16 أبريل 2016

الموت السياسي للرئيس

د. محمد محفوظ .. يكتب : الموت السياسي للرئيس

" أتى أمر الله فلا تستعجلوه .. "
سورة النحل / الآية ١

مات السيسي سياسيا .
فمثلما مات الملك فاروق سياسيا عقب هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام ١٩٤٨ ، ثم مات فعليا في مارس عام ١٩٦٥ .
ومثلما مات جمال عبد الناصر سياسيا عقب هزيمة يونيه ١٩٦٧ ، ثم مات فعليا في سبتمبر  ١٩٧٠ .
ومثلما مات أنور السادات سياسيا عقب اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ ، ثم مات فعليا في أكتوبر من العام ذاته .
ومثلما مات محمد مرسي سياسيا عقب صدور إعلانه الديكتاتوري التمكيني في نوفمبر ٢٠١٢ .
فقد مات السيسي سياسيا عقب موافقته على أحقية المملكة العربية السعودية في ملكية جزيرتي تيران وصنافير في إبريل٢٠١٦ .
ومثلما لا يعود أحد من الموت الفعلي . فإن أحدا لا يعود أيضا من الموت السياسي . فالموت موت ، فعليا كان أم سياسيا .
كتب السيسي شهادة وفاته السياسية بنفسه . 
وعندما يأتي ملك الموت السياسي ، تبتعد الأجهزة القريبة من الرئيس عن فراش الموت ، وتبدأ المؤسسات في التعامل مع الشبح السياسي للرئيس بمنطق المسايرة لا بمنطق الولاء . فالأجهزة والمؤسسات رغم أنها قد تتفانى في خدمة الرئيس ، إلا أن ولاءها عند الأزمات ليس إلا لنفسها .
العزلة التي يعاني منها أي رئيس بعد موته السياسي ، تجعله زاهدا في الحكم ، ولكن كبرياء السلطة يمنعه من اعتزالها . فعندما تفقد السلطة بريقها ويتشرخ نفوذها ، يصبح أمر مغادرتها - إما بالموت الفعلي أو بالرحيل لنهاية المدة - بمثابة آمال وأحلام تراود النفس الرئاسية وتتوثب لها .
مات السيسي سياسيا .. لأنه ألقى على رؤوس الناس قنبلة مفادها : كل تضحياتكم وكبرياءكم ووطنيتكم وانتفاضاتكم وثوراتكم لا وزن لها. فما زلتم رعايا في بلادكم ، لا اعتبار لكم ، ولا رأي لكم في أرضكم أو حدودكم أو اتفاقياتكم أو معاهداتكم . والاستهانة والاستخفاف مازالتا الميراث المتبع لتجاهل ردود أفعالكم .
مات السيسي سياسيا .. لأنه أسقط الشعب من معادلة الدولة ، وظن لوهلة أن الدولة : سلطة ؛ وكفى .
مثلما يظن " حامل التوكيل العام " بأن له حق التصرف دون استشارة " صاحب التوكيل " . وينسى أنه ما حمل التوكيل إلا ليمثل صاحبه لا لينفي إرادته ويسلبه مشيئته .
مات السيسي سياسيا .. ومهما بدت أمارات الكبرياء والممانعة . فثمة حقائق سترسم على الأرض لوحاتها .
ولا تعتمد تلك الحقائق على التظاهرات أو الاحتجاجات ومدى حجمها أو عددها أو تواتر استمرارها . كما لا تعتمد أيضا على ما ستثبته الدراسات الفنية من تأكيد تبعية الجزر للسعودية أو نفيها . وذلك لأنه ما كان قبل التنازل عن الجزيرتين ، لن يكون بكل بساطة مثل ما هو بعدها . فثمة علامات فارقة وومضات كاشفة تعري أساسات الثقة وتزلزل ثباتها .
فلن يغفر قطاع كبير من رجال القوات المسلحة للسيسي - وهو خارج من بين صفوفهم - ما فعله واقترفه . ومهما ارتدى القادة أقنعة المسايرة ، فإن القاعدة العريضة من ضباطهم وأفرادهم ستشعر بالخجل من سلطة أهانت تضحياتهم وأهدرت نضالهم . بالطبع لن يخرجوا على قائدهم الأعلى ، ولكن ربما يكون ملائما أن يخرجوه هو - ولو جزئيا - من دائرة الصورة التي تصدِّرها للمجتمع أجهزة دعايتهم وإعلامهم .
كما ستبدأ الأجهزة السيادية في فتح قنوات الاتصال لتبادل المعلومات فيما بينها ، خلافا لتنافسها السابق من أجل حجبها عن بعضها بعضا تقربا للقيادة السياسية وطمعا في الانفراد بثقتها . بالطبع لن تطرمخ الأجهزة على المعلومات أو تزيف بعضها ، ولكنها بالتأكيد ستتباطأ في رفعها كي لا تحقق أثرا يساهم في توريطها .
كما ستبدأ باقي مؤسسات الدولة في التشرنق حول ذاتها ؛ لوقاية نفسها من أي ركام يتساقط من جثة سلطة باتت ترقد في نعشها .
مات السيسي سياسيا . ولكن .. ماذا بعد ؟؟؟
بالطبع ، لا تملك مصر رفاهية رحيل رئيس قبل نهاية فترته الرئاسية ، حتى لو أدار السلطة من المقابر السياسية في قصر العروبة أو الاتحادية . 
ولكنها تملك أن تهرب من قضاء السياسة إلى قضاء السياسة ، بأن تبادر بتفعيل نصوص دستورها ، ودسترة رئيسها من خلال حصره في المساحة الدستورية المرسومة له .
وبالتالي ، لن يسامح التاريخ مجلس النواب لو منح الثقة لحكومة شريف إسماعيل بكل رجالها ونسائها . فالحكومة التي فقدت المرؤة السياسية والنخوة الوطنية ولم يبادر رجل أو امرأة من أعضائها بالامتعاض أو بالاعتراض على الاستهانة والاستخفاف بالشعب الذي يدفع مرتباتها ويمول مخصصاتها ، هي حكومة لا تستحق البقاء في مقاعد السلطة داخل وطنها . 
لذلك على مجلس النواب أن يعلن سحب الثقة من تلك الحكومة الخائرة ، ويبادر بتشكيل حكومته . 
وقد يرى الكثيرون بأن البرلمان بتشكيلته الحالية لن يأتي بحكومة أفضل من الحكومة القائمة . ولكننا نقول بأن حكومة ائتلافية تتنوع أجنحتها لتنال ثقة برلمانها ، وتتجادل تياراتها السياسية لرسم سياساتها، ويتمرد على توجهاتها بعض أعضاءها ، هي حكومة أفضل لمصر من حكومة موظفين خاضعين خانعين خائرين ، لا رأي ولا لون ولا طعم لهم .
وعلى الحكومة الائتلافية ومجلس النواب ؛ أن يعضوا بأسنانهم على دسترة السيسي بموجب نصوص دستور النوايا الحسنة ، ويؤكدوا على محدودية سلطاته في مواجهة سلطاتهم . 
ولئن كان الوفاء يحتم عليهم بأن يحفظوا للسيسي مكانته وهيبته حتى نهاية فترته تقديرا لوقوفه ضد الإخوان مع الشعب في ثورته . فإن هذا لا يمنع من التزامهم بنسف ما سبق وأعوج من سياساته وقراراته . وأولها، رفض التصديق على إتفاقية " تيران وصنافير " ،  وتخيير المملكة العربية السعودية للجوء إلى الجهات الدولية للمطالبة بما تراه حقا لشعبها وحكومتها وأرضها .
مات الرئيس سياسيا .. 
ولكن يمكن لمصر أن تحفظ المسافة بينها وبين مصيره . لو اعتنق مجلس نوابها حكمة خالدة مفادها أن : إكرام الميت سياسيا .. دفن سياساته . 
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق