ملتزم بدستور البلاد ، ويعمل تحت إطاره في كل الظروف الصعبة في مختلف أنحاء البلاد من أجل حماية الشعب من المخاطر التي يتعرّض لها . كما أكّد البيان على أنّ الانضباط والطاعة غير المشروطة لعناصره وعلى عمله وفق مبدأ التسلسل القيادي ، هو ما يُمكّن الجيش بأن لا يسمح بأن يتم خرق سلسلة القيادة أو أن تتعرض للخطر .
أنظر : http://www.turkpress.co/node/20542
نحن إذن أمام انقلاب تتحدث وسائل الإعلام والمراكز البحثية عن إشاراته وبوادره . ويتحدث رئيس الأركان عن إستحالة وقوعه لانتفاء مسبباته وبواعثه .
ولكن رغم تلك الإشارات ونفيها ، يقع الانقلاب دون تمكن الأجهزة السيادية التركية أمنيا ومخابراتيا من رصده ، أو ضبط واحد أو اثنين من جنوده أو ضباطه .
والأغرب ، أن تلك القدرة الفذة للانقلابيين على الخداع التكتيكي وتأمين الاتصالات والاتفاقات فيما بينهم - وصولا إلى ساعة الصفر - تقابلها خيبة كبرى لذات الانقلابيين فيما يتعلق بمحدودية عددهم وضعف سيطرتهم وقلة إمكانياتهم وسرعة استسلامهم .
ولهذا ، فإن رفع الحقائق من على الأرض يوضح بأن الانقلاب الفاشل ربما لن يخرج عن مسارين افتراضيين :
المسار الافتراضي الأول : أن الانقلاب تم بعلم مسبق لدى أردوغان ناتج عن معلومات استخبارية تم رصدها والتاكد منها ومتابعتها . واختار أردوغان ترك حبل المؤامرة ممدودا وعدم قطعه ، لكي يلفه حول رقاب الانقلابيين بدلا من وأد الانقلاب قبل ميلاده . الأمر الذي يتيح له استخدام فزاعة الانقلاب ، لإطلاق يده ويد حكومته وحزبه في استكمال عملية تحويل ولاء الجيش التركي كله لحزب العدالة والتنمية ، وإنهاء الدور التاريخي للقوات المسلحة في حماية الهوية العلمانية لتركيا .
المسار الافتراضي الثاني : أن الانقلاب تم بإيعاز وتدبير وتخطيط من أردوغان نفسه وقيادات حكومته وحزبه ، من خلال عناصر تم دسها وسط الجيش لكشف البؤر والعناصر الانقلابية بين صفوفه ، ومن ثم تشجيع هذه العناصر على القيام بالانقلاب ، الذي تم الإيهام بتأكيد نجاحه من خلال الادعاء كذبا بوجود دعم غير محدود بين صفوف الجيش للانضمام للانقلاب حال انطلاقه .
.. والمحصلة ، تأسيسا على الفرض الأول أو الفرض الثاني ، أن انقلابا مثل الزوبعة داخل الفنجان ، سيؤدي إلى تقوية أردوغان وليس إضعافه ، وإكمال مخططه الساعي لأسلمة الدستور بعد عقود من علمنته ، ورئاسية النظام السياسي بعد عقود من برلمنته . ومن ثم استكمال سيطرة حزب العدالة والتنمية علي آخر حصون الأتاتوركية التي تمثلت في الجيش التركي بكل تشكيلاته .
ولكن ، إذا كان لا يجب أن نحبذ الانقلابات العسكرية لتغيير النظم السياسية الديمقراطية وإسقاطها . فإنه وبالمقابل ، لا يجب أن نتغافل عن تلاعب النظم الديكتاتورية بالأدوات الانتخابية لإرتداء أقنعة الديمقراطية ، وممارسة الاستبداد تحت شعاراتها .
وإذا كان يجب أن نحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها . فإنه بالمقابل ينبغي أن لا نتهاون مع دعم الدول الديمقراطية لنظم استبدادية ، لمجرد تحقيق مصالح مرحلية أو انتخابية ، سياسية كانت أم اقتصادية .
قد يكون أردوغان نجح من خلال " مسرحية " غير مسلية وفاقدة للحبكة الدرامية ، في تثبيت اسمه داخل سجلات الدولة التركية ، وسجلات السياسة الدولية ، بالإضافة لسجلات الدراما التركية .
ولكنه وبنفس القدر ، نجح في حجز خرابة له داخل مزبلة التاريخ الجهنمية . ليشغل مكانه المستحق بجوار العديد من رؤساء وأمراء وملوك وسلاطين من الأوباش الأوغاد المستبدين ، حُماة الفشل والفساد والإجرام واللصوصية .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
" ينبغي أن يكون لدينا دستور ديني
ولا مكان للعلمانية في هذا الدستور "
إسماعيل كهرمان - رئيس البرلمان التركي
بتاريخ ٢٥ إبريل ٢٠١٦
ما أحلى الانقلاب لو لم يسفر عن إسقاط النظام ، وانما تسبب في ترسيخ وتثبيت دعائمه !!!
وما أروع الانقلاب لو كانت نتائجه هي : تمرير كل السياسات التي تم الانقلاب عليها ، وتدمير المؤسسات التي كان يسعى الانقلاب للحفاظ على بقائها !!!
وما ألذ الانقلاب لو كانت تتصدى لدباباته ومدرعاته وضباطه وجنوده ؛ قوات الشرطة بطبنجاتها وبنادقها الآلية ورشاشاتها !!!
وربما يتحسر الملك / فاروق ، ملك مصر الراحل في قبره . لو كان يعلم بأنه كان يمكن لبضعة مئات أو آلاف - من قوات الشرطة وأنصار الملكية والباشوات والبكوات وملاك الأراضي - أن تقبض على حفنة الضباط الأحرار قبل أن يُسقطوا دولة الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي .
ولكن ، هكذا صارت الأحداث في تركيا . وصار الانقلاب أشبه بلعبة البوكيمون الإلكترونية ، يتم مطاردة الذين قاموا به في شوارع السلطنة العثمانية الغابرة والسلطنة الأردوغانية المقبلة .
ولهذا سيستمر أردوغان وحزبه وإعلامه في مضغ اللبانة المروجة لأكذوبة مفادها : أن الشعب التركي هو الذي وقف في وجه الانقلاب العسكري ، الذي بدأ ١٥ يوليو ٢٠١٦ ، وفشل ولم يكتمل ومات رضيعا في مهده !!! وسيتم الإلحاح على تكرار مشاهد حصرية ومحدودة لتصدي مجموعات من المواطنين لبعض الضباط والمجندين المشتركين في الانقلاب ، والتعدي عليهم وعلى دباباتهم وآلياتهم .
ولكن الثابت أن الواقع يشهد بعكس ما يريد أردوغان وحزبه الترويج له . فلم تنقل شاشات الفضائيات أي تحركات لحشود جماهيرية كاسحة تفيض بها الشوارع والميادين في مواجهة القوات الانقلابية . وإنما نقلت هذه الشاشات صورا لمجموعات صغيرة متفرقة ، توضح عصبيتها المفرطة أنها من عناصر وكوادر حزب العدالة والتنمية المسلحين بأسلحة شخصية . ورغم أن هؤلاء جزء بالفعل من الشعب ، الا أن ولاءهم هو حصريا لحزب العدالة والتنمية وليس للأمة التركية .
ولهذا تثير الملابسات الغرائبية لهذا الانقلاب الذي يشبه الزوبعة في الفنجان ، تثير الشكوك والوساوس حول مدى تورط أو عدم تورط اردوغان وحزبه وحكومته في التخطيط والتدبير له ، لإطلاق يد حزب العدالة والتنمية في تغيير الهوية العلمانية للدولة التركية ، واستعادة الأيدلوجية العثمانية ، بعد القضاء علي آخر حصون الأيدلوجية الأتاتوركية المتمثلة في الدستور والجيش .
وهذه الشكوك والوساوس لا تنبع من أهواء نفسية أو شطحات عقلية ، وإنما من مقدمات منطقية تردد صداها في وسائل الإعلام الدولية .
فبتاريخ ٢١ مارس ٢٠١٦ ، نشر مركز أميركان إنتربرايز إنستيتيوت ، مقالا لمايكل روبن ، الكاتب حاليا والمسئول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية . وكان المقال تحت عنوان : هل سيكون هناك انقلاب عسكري ضد أردوغان؟
وفي ٣١ مارس ٢٠١٦ نشرت قيادة الأركان التركية بياناً على موقعها الإلكتروني ، تناولت فيه ما قالت أنه : إدعاءات صحفية تطال المؤسسة العسكرية وتتعلق بمحاولة القيام بانقلاب عسكري ، وبوجود أفراد داخل المؤسسة العسكرية يتبعون لـ " الكيان الموازي " في إشارة إلى حركة "فتح الله جولن " . وقد نفى الجيش في البيان بشكل حازم نيته القيام بانقلاب عسكري في البلاد ، مؤكّداً أنّ الجيش التركي ملتزم بدستور البلاد ، ويعمل تحت إطاره في كل الظروف الصعبة في مختلف أنحاء البلاد من أجل حماية الشعب من المخاطر التي يتعرّض لها . كما أكّد البيان على أنّ الانضباط والطاعة غير المشروطة لعناصره وعلى عمله وفق مبدأ التسلسل القيادي ، هو ما يُمكّن الجيش بأن لا يسمح بأن يتم خرق سلسلة القيادة أو أن تتعرض للخطر .
أنظر : http://www.turkpress.co/node/20542
نحن إذن أمام انقلاب تتحدث وسائل الإعلام والمراكز البحثية عن إشاراته وبوادره . ويتحدث رئيس الأركان عن إستحالة وقوعه لانتفاء مسبباته وبواعثه .
ولكن رغم تلك الإشارات ونفيها ، يقع الانقلاب دون تمكن الأجهزة السيادية التركية أمنيا ومخابراتيا من رصده ، أو ضبط واحد أو اثنين من جنوده أو ضباطه .
والأغرب ، أن تلك القدرة الفذة للانقلابيين على الخداع التكتيكي وتأمين الاتصالات والاتفاقات فيما بينهم - وصولا إلى ساعة الصفر - تقابلها خيبة كبرى لذات الانقلابيين فيما يتعلق بمحدودية عددهم وضعف سيطرتهم وقلة إمكانياتهم وسرعة استسلامهم .
ولهذا ، فإن رفع الحقائق من على الأرض يوضح بأن الانقلاب الفاشل ربما لن يخرج عن مسارين افتراضيين :
المسار الافتراضي الأول : أن الانقلاب تم بعلم مسبق لدى أردوغان ناتج عن معلومات استخبارية تم رصدها والتاكد منها ومتابعتها . واختار أردوغان ترك حبل المؤامرة ممدودا وعدم قطعه ، لكي يلفه حول رقاب الانقلابيين بدلا من وأد الانقلاب قبل ميلاده . الأمر الذي يتيح له استخدام فزاعة الانقلاب ، لإطلاق يده ويد حكومته وحزبه في استكمال عملية تحويل ولاء الجيش التركي كله لحزب العدالة والتنمية ، وإنهاء الدور التاريخي للقوات المسلحة في حماية الهوية العلمانية لتركيا .
المسار الافتراضي الثاني : أن الانقلاب تم بإيعاز وتدبير وتخطيط من أردوغان نفسه وقيادات حكومته وحزبه ، من خلال عناصر تم دسها وسط الجيش لكشف البؤر والعناصر الانقلابية بين صفوفه ، ومن ثم تشجيع هذه العناصر على القيام بالانقلاب ، الذي تم الإيهام بتأكيد نجاحه من خلال الادعاء كذبا بوجود دعم غير محدود بين صفوف الجيش للانضمام للانقلاب حال انطلاقه .
.. والمحصلة ، تأسيسا على الفرض الأول أو الفرض الثاني ، أن انقلابا مثل الزوبعة داخل الفنجان ، سيؤدي إلى تقوية أردوغان وليس إضعافه ، وإكمال مخططه الساعي لأسلمة الدستور بعد عقود من علمنته ، ورئاسية النظام السياسي بعد عقود من برلمنته . ومن ثم استكمال سيطرة حزب العدالة والتنمية علي آخر حصون الأتاتوركية التي تمثلت في الجيش التركي بكل تشكيلاته .
ولكن ، إذا كان لا يجب أن نحبذ الانقلابات العسكرية لتغيير النظم السياسية الديمقراطية وإسقاطها . فإنه وبالمقابل ، لا يجب أن نتغافل عن تلاعب النظم الديكتاتورية بالأدوات الانتخابية لإرتداء أقنعة الديمقراطية ، وممارسة الاستبداد تحت شعاراتها .
وإذا كان يجب أن نحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها . فإنه بالمقابل ينبغي أن لا نتهاون مع دعم الدول الديمقراطية لنظم استبدادية ، لمجرد تحقيق مصالح مرحلية أو انتخابية ، سياسية كانت أم اقتصادية .
قد يكون أردوغان نجح من خلال " مسرحية " غير مسلية وفاقدة للحبكة الدرامية ، في تثبيت اسمه داخل سجلات الدولة التركية ، وسجلات السياسة الدولية ، بالإضافة لسجلات الدراما التركية .
ولكنه وبنفس القدر ، نجح في حجز خرابة له داخل مزبلة التاريخ الجهنمية . ليشغل مكانه المستحق بجوار العديد من رؤساء وأمراء وملوك وسلاطين من الأوباش الأوغاد المستبدين ، حُماة الفشل والفساد والإجرام واللصوصية .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com