د. محمد محفوظ .. يكتب : السيسي .. ونقص القادرين على التمامِ
http://albedaiah.com/articles/2015/05/20/89730
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمامِ
( المتنبي )
أما قبل .. فهذا حديث محب صبور .
وأما بعد .. فإن التوقعات تكون على مستوى التقدير .
والثقة تكون على قدر الحب والتوقير .
ولكن تظل التوقعات مجرد أمنيات حتى تلامس أرض الواقع ودنيا الناس .
وتظل الثقة محض حسن ظن مالم يؤكدها ما تصل إليه الأعمال من حسن مآل .
ويظل الحب موطنه القلب ولكن يبقى العقل هو القائد والموجه وصاحب اللجام .
ولهذا يدخل السيسي وهو يقترب من إتمام العام الأول لرئاسته في هذه الزاوية التي توزن فيها الأقوال بميزان الأفعال ، وتقاس فيها الأحلام بمقاييس التحقق والإنجاز ، وتتوارى فيها العاطفة خلف ما يرصده العقل من مواطن الضعف والتقصير .
وتوضح موازين الأفعال ومقاييس التحقق والإنجاز ، بأن الطريق الذي يسير فيه السيسي تحكمه في الغالب الأعم 3 من المحددات المادية و 2 من المحددات المعنوية .
أولاً - المحددات المادية :
- المحدد الأول يتمثل في أن السيسي يري أن الأزمة التي تعاني منها مصر هي : أزمة تمويل ، ومن ثم فإن توفر التمويل هو الكفيل بتقديم الدفعة التي تساهم في حل مشاكل مصر المزمنة ؛ في مجالات التعليم والصحة والكهرباء والمياه والطرق والإسكان والزراعة والصناعة .. إلخ . وينطلق السيسي في تلك الرؤية من اتخاذه لدول الخليج باعتبارها النموذج العربي الإسلامي الشرق أوسطي الذي يؤكد بأن وفرة التمويل تؤدي إلى جودة الخدمات وارتفاع مستويات الرعاية التي تقدمها الدولة لمواطنيها . وأيضا من استيعابه لتجارب دول مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية باعتبارها جميعاً اعتمدت في انطلاقتها الأولى على التمويل الغربي سواء من مشروع مارشال أو ما كان على غراره .
- المحدد الثاني يتمثل في أن السيسي يعتمد على : إستراتيجية المحاور البديلة ، تحسباً لعدم التورط في مغامرة فك بكرة الخيوط المتراكبة المتعقدة وعدم الغوص في مستنقع المشاكل المزمنة المتراكمة ؛ التي استوطنت الجسد المصري على مدى العقود الماضية . وهذه الإستراتيجية في صورتها الأبسط ترى مثلاً بأن إنشاء طريق جديد أفضل من إصلاح الطريق القديم المتهالك . وبالتالي لا تنشغل هذه الإستراتيجية بمدى استقامة الخط بين النقطة أ والنقطة ب بل هي تؤسس لخط مستقيم يصل بين نقطتين جديدتين النقطة ج والنقطة د .
- المحدد الثالث يتمثل في أن السيسي يتبنى : منهج احترام المؤسسات ، انطلاقاً من خلفية عسكرية تعتمد على خبرة علمية في مناهج الإستراتيجية توفر قدرة على استقراء التهديدات والتربصات القائمة والمحتملة على المستويات الداخلية والاقليمية والعالمية . ولذلك تبدو المؤسسات في ظل هذا المنهج بمثابة الأركان التي ينبغي ضمان استقرارها وثباتها وعدم قلقلتها باعتبار تصدعها أو انهيارها هو الثغرة التي ستنفذ منها أدوات التربص وأي أطراف متآمرة .
ثانياً - المحددات المعنوية :
- يتمثل المحدد المعنوي الأول في : منهج الدعوة إلى القيم الأخلاقية الفاضلة والسلوكيات الراقية ، ويأخذ هذا المحدد مكانه إما في دعوات رئاسية مستمرة في الخطابات والتصريحات للالتزام بالأخلاقيات ، أو من خلال ممارسات رئاسية فعلية تتسم بالتواضع والسماحة وعفة اللسان وفضيلة الاعتذار والمصارحة والمكاشفة .
- ويتمثل المحدد المعنوي الثاني في الدعوة المستمرة إلى ضرورة : تجديد الخطاب الديني ، وهذه الدعوة تهدف إلى إنتاح خطاب ديني عصري يواجه فتاوى وممارسات التطرف والتشدد والغلو ، بما يضمن تجفيف منابع الإرهاب التي تتلفع بعباءة الدين .
.. هذه هي المحددات الخمسة المادية والمعنوية التي تمثل المعالم الرئيسية للطريق الذي يسير فيه السيسي ، بعض هذه المحددات أعلنها السيسي في خطبه وتصريحاته ، والبعض الآخر يتم استقراءه من واقع سياساته التي يتبعها في إدارة الدولة .
ونظراً لأنه لا يمكن تقييم تلك المحددات إلا في إطار السياق المحيط بالرئيس والذي يعمل في ظله . فإن المعادلة التي يمكن من خلالها تقييم تلك المحددات ينبغي أن لا تخلو من عامل هام ومحوري وحاسم وهو : الشعبية الجارفة والجماهيرية الكاسحة ، التي تحيط بالرئيس ويحظى بها عند قطاع كبير من المصريين .
وهذه الشعبية والجماهيرية ليست بمثابة تشريف وشرفة يتطلع منها الرئيس ليلوح لمحبيه ويستمع لهتافاتهم ، وإنما هي تكليف وكلفة باهظة الثمن ينبغي ترجمتها على أرض الواقع إلى سياسات تغير حياة هذه الجماهير إلى الأفضل .
ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام يتمثل في الآتي :
هل تم ترجمة تلك الشعبية والجماهيرية التي يحظى بها الرئيس ، بحيث تنعكس على مجمل المحددات التي تمثل معالم الطريق الذي يسير فيه ؟
ولعل الإجابة وبكل الأسف .. مازالت بعيداً عن نعم ؛ وأكثر قرباً إلى لا . فحتى الآن لم يتم ترجمة تلك الشعبية إلى محددات تتضمن سياسات أو مناهج أو أساليب أو إستراتيجية تتلاءم مع زخم هذه الشعبية وقوتها وفيضها .
فالمراقب المسلح بأدوات الرصد والتحليل ، والمواطن المكابد لويلات العشوائية والفساد والتقصير ، كلاهما لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة محبطة مفادها أنه : حتى الآن لم تشهد أرض الواقع المرير مستويات مقبولة أو ملموسة من التغيير .
وبالتالي فإن الممانعة التي تسد الأبواب أمام التغيير ، تستدعي ضرورة تقييم المحددات التي ترسم معالم الطريق الذي يسير فيه الرئيس ؛ من أجل كشف ما يعتريها من خطأ أو قصور .
فالمحدد الأول الذي يتعامل مع الأزمة في مصر باعتبارها أزمة تمويل هو محدد ينبغي مراجعته ، إذ أن أزمة مصر في حقيقتها ليست أزمة تمويل بقدر ما هي : أزمة في إدارة وتنمية الموارد والأصول ، الموارد الطبيعية والبشرية والأصول العقارية والصناعية والتجارية والتاريخية التي تمتلكها بالفعل الدولة المصرية . الأمثلة التي توضح هذه الأزمة لا تحصى ، نختار منها مثلاًً محلياً معاصراً يتمثل في كل من : مستشفى سموحة الجامعي ومستشفى برج العرب الجامعي بمحافظة الإسكندرية ، فكلاهما كان قد تم افتتاحهما ورغم ذلك ظلا خارج إطار التشغيل لسنوات رغم تجهيزهما بكل المستلزمات والإمكانيات الطبية بتكلفة تصل لمليار جنيه للمستشفى الواحد . أما مشروع توشكي الذي ابتلع المليارات فهو نموذج فاضح صائح تعجز أمامه الكلمات .
إذن ما كانت الأزمة في هذا الأمثلة المحلية المعاصرة أزمة تمويل ، وإنما أزمة في إدارة وتنمية الموارد والأصول أو بالأحرى إهدار الموارد والأصول وتبديدها . وقس على هذا المثل الآلاف والآلاف من الحالات الفاضحة المتبجحة التي يتسرب فيها التمويل - رغم توفره - في بلاعة مهولة ليس لها قاع اسمها : الفشل في إدارة وتنمية الموارد والأصول .
أما المحدد المادي الثاني الذي يتبني إستراتيجية المحاور البديلة بدلاً من أن يتبني إستراتيجيتين أكثر ملاءمة لظروف الواقع المصري ، وهما : إستراتيجية المحاور المتوازية ؛ أو : إستراتيجية المحاور المتشابكة المتكاملة ، باعتبار أن أي من الإستراتيجيتين يمكن أن تكون الأكثر توافقاً للتعامل مع المحددات المادية على طريق العمل الوطني ، بخلاف إستراتيجية المحاور البديلة التي هي الأكثر تناسباً مع المحددات المعنوية في ظل واقعنا الحالي .
وتعني : إستراتيجية المحاور المتوازية ، توزيع الاهتمام بصورة متوازية ، بما يعني - مثلاً - إقامة طريق جديد بالتوازي مع إصلاح الطريق القديم . بينما : إستراتيجية المحاور المتشابكة المتكاملة ؛ تهتم هي الأخرى بالطريقين القديم والجديد معاً ، ولكن مع ربطهما بالدائرة الواسعة لكل الأبعاد المتشابكة والمتكاملة لتحقيق التنمية الشاملة .
ولعل أكبر مثال على فشل إستراتيجية المحاور البديلة فيما يتعلق بالمحددات المادية ، يتمثل في التجربة المصرية المعاصرة الخاصة بإنشاء المجتمعات العمرانية الجديدة التي تصل إلى 27 مدينة جديدة ؛ كانت جديدة فقط بمنطق الزمن ولكنها كانت عتيقة بمنطق الإدارة والتنمية الذي انتقل إليها من المدن الأم التي أهملت استراتيجية المحاور البديلة تطويرها ، مما أدى إلى أن تصبح معظم هذه المدن الجديدة مدناً هامشية ليس بمفهوم الجغرافيا فقط ، ولكن أيضاً بمفهوم التنمية الشاملة .
أما المحدد المادي الثالث الخاص بمنهج احترام المؤسسات ، فإنه رغم وجاهته في ظل الظرف الأمني الدقيق الذي تمر به مصر وهي تحارب الإرهاب ، إلا أن الاقتصار على التعامل مع المؤسسات باعتبارها هياكل تنظيمية دون توسيع دائرة الرؤية لكي يتم التعامل معها باعتبارها كيانات وظيفية تمارس دوراً وظيفياً محدداً في المجتمع ، هذا المنحى غير الصائب في التعامل مع المؤسسات هو الذي يجسم حالة الممانعة الداخلية المريرة التي تعطل أي محاولة لإصلاحها .
لذلك فإن المنهج الأجدر بالاتباع هو : منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات . لأنه بينما يؤدي منهج احترام المؤسسات إلى تأكيد الحرص على استمرار وجودها ، فإن منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات هو الذي يربط بين احترام وجودها وبين قيامها بدورها الوظيفي المنوط بها ، فإذا ما تخلت المؤسسات عن الالتزام بدورها أو أخلت به ، فإن التدخل الحاسم الجازم لإصلاحها حتى تقوم بما هو منوط بها هو الذي سيضمن استمرارها وليس .. تصنيمها .
ومن هنا فإن منهج احترام المؤسسات هو منهج يساهم في تصنيم المؤسسات ودعم عوامل الممانعة بداخلها لرفض أي إصلاح مؤسسي . بينما منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات هو الذي يضمن فتح النوافذ والأبواب لتقبل الإصلاح والتطوير والقضاء على عوامل القصور المتراكمة المتوارثة المزمنة . ولعل الأمثلة واضحة فيما يتعلق بالجهاز الإداري للدولة والمؤسسة الأمنية والمؤسسة القضائية ومؤسسة الكنيسة ومؤسسة الأزهر .. إلى آخر منظومة المؤسسات المصرية . فقد أدى منهج احترام المؤسسات إلى تصنيمها وتضخيم عوامل الممانعة للإصلاح المؤسسي الكامنة في صلب بنيانها .
.. ونصل الآن إلى تقييم المحددين المعنويين اللذين يمثلا معالم الطريق الذي يسير فيه السيسي .
وفي هذا المجال تبرز إستراتيجية المحاور البديلة باعتبارها الإستراتيجية الأكثر ملاءمة للواقع المصري ، والتي ينبغي أن تحظى بالأولوية لتكون هي الجديرة بالاتباع لتحقيق الأهداف المنوطة بهذين المحددين .
فبالنسبة للمحدد المعنوي الأول الذي يتعلق بمنهج الإعلاء من القيم الأخلاقية الفاضلة والسلوكيات الراقية الذي يتبعه الرئيس من خلال التزامه بمسلك أخلاقي نبيل في أقواله وتعاملاته . فإن هذا المنهج رغم نبله ومثاليته يبدو بمثابة وضع للعربة أمام الحصان . ففي مجال القيم الأخلاقية ، فإن الاعتقاد بأن مجرد الاستمرار في الدعوة إلى الإيمان بالقيم الأخلاقية الفاضلة ، هو أمر سيؤدي بالضرورة إلى الالتزام بالسلوكيات الراقية ، هذا الاعتقاد لا يتفق مع الفهم العلمي المتراكم عن الطبيعة البشرية لعامة الناس . إذ أن الواقع يقرر بأن إنشاء نظام صارم وحاسم لإجبار الناس على الالتزام بالسلوكيات الراقية هو الذي سيؤدي بمرور الوقت إلى ترسيخ القيم الفاضلة في وجدان الناس ، طالما أصبحت هذه القيم تمثل الخلفية الفكرية التي لا تتصادم مع أسلوب حياتهم . بينما الدعوة المستمرة للالتزام بالقيم في ظل واقع يخلو من النظام ويتسم بالفوضى والعشوائية هو أمر لن يساعد على التمسك بأي سلوكيات راقية .
ومن ثم فإن السلوكيات الراقية لن تترسخ في المجتمع إلا من خلال تطبيق نظام قانوني صارم وحاسم يحمي وجودها ويجرم من خلال أساليب حديثة مبتكرة - تبتعد عن الأساليب العقابية التقليدية - حالات الخروج على هذه السلوكيات وعدم الالتزام بموجباتها . وبالتالي لن يعنينا في هذا المقام أن ننشغل بمدى إيمان الناس أو عدم إيمانهم بقيم محددة طالما يضمن النظام الالتزام بسلوكياتها المرتبطة بها .
أما المحدد المعنوي الثاني المتمثل في الدعوة إلى إصلاح الخطاب الديني ، فإنه يفتقر إلى نقطة الارتكاز الصحيحة التي ينطلق منها . حيث ينبغي أن تهدف الدعوة إلى : نقد الفكر الديني ؛ وليس إلى إصلاح الخطاب الديني . لأنه بينما يحمل مفهوم : الإصلاح ؛ معنى التقويم بما يفيد إمكانية التغليف الجيد لمنتج ردئ ، وهو المنهج الذي تتبعه المؤسسة الدينية إسلامية أم مسيحية لتجميل الظاهر دون الجوهر والباطن والمضمون . فإن مفهوم : النقد ؛ يحمل معنى التقييم ثم التقويم بما يفيد استبعاد المنتج الردئ والتغليف الجيد للمنتج الجيد . وبالتالي تبرز هنا إستراتيجية المحاور البديلة باعتبارها الأكثر اتساقاً مع منهج نقد الفكر الديني ، وذلك من خلال إنشاء محور بديل لا يعنيه التوازي أو التشابك والتكامل مع أي محاور إصلاحية أخرى تقوم بها مؤسسات لم تخضع لأى علاج حتى الآن لتتخلص من عقدة تصنيم دورها في المجتمع . وهذا المحور البديل سيتفرد بالاضطلاع بمهمة الدراسة النقدية للفكر الديني من خلال تدخل تشريعي يلزم المؤسسات التعليمية الدينية بإنشاء أقسام للدراسات النقدية للتراث داخل كلياتها ومعاهدها . ويتولى رموز التيار النقدي للتراث مهام التدريس داخل هذه الأقسام ووضع مناهجها ، الأمر الذي سيفضي بمرور الوقت إلى نمو العقلية النقدية داخل رؤوس طلاب تلك الكليات والمعاهد ، بما يساعد على نمو فكر ديني معاصر يكشف مدى رجعية وتحجر الفكر التراثي الذي يعتمد على علوم زائفة أو مناهج منقرضة .
........
بالطبع لا تمثل المحددات الخمسة السابق عرضها النموذج الجامع المانع لكل تفاصيل معالم الطريق الذي يسير فيه السيسي ، فقد تخرج بعض السياسات أو الأساليب أو الممارسات عن هذه المحددات . ولكن يظل الغالب الأعم منها يلتزم بها ، بما يجعلها المعلم الرئيسي الذي يلخص مجمل توجهات الطريق وعلاماته الإرشادية .
وبالتالي .. لو استمر السيسي في انتهاج ذات الطريق الذي تحكمه تلك المحددات ، فإن النتائج ستنخفض كثيرا عن مستوى التوقعات والطموحات . بما يعني بأن مصر لن تتقدم بخطوات واسعة إلى الأمام ، وإنما بخطوات بطيئة واهنة تقيدها أمراضها وأوجاعها المزمنة التي أهملها مشرط الجراح فتم اخضاعها للعلاج بالأدوية ، أو أهملها العلاج الدوائي فتم تسليمها للمشرط الجراحي .
إذن .. لن تتراجع مصر للخلف ، فزخم الثورة قد قطع الطريق على أصحاب الخطوات والأحلام والأوهام المتراجعة . ولكنها أيضاً لن تقفز للأمام طالما ظلت محددات الطريق قاصرة أو خاطئة .
ولذلك لو استمر الحال على ما هو عليه ، فإن التقدم في مصر سيكون ناتجاً عن التطور الديمقراطي التدريجي ، المتولد عن التداول السلمي للسلطة بين أحزاب متنافسة ، والفصل بين السلطات التي هي بطبيعة أدوراها غير متجانسة ومن ثم تراقب بعضها .
وأما عن الرئيس السيسي ، فإنه سيظل يتمتع بحب الجماهير دون نقصان فادح في شعبيته وجماهيريته . ولكن لا يبقى الحب مبهجاً ومحفزاً على العطاء إلا لو ارتبط بالتقدير ، بينما يمسي الحب باعثاً على الشجن وموسوساً على التخاذل لو انخفض به منسوب التقدير واهتزت به أعمدة الثقة .
سيادة الرئيس .. تمتلك بين يديك شعبية جارفة وجماهيرية كاسحة لم يتم ترجمتها حتى الآن إلى قوة دافعة تجعل مصر تفلت من أسر جاذبية الماضي لتنطلق بكامل قدراتها نحو المستقبل . وبالطبع طالما مازالت تتعثر الترجمة فإن هذا يعني بأن العيب ليس في النص الأصلي وإنما فيمن يقوم بالترجمة .
فمتى ستستعين ياسيادة الرئيس بمن يبرعون في فك مغاليق النصوص الشعبية الجماهيرية ويجيدون الترجمة ؟ بالطبع لا يمكن إنكار أنك بالفعل تستعين ببعضهم ، ولكن ربما تكون سياساتهم الرشيدة التي تجيد ترجمة مطالب الناس تضيع آثارها وسط المنظومة الكلية العصية على التغيير . وأزعم بأن وزير التموين أحد هؤلاء الذين يمكن الاعتماد عليهم للخروج من دائرة العبث المغلقة ، فهو يمتلك التفكير العلمي ويعتنق مبدأ الاعتماد على التكنولجيا لتنظيم خيوط أي منظومة مهما تعقدت . وفي تقديري فإنه الشخص المناسب للقفز بمصر الى الأمام في هذه المرحلة .
سيادة الرئيس .. مفاتيح الأمس لا يمكن أن تفتح أبواب الحاضر أو نوافذ المستقبل . ومفاتيح الأمس تتمثل في كوادر فاشلة أو فاسدة ، كما تتمثل في سياسات خاطئة أو قاصرة .
سيادة الرئيس .. رجال الدولة لا يجب أن يكونوا بديلاً عن رجال الثورة ، والثورة هنا لا تقتصر على المعنى السياسي وإنما تمتد إلى الثورة بمفهومها الشامل السياسي والاقتصادي والعلمي والإداري والتكنولوجي والديني . ولكن حتى إن كان رجال الدولة هم البديل المؤقت لضعف أو قصور في خبرة بعض رجال الثورة بشئون الحكم ودهاليز السلطة ، فإن على القائد مسئولية جسيمة في إلزامهم بالسير على صراط الثورة وأهدافها.
وأخيراً .. فقد كان هذا حديث محب صبور ، تدفعه إحباطات الحب إلى التشبث بحبال الصبر ، أملاً في ألا يأتي اليوم الذي يغيب فيه عن هذا الحب عبير التقدير ، فيجد نفسه مضطراً للتأسي بأبيات .. المتنبي :
يُحبّ العَاقِلُونَ على التصافي .. وَحُبّ الجَاهِلِينَ على الوَسَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي .. فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عيوبِ النّاسِ شيئاً .. كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
http://albedaiah.com/articles/2015/05/20/89730
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمامِ
( المتنبي )
أما قبل .. فهذا حديث محب صبور .
وأما بعد .. فإن التوقعات تكون على مستوى التقدير .
والثقة تكون على قدر الحب والتوقير .
ولكن تظل التوقعات مجرد أمنيات حتى تلامس أرض الواقع ودنيا الناس .
وتظل الثقة محض حسن ظن مالم يؤكدها ما تصل إليه الأعمال من حسن مآل .
ويظل الحب موطنه القلب ولكن يبقى العقل هو القائد والموجه وصاحب اللجام .
ولهذا يدخل السيسي وهو يقترب من إتمام العام الأول لرئاسته في هذه الزاوية التي توزن فيها الأقوال بميزان الأفعال ، وتقاس فيها الأحلام بمقاييس التحقق والإنجاز ، وتتوارى فيها العاطفة خلف ما يرصده العقل من مواطن الضعف والتقصير .
وتوضح موازين الأفعال ومقاييس التحقق والإنجاز ، بأن الطريق الذي يسير فيه السيسي تحكمه في الغالب الأعم 3 من المحددات المادية و 2 من المحددات المعنوية .
أولاً - المحددات المادية :
- المحدد الأول يتمثل في أن السيسي يري أن الأزمة التي تعاني منها مصر هي : أزمة تمويل ، ومن ثم فإن توفر التمويل هو الكفيل بتقديم الدفعة التي تساهم في حل مشاكل مصر المزمنة ؛ في مجالات التعليم والصحة والكهرباء والمياه والطرق والإسكان والزراعة والصناعة .. إلخ . وينطلق السيسي في تلك الرؤية من اتخاذه لدول الخليج باعتبارها النموذج العربي الإسلامي الشرق أوسطي الذي يؤكد بأن وفرة التمويل تؤدي إلى جودة الخدمات وارتفاع مستويات الرعاية التي تقدمها الدولة لمواطنيها . وأيضا من استيعابه لتجارب دول مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية باعتبارها جميعاً اعتمدت في انطلاقتها الأولى على التمويل الغربي سواء من مشروع مارشال أو ما كان على غراره .
- المحدد الثاني يتمثل في أن السيسي يعتمد على : إستراتيجية المحاور البديلة ، تحسباً لعدم التورط في مغامرة فك بكرة الخيوط المتراكبة المتعقدة وعدم الغوص في مستنقع المشاكل المزمنة المتراكمة ؛ التي استوطنت الجسد المصري على مدى العقود الماضية . وهذه الإستراتيجية في صورتها الأبسط ترى مثلاً بأن إنشاء طريق جديد أفضل من إصلاح الطريق القديم المتهالك . وبالتالي لا تنشغل هذه الإستراتيجية بمدى استقامة الخط بين النقطة أ والنقطة ب بل هي تؤسس لخط مستقيم يصل بين نقطتين جديدتين النقطة ج والنقطة د .
- المحدد الثالث يتمثل في أن السيسي يتبنى : منهج احترام المؤسسات ، انطلاقاً من خلفية عسكرية تعتمد على خبرة علمية في مناهج الإستراتيجية توفر قدرة على استقراء التهديدات والتربصات القائمة والمحتملة على المستويات الداخلية والاقليمية والعالمية . ولذلك تبدو المؤسسات في ظل هذا المنهج بمثابة الأركان التي ينبغي ضمان استقرارها وثباتها وعدم قلقلتها باعتبار تصدعها أو انهيارها هو الثغرة التي ستنفذ منها أدوات التربص وأي أطراف متآمرة .
ثانياً - المحددات المعنوية :
- يتمثل المحدد المعنوي الأول في : منهج الدعوة إلى القيم الأخلاقية الفاضلة والسلوكيات الراقية ، ويأخذ هذا المحدد مكانه إما في دعوات رئاسية مستمرة في الخطابات والتصريحات للالتزام بالأخلاقيات ، أو من خلال ممارسات رئاسية فعلية تتسم بالتواضع والسماحة وعفة اللسان وفضيلة الاعتذار والمصارحة والمكاشفة .
- ويتمثل المحدد المعنوي الثاني في الدعوة المستمرة إلى ضرورة : تجديد الخطاب الديني ، وهذه الدعوة تهدف إلى إنتاح خطاب ديني عصري يواجه فتاوى وممارسات التطرف والتشدد والغلو ، بما يضمن تجفيف منابع الإرهاب التي تتلفع بعباءة الدين .
.. هذه هي المحددات الخمسة المادية والمعنوية التي تمثل المعالم الرئيسية للطريق الذي يسير فيه السيسي ، بعض هذه المحددات أعلنها السيسي في خطبه وتصريحاته ، والبعض الآخر يتم استقراءه من واقع سياساته التي يتبعها في إدارة الدولة .
ونظراً لأنه لا يمكن تقييم تلك المحددات إلا في إطار السياق المحيط بالرئيس والذي يعمل في ظله . فإن المعادلة التي يمكن من خلالها تقييم تلك المحددات ينبغي أن لا تخلو من عامل هام ومحوري وحاسم وهو : الشعبية الجارفة والجماهيرية الكاسحة ، التي تحيط بالرئيس ويحظى بها عند قطاع كبير من المصريين .
وهذه الشعبية والجماهيرية ليست بمثابة تشريف وشرفة يتطلع منها الرئيس ليلوح لمحبيه ويستمع لهتافاتهم ، وإنما هي تكليف وكلفة باهظة الثمن ينبغي ترجمتها على أرض الواقع إلى سياسات تغير حياة هذه الجماهير إلى الأفضل .
ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام يتمثل في الآتي :
هل تم ترجمة تلك الشعبية والجماهيرية التي يحظى بها الرئيس ، بحيث تنعكس على مجمل المحددات التي تمثل معالم الطريق الذي يسير فيه ؟
ولعل الإجابة وبكل الأسف .. مازالت بعيداً عن نعم ؛ وأكثر قرباً إلى لا . فحتى الآن لم يتم ترجمة تلك الشعبية إلى محددات تتضمن سياسات أو مناهج أو أساليب أو إستراتيجية تتلاءم مع زخم هذه الشعبية وقوتها وفيضها .
فالمراقب المسلح بأدوات الرصد والتحليل ، والمواطن المكابد لويلات العشوائية والفساد والتقصير ، كلاهما لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة محبطة مفادها أنه : حتى الآن لم تشهد أرض الواقع المرير مستويات مقبولة أو ملموسة من التغيير .
وبالتالي فإن الممانعة التي تسد الأبواب أمام التغيير ، تستدعي ضرورة تقييم المحددات التي ترسم معالم الطريق الذي يسير فيه الرئيس ؛ من أجل كشف ما يعتريها من خطأ أو قصور .
فالمحدد الأول الذي يتعامل مع الأزمة في مصر باعتبارها أزمة تمويل هو محدد ينبغي مراجعته ، إذ أن أزمة مصر في حقيقتها ليست أزمة تمويل بقدر ما هي : أزمة في إدارة وتنمية الموارد والأصول ، الموارد الطبيعية والبشرية والأصول العقارية والصناعية والتجارية والتاريخية التي تمتلكها بالفعل الدولة المصرية . الأمثلة التي توضح هذه الأزمة لا تحصى ، نختار منها مثلاًً محلياً معاصراً يتمثل في كل من : مستشفى سموحة الجامعي ومستشفى برج العرب الجامعي بمحافظة الإسكندرية ، فكلاهما كان قد تم افتتاحهما ورغم ذلك ظلا خارج إطار التشغيل لسنوات رغم تجهيزهما بكل المستلزمات والإمكانيات الطبية بتكلفة تصل لمليار جنيه للمستشفى الواحد . أما مشروع توشكي الذي ابتلع المليارات فهو نموذج فاضح صائح تعجز أمامه الكلمات .
إذن ما كانت الأزمة في هذا الأمثلة المحلية المعاصرة أزمة تمويل ، وإنما أزمة في إدارة وتنمية الموارد والأصول أو بالأحرى إهدار الموارد والأصول وتبديدها . وقس على هذا المثل الآلاف والآلاف من الحالات الفاضحة المتبجحة التي يتسرب فيها التمويل - رغم توفره - في بلاعة مهولة ليس لها قاع اسمها : الفشل في إدارة وتنمية الموارد والأصول .
أما المحدد المادي الثاني الذي يتبني إستراتيجية المحاور البديلة بدلاً من أن يتبني إستراتيجيتين أكثر ملاءمة لظروف الواقع المصري ، وهما : إستراتيجية المحاور المتوازية ؛ أو : إستراتيجية المحاور المتشابكة المتكاملة ، باعتبار أن أي من الإستراتيجيتين يمكن أن تكون الأكثر توافقاً للتعامل مع المحددات المادية على طريق العمل الوطني ، بخلاف إستراتيجية المحاور البديلة التي هي الأكثر تناسباً مع المحددات المعنوية في ظل واقعنا الحالي .
وتعني : إستراتيجية المحاور المتوازية ، توزيع الاهتمام بصورة متوازية ، بما يعني - مثلاً - إقامة طريق جديد بالتوازي مع إصلاح الطريق القديم . بينما : إستراتيجية المحاور المتشابكة المتكاملة ؛ تهتم هي الأخرى بالطريقين القديم والجديد معاً ، ولكن مع ربطهما بالدائرة الواسعة لكل الأبعاد المتشابكة والمتكاملة لتحقيق التنمية الشاملة .
ولعل أكبر مثال على فشل إستراتيجية المحاور البديلة فيما يتعلق بالمحددات المادية ، يتمثل في التجربة المصرية المعاصرة الخاصة بإنشاء المجتمعات العمرانية الجديدة التي تصل إلى 27 مدينة جديدة ؛ كانت جديدة فقط بمنطق الزمن ولكنها كانت عتيقة بمنطق الإدارة والتنمية الذي انتقل إليها من المدن الأم التي أهملت استراتيجية المحاور البديلة تطويرها ، مما أدى إلى أن تصبح معظم هذه المدن الجديدة مدناً هامشية ليس بمفهوم الجغرافيا فقط ، ولكن أيضاً بمفهوم التنمية الشاملة .
أما المحدد المادي الثالث الخاص بمنهج احترام المؤسسات ، فإنه رغم وجاهته في ظل الظرف الأمني الدقيق الذي تمر به مصر وهي تحارب الإرهاب ، إلا أن الاقتصار على التعامل مع المؤسسات باعتبارها هياكل تنظيمية دون توسيع دائرة الرؤية لكي يتم التعامل معها باعتبارها كيانات وظيفية تمارس دوراً وظيفياً محدداً في المجتمع ، هذا المنحى غير الصائب في التعامل مع المؤسسات هو الذي يجسم حالة الممانعة الداخلية المريرة التي تعطل أي محاولة لإصلاحها .
لذلك فإن المنهج الأجدر بالاتباع هو : منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات . لأنه بينما يؤدي منهج احترام المؤسسات إلى تأكيد الحرص على استمرار وجودها ، فإن منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات هو الذي يربط بين احترام وجودها وبين قيامها بدورها الوظيفي المنوط بها ، فإذا ما تخلت المؤسسات عن الالتزام بدورها أو أخلت به ، فإن التدخل الحاسم الجازم لإصلاحها حتى تقوم بما هو منوط بها هو الذي سيضمن استمرارها وليس .. تصنيمها .
ومن هنا فإن منهج احترام المؤسسات هو منهج يساهم في تصنيم المؤسسات ودعم عوامل الممانعة بداخلها لرفض أي إصلاح مؤسسي . بينما منهج احترام الدور الوظيفي للمؤسسات هو الذي يضمن فتح النوافذ والأبواب لتقبل الإصلاح والتطوير والقضاء على عوامل القصور المتراكمة المتوارثة المزمنة . ولعل الأمثلة واضحة فيما يتعلق بالجهاز الإداري للدولة والمؤسسة الأمنية والمؤسسة القضائية ومؤسسة الكنيسة ومؤسسة الأزهر .. إلى آخر منظومة المؤسسات المصرية . فقد أدى منهج احترام المؤسسات إلى تصنيمها وتضخيم عوامل الممانعة للإصلاح المؤسسي الكامنة في صلب بنيانها .
.. ونصل الآن إلى تقييم المحددين المعنويين اللذين يمثلا معالم الطريق الذي يسير فيه السيسي .
وفي هذا المجال تبرز إستراتيجية المحاور البديلة باعتبارها الإستراتيجية الأكثر ملاءمة للواقع المصري ، والتي ينبغي أن تحظى بالأولوية لتكون هي الجديرة بالاتباع لتحقيق الأهداف المنوطة بهذين المحددين .
فبالنسبة للمحدد المعنوي الأول الذي يتعلق بمنهج الإعلاء من القيم الأخلاقية الفاضلة والسلوكيات الراقية الذي يتبعه الرئيس من خلال التزامه بمسلك أخلاقي نبيل في أقواله وتعاملاته . فإن هذا المنهج رغم نبله ومثاليته يبدو بمثابة وضع للعربة أمام الحصان . ففي مجال القيم الأخلاقية ، فإن الاعتقاد بأن مجرد الاستمرار في الدعوة إلى الإيمان بالقيم الأخلاقية الفاضلة ، هو أمر سيؤدي بالضرورة إلى الالتزام بالسلوكيات الراقية ، هذا الاعتقاد لا يتفق مع الفهم العلمي المتراكم عن الطبيعة البشرية لعامة الناس . إذ أن الواقع يقرر بأن إنشاء نظام صارم وحاسم لإجبار الناس على الالتزام بالسلوكيات الراقية هو الذي سيؤدي بمرور الوقت إلى ترسيخ القيم الفاضلة في وجدان الناس ، طالما أصبحت هذه القيم تمثل الخلفية الفكرية التي لا تتصادم مع أسلوب حياتهم . بينما الدعوة المستمرة للالتزام بالقيم في ظل واقع يخلو من النظام ويتسم بالفوضى والعشوائية هو أمر لن يساعد على التمسك بأي سلوكيات راقية .
ومن ثم فإن السلوكيات الراقية لن تترسخ في المجتمع إلا من خلال تطبيق نظام قانوني صارم وحاسم يحمي وجودها ويجرم من خلال أساليب حديثة مبتكرة - تبتعد عن الأساليب العقابية التقليدية - حالات الخروج على هذه السلوكيات وعدم الالتزام بموجباتها . وبالتالي لن يعنينا في هذا المقام أن ننشغل بمدى إيمان الناس أو عدم إيمانهم بقيم محددة طالما يضمن النظام الالتزام بسلوكياتها المرتبطة بها .
أما المحدد المعنوي الثاني المتمثل في الدعوة إلى إصلاح الخطاب الديني ، فإنه يفتقر إلى نقطة الارتكاز الصحيحة التي ينطلق منها . حيث ينبغي أن تهدف الدعوة إلى : نقد الفكر الديني ؛ وليس إلى إصلاح الخطاب الديني . لأنه بينما يحمل مفهوم : الإصلاح ؛ معنى التقويم بما يفيد إمكانية التغليف الجيد لمنتج ردئ ، وهو المنهج الذي تتبعه المؤسسة الدينية إسلامية أم مسيحية لتجميل الظاهر دون الجوهر والباطن والمضمون . فإن مفهوم : النقد ؛ يحمل معنى التقييم ثم التقويم بما يفيد استبعاد المنتج الردئ والتغليف الجيد للمنتج الجيد . وبالتالي تبرز هنا إستراتيجية المحاور البديلة باعتبارها الأكثر اتساقاً مع منهج نقد الفكر الديني ، وذلك من خلال إنشاء محور بديل لا يعنيه التوازي أو التشابك والتكامل مع أي محاور إصلاحية أخرى تقوم بها مؤسسات لم تخضع لأى علاج حتى الآن لتتخلص من عقدة تصنيم دورها في المجتمع . وهذا المحور البديل سيتفرد بالاضطلاع بمهمة الدراسة النقدية للفكر الديني من خلال تدخل تشريعي يلزم المؤسسات التعليمية الدينية بإنشاء أقسام للدراسات النقدية للتراث داخل كلياتها ومعاهدها . ويتولى رموز التيار النقدي للتراث مهام التدريس داخل هذه الأقسام ووضع مناهجها ، الأمر الذي سيفضي بمرور الوقت إلى نمو العقلية النقدية داخل رؤوس طلاب تلك الكليات والمعاهد ، بما يساعد على نمو فكر ديني معاصر يكشف مدى رجعية وتحجر الفكر التراثي الذي يعتمد على علوم زائفة أو مناهج منقرضة .
........
بالطبع لا تمثل المحددات الخمسة السابق عرضها النموذج الجامع المانع لكل تفاصيل معالم الطريق الذي يسير فيه السيسي ، فقد تخرج بعض السياسات أو الأساليب أو الممارسات عن هذه المحددات . ولكن يظل الغالب الأعم منها يلتزم بها ، بما يجعلها المعلم الرئيسي الذي يلخص مجمل توجهات الطريق وعلاماته الإرشادية .
وبالتالي .. لو استمر السيسي في انتهاج ذات الطريق الذي تحكمه تلك المحددات ، فإن النتائج ستنخفض كثيرا عن مستوى التوقعات والطموحات . بما يعني بأن مصر لن تتقدم بخطوات واسعة إلى الأمام ، وإنما بخطوات بطيئة واهنة تقيدها أمراضها وأوجاعها المزمنة التي أهملها مشرط الجراح فتم اخضاعها للعلاج بالأدوية ، أو أهملها العلاج الدوائي فتم تسليمها للمشرط الجراحي .
إذن .. لن تتراجع مصر للخلف ، فزخم الثورة قد قطع الطريق على أصحاب الخطوات والأحلام والأوهام المتراجعة . ولكنها أيضاً لن تقفز للأمام طالما ظلت محددات الطريق قاصرة أو خاطئة .
ولذلك لو استمر الحال على ما هو عليه ، فإن التقدم في مصر سيكون ناتجاً عن التطور الديمقراطي التدريجي ، المتولد عن التداول السلمي للسلطة بين أحزاب متنافسة ، والفصل بين السلطات التي هي بطبيعة أدوراها غير متجانسة ومن ثم تراقب بعضها .
وأما عن الرئيس السيسي ، فإنه سيظل يتمتع بحب الجماهير دون نقصان فادح في شعبيته وجماهيريته . ولكن لا يبقى الحب مبهجاً ومحفزاً على العطاء إلا لو ارتبط بالتقدير ، بينما يمسي الحب باعثاً على الشجن وموسوساً على التخاذل لو انخفض به منسوب التقدير واهتزت به أعمدة الثقة .
سيادة الرئيس .. تمتلك بين يديك شعبية جارفة وجماهيرية كاسحة لم يتم ترجمتها حتى الآن إلى قوة دافعة تجعل مصر تفلت من أسر جاذبية الماضي لتنطلق بكامل قدراتها نحو المستقبل . وبالطبع طالما مازالت تتعثر الترجمة فإن هذا يعني بأن العيب ليس في النص الأصلي وإنما فيمن يقوم بالترجمة .
فمتى ستستعين ياسيادة الرئيس بمن يبرعون في فك مغاليق النصوص الشعبية الجماهيرية ويجيدون الترجمة ؟ بالطبع لا يمكن إنكار أنك بالفعل تستعين ببعضهم ، ولكن ربما تكون سياساتهم الرشيدة التي تجيد ترجمة مطالب الناس تضيع آثارها وسط المنظومة الكلية العصية على التغيير . وأزعم بأن وزير التموين أحد هؤلاء الذين يمكن الاعتماد عليهم للخروج من دائرة العبث المغلقة ، فهو يمتلك التفكير العلمي ويعتنق مبدأ الاعتماد على التكنولجيا لتنظيم خيوط أي منظومة مهما تعقدت . وفي تقديري فإنه الشخص المناسب للقفز بمصر الى الأمام في هذه المرحلة .
سيادة الرئيس .. مفاتيح الأمس لا يمكن أن تفتح أبواب الحاضر أو نوافذ المستقبل . ومفاتيح الأمس تتمثل في كوادر فاشلة أو فاسدة ، كما تتمثل في سياسات خاطئة أو قاصرة .
سيادة الرئيس .. رجال الدولة لا يجب أن يكونوا بديلاً عن رجال الثورة ، والثورة هنا لا تقتصر على المعنى السياسي وإنما تمتد إلى الثورة بمفهومها الشامل السياسي والاقتصادي والعلمي والإداري والتكنولوجي والديني . ولكن حتى إن كان رجال الدولة هم البديل المؤقت لضعف أو قصور في خبرة بعض رجال الثورة بشئون الحكم ودهاليز السلطة ، فإن على القائد مسئولية جسيمة في إلزامهم بالسير على صراط الثورة وأهدافها.
وأخيراً .. فقد كان هذا حديث محب صبور ، تدفعه إحباطات الحب إلى التشبث بحبال الصبر ، أملاً في ألا يأتي اليوم الذي يغيب فيه عن هذا الحب عبير التقدير ، فيجد نفسه مضطراً للتأسي بأبيات .. المتنبي :
يُحبّ العَاقِلُونَ على التصافي .. وَحُبّ الجَاهِلِينَ على الوَسَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي .. فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عيوبِ النّاسِ شيئاً .. كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق