د. محمد محفوظ .. يكتب : الرئيس .. قائد سياسي أم مصلح اجتماعي
وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال .. إذا الإقدام كان لهم ركابا
هكذا صاغ أمير الشعراء أحمد شوقي حكمته الشعرية الخالدة في قصيدته النورانية في مدح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام .
وهكذا صدحت بها أم كلثوم بصوتها الذي جاب الآفاق في الأغنية التي كانت بذات اسم القصيدة : سلوا قلبي .
وهكذا صارت الحكمة بنظمها الشعري ولحنها المُغنى دليلا وسبيلا . دليلا لمن يريد أن يعمل لا أن يتكلم ، وسبيلا لمن يريد أن ينجز لا أن يتمنى .
ولكن رغم وضوح هذا الدليل أو السبيل وغيره الكثير من الأدلة والسُبل في حياتنا المصرية ، فإنها غالبا ما تتوه في غمرة الفوضى المترسخة والعشوائية المتمكنة والسياسات المرتبكة والوعي الملتبس .
ولقد تزاحمت في رأسي علامات التعجب وأنا اتابع خطاب الرئيس بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، بما جعلني أتذكر ذلك القدر الكبير من السخرية الذي كنت أعلق به على الذين كانوا ينكرون على الرئيس عدم تقديمه لبرنامج إبان ترشحه للرئاسة . فوقتها كنت أعلق ساخرا بأن : مشاكل مصر معروفة وحلولها هي الأخرى معروفة ، وبالتالي ما الداعي للفذلكة ومطالبة المرشح الرئاسي ببرنامج لما هو مبرمج أصلا .
ولكن فاتت الشهور واحدا بعد الآخر حتي اقتربنا من عام ونصف ، وإذا بمشاكل مصر المعروفة مازالت معروفة ، بينما حلولها المعروفة مازالت مهجورة ومتروكة ومنبوذة .
ولذلك يعذبني ذلك السؤال ؛ ويجرح كبريائي الذي سخرت بموجبه من السائلين سابقا عن برنامج للرئيس .. وذاك السؤال مفاده : ما الذي يعطل استخدام الحلول المعروفة لحل مشاكلنا المعروفة ؟!!
ولعل الإجابة تكمن في الالتباس الذي يلقي بظلاله على الموضع الذي ينبغي أن يقف فيه الرئيس لكي يمارس سلطاته الدستورية والقانونية.
فالرئيس وفقا للدستور هو القائد السياسي ؛ الذي يتولى برئاسته للسلطة التنفيذية صياغة كل رؤية أو هدف أو مصلحة في صورة سياسات قابلة للتنفيذ والمتابعة . أي أنه مايسترو لإدارة السياسات التي يتولى تنفيذها رئيس الوزراء والوزراء وأجهزة الدولة المتعددة . كما إنه مهندس للدفع بالتشريعات والنظم التي قد تكون لازمة لتفعيل تلك السياسات .
وبالتالي فإن الرئيس بكل هذه الصلاحيات عليه أن يخطط لا أن يتمنى ، باعتبار أن أداته في الحكم هي الخطة وليست الأمنية .. السياسة وليست الموعظة.
فرئيس الجمهورية لا يرجو أو يناشد ، ولكنه يكلف ويأمر ويوجه .
ورئيس الجمهورية لا يحلم ولا يتطلع ، ولكنه ينفذ ويبادر ويقتحم .
رئيس الجمهورية دوره هو التنفيذ وليس التحفيز ، الإنجاز وليس الإخلاص .
رئيس الجمهورية مكلف بتحقيق نتائج وتقديم مخرجات ، وليس مخير بتجربة محاولات أو خوض مغامرات .
رئيس الجمهورية مهمته الأولى والأخيرة هي العمل تخطيطا ، ثم العمل تكليفا ، ثم العمل متابعة . وإذا كان لا بد من كلام ، فعن خطة العمل وما تم إنجازه من تكليفات ومهام .
وهنا يبدو الفرق واضحا وبارزا وجليا بين دورين ... دور القائد السياسي ، ودور المصلح الاجتماعي .
المصلح الاجتماعي أداته : الكلام المخلوط بالحكمة والمغلف بالموعظة الحسنة .
المصلح الاجتماعي يرجو ويدعو ويتمنى ويحلم .
المصلح الاجتماعي ينشغل بفلسفة القضايا والمشاكل والأحداث وتنظيرها وتحليلها .
شتان إذن بين القائد السياسي والمصلح الاجتماعي .. دون نكران ما لأي منهما من فضل أو عرفان .
فأدوات الكلام لو تم الاقتصار عليها في موضع العمل ؛ تتجمد الأعمال.
وتقييم الكلام لا يستقيم بأدوات العمل ، فبعض الكلام الذي تسكنه الأحلام يكون من منظور العمل على أرض الواقع جنون أو هذيان .
الموضعان متباينان .. موضع القائد السياسي .. وموضع المصلح الاجتماعي .
فباختلاف المواضع - وكما أوضحنا - تتباين الأدوات .
الاقتصار علي الكلام والمناشدة والترجي في موضع العمل ، هو تقصير وتفريط في السلطة ، وتحلل من أي مسئولية والتزام .
والقفز إلى العمل من موضع الكلام ، سياسة بلا لجام ، فلا طاعة لمن لا سلطة له أو سلطان .
القائد السياسي عليه مسئولية إنجاز المهام بسلطة القانون في الإكراه والإجبار .
والمصلح الاجتماعي عليه مسئولية تحفيز الأحلام بسلطة العقل في التخيير والإقناع والتحليق والإلهام .
ولكن رغم البون الشاسع بين الموضعين ، إلا أن الرئيس مازال يتكلم بلسان المصلح الاجتماعي ولا يعمل بصلاحياتالقائد السياسي .
فمازال الرئيس يدعو ولا يكلف .
ومازال الرئيس يرجو ولا يُلزم .
ومازال الرئيس يحلم ولا يُنفذ .
فقد حضر الكلام طوال عام وطوال أكثر من عام ، ومازال حاضرا حتى الآن .
ولذلك لازال كل شيء في موضعه ، لم يبارح المكان .
لم يتجدد الخطاب الديني .
ولم ينصلح الجهاز الإداري للدولة .
ولم تتطور الأجهزة الأمنية . ولا المحاكم والنيابات . ولا المدارس والجامعات . ولا العيادات والمستشفيات . ولا القرى والعشوائيات والمحليات . ولا .. ولا .. ولا .
لم تتجدد أو تنصلح أو تتطور الكثير من الأشياء التي تنغص على الناس حياتهم ، لأنه غاب العمل بينما حضر الكلام .
ولن يتجدد أو ينصلح أو يتطور أي شيء ، لو ظل العمل في إجازة وينوب عنه الكلام .
فبالقوانين لا بالكلام ، وبالمناهج والخطط والسياسات .. لا بالأماني أو المواعظ أو الأحلام .. تتقدم الأوطان .
للكلام أهميته .. وللعمل أهميته .
ولكن الكلام أولى به أصحاب الرؤى والأفكار والأحلام .
والعمل أولى به أصحاب الخطط والمشروعات والتكليفات والمهام .
انتخب الناس قائدا سياسيا للإنجاز والإقدام ، وليس مصلحا اجتماعيا للوعظ والإرشاد .
فأولى بمن بيده الأمر ، أن يراجع ما عليه من مسئولية والتزام .
فكل السلطات التنفيذية والصلاحيات الإجرائية بين يديه .. من أجل رسم وتنفيذ السياسات والخطط ، ولكن بالعمل ، لا بالكلام أو المواعظ أو الأحلام .
ولنا في قوله سبحانه وتعالى بسورة الكهف دليل وبرهان :
إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا * .
مكن الله له في الأرض فآتاه السلطة والعلم والذكاء وحب الناس ، فأنتج بهم الخطط والنظم والهياكل والسياسات ، وليس المواعظ والأماني ... والكلام .
الكلام في موضع العمل .. كلام ليس له أولوية .
والمواعظ في مجال السياسة .. بلادة سياسية .
فتدبروا .. يا أولي الألباب ....
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال .. إذا الإقدام كان لهم ركابا
هكذا صاغ أمير الشعراء أحمد شوقي حكمته الشعرية الخالدة في قصيدته النورانية في مدح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام .
وهكذا صدحت بها أم كلثوم بصوتها الذي جاب الآفاق في الأغنية التي كانت بذات اسم القصيدة : سلوا قلبي .
وهكذا صارت الحكمة بنظمها الشعري ولحنها المُغنى دليلا وسبيلا . دليلا لمن يريد أن يعمل لا أن يتكلم ، وسبيلا لمن يريد أن ينجز لا أن يتمنى .
ولكن رغم وضوح هذا الدليل أو السبيل وغيره الكثير من الأدلة والسُبل في حياتنا المصرية ، فإنها غالبا ما تتوه في غمرة الفوضى المترسخة والعشوائية المتمكنة والسياسات المرتبكة والوعي الملتبس .
ولقد تزاحمت في رأسي علامات التعجب وأنا اتابع خطاب الرئيس بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، بما جعلني أتذكر ذلك القدر الكبير من السخرية الذي كنت أعلق به على الذين كانوا ينكرون على الرئيس عدم تقديمه لبرنامج إبان ترشحه للرئاسة . فوقتها كنت أعلق ساخرا بأن : مشاكل مصر معروفة وحلولها هي الأخرى معروفة ، وبالتالي ما الداعي للفذلكة ومطالبة المرشح الرئاسي ببرنامج لما هو مبرمج أصلا .
ولكن فاتت الشهور واحدا بعد الآخر حتي اقتربنا من عام ونصف ، وإذا بمشاكل مصر المعروفة مازالت معروفة ، بينما حلولها المعروفة مازالت مهجورة ومتروكة ومنبوذة .
ولذلك يعذبني ذلك السؤال ؛ ويجرح كبريائي الذي سخرت بموجبه من السائلين سابقا عن برنامج للرئيس .. وذاك السؤال مفاده : ما الذي يعطل استخدام الحلول المعروفة لحل مشاكلنا المعروفة ؟!!
ولعل الإجابة تكمن في الالتباس الذي يلقي بظلاله على الموضع الذي ينبغي أن يقف فيه الرئيس لكي يمارس سلطاته الدستورية والقانونية.
فالرئيس وفقا للدستور هو القائد السياسي ؛ الذي يتولى برئاسته للسلطة التنفيذية صياغة كل رؤية أو هدف أو مصلحة في صورة سياسات قابلة للتنفيذ والمتابعة . أي أنه مايسترو لإدارة السياسات التي يتولى تنفيذها رئيس الوزراء والوزراء وأجهزة الدولة المتعددة . كما إنه مهندس للدفع بالتشريعات والنظم التي قد تكون لازمة لتفعيل تلك السياسات .
وبالتالي فإن الرئيس بكل هذه الصلاحيات عليه أن يخطط لا أن يتمنى ، باعتبار أن أداته في الحكم هي الخطة وليست الأمنية .. السياسة وليست الموعظة.
فرئيس الجمهورية لا يرجو أو يناشد ، ولكنه يكلف ويأمر ويوجه .
ورئيس الجمهورية لا يحلم ولا يتطلع ، ولكنه ينفذ ويبادر ويقتحم .
رئيس الجمهورية دوره هو التنفيذ وليس التحفيز ، الإنجاز وليس الإخلاص .
رئيس الجمهورية مكلف بتحقيق نتائج وتقديم مخرجات ، وليس مخير بتجربة محاولات أو خوض مغامرات .
رئيس الجمهورية مهمته الأولى والأخيرة هي العمل تخطيطا ، ثم العمل تكليفا ، ثم العمل متابعة . وإذا كان لا بد من كلام ، فعن خطة العمل وما تم إنجازه من تكليفات ومهام .
وهنا يبدو الفرق واضحا وبارزا وجليا بين دورين ... دور القائد السياسي ، ودور المصلح الاجتماعي .
المصلح الاجتماعي أداته : الكلام المخلوط بالحكمة والمغلف بالموعظة الحسنة .
المصلح الاجتماعي يرجو ويدعو ويتمنى ويحلم .
المصلح الاجتماعي ينشغل بفلسفة القضايا والمشاكل والأحداث وتنظيرها وتحليلها .
شتان إذن بين القائد السياسي والمصلح الاجتماعي .. دون نكران ما لأي منهما من فضل أو عرفان .
فأدوات الكلام لو تم الاقتصار عليها في موضع العمل ؛ تتجمد الأعمال.
وتقييم الكلام لا يستقيم بأدوات العمل ، فبعض الكلام الذي تسكنه الأحلام يكون من منظور العمل على أرض الواقع جنون أو هذيان .
الموضعان متباينان .. موضع القائد السياسي .. وموضع المصلح الاجتماعي .
فباختلاف المواضع - وكما أوضحنا - تتباين الأدوات .
الاقتصار علي الكلام والمناشدة والترجي في موضع العمل ، هو تقصير وتفريط في السلطة ، وتحلل من أي مسئولية والتزام .
والقفز إلى العمل من موضع الكلام ، سياسة بلا لجام ، فلا طاعة لمن لا سلطة له أو سلطان .
القائد السياسي عليه مسئولية إنجاز المهام بسلطة القانون في الإكراه والإجبار .
والمصلح الاجتماعي عليه مسئولية تحفيز الأحلام بسلطة العقل في التخيير والإقناع والتحليق والإلهام .
ولكن رغم البون الشاسع بين الموضعين ، إلا أن الرئيس مازال يتكلم بلسان المصلح الاجتماعي ولا يعمل بصلاحياتالقائد السياسي .
فمازال الرئيس يدعو ولا يكلف .
ومازال الرئيس يرجو ولا يُلزم .
ومازال الرئيس يحلم ولا يُنفذ .
فقد حضر الكلام طوال عام وطوال أكثر من عام ، ومازال حاضرا حتى الآن .
ولذلك لازال كل شيء في موضعه ، لم يبارح المكان .
لم يتجدد الخطاب الديني .
ولم ينصلح الجهاز الإداري للدولة .
ولم تتطور الأجهزة الأمنية . ولا المحاكم والنيابات . ولا المدارس والجامعات . ولا العيادات والمستشفيات . ولا القرى والعشوائيات والمحليات . ولا .. ولا .. ولا .
لم تتجدد أو تنصلح أو تتطور الكثير من الأشياء التي تنغص على الناس حياتهم ، لأنه غاب العمل بينما حضر الكلام .
ولن يتجدد أو ينصلح أو يتطور أي شيء ، لو ظل العمل في إجازة وينوب عنه الكلام .
فبالقوانين لا بالكلام ، وبالمناهج والخطط والسياسات .. لا بالأماني أو المواعظ أو الأحلام .. تتقدم الأوطان .
للكلام أهميته .. وللعمل أهميته .
ولكن الكلام أولى به أصحاب الرؤى والأفكار والأحلام .
والعمل أولى به أصحاب الخطط والمشروعات والتكليفات والمهام .
انتخب الناس قائدا سياسيا للإنجاز والإقدام ، وليس مصلحا اجتماعيا للوعظ والإرشاد .
فأولى بمن بيده الأمر ، أن يراجع ما عليه من مسئولية والتزام .
فكل السلطات التنفيذية والصلاحيات الإجرائية بين يديه .. من أجل رسم وتنفيذ السياسات والخطط ، ولكن بالعمل ، لا بالكلام أو المواعظ أو الأحلام .
ولنا في قوله سبحانه وتعالى بسورة الكهف دليل وبرهان :
إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا * .
مكن الله له في الأرض فآتاه السلطة والعلم والذكاء وحب الناس ، فأنتج بهم الخطط والنظم والهياكل والسياسات ، وليس المواعظ والأماني ... والكلام .
الكلام في موضع العمل .. كلام ليس له أولوية .
والمواعظ في مجال السياسة .. بلادة سياسية .
فتدبروا .. يا أولي الألباب ....
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق