19 ديسمبر 2015

دسترة السيسي لترتيب أولويات مصر .. فريضة برلمانية

د. محمد محفوظ .. يكتب : دسترة السيسي لترتيب أولويات مصر .. فريضة برلمانية
إذا كان هذا البرلمان القادم غارقا حتى أذنيه حقا " في حب مصر " .
وحريصا من قمة رأسه حتى أخمص قدميه على " دعم الدولة المصرية " .
ومؤكدا على الثوابت الوطنية من خلال " مصريين أحرار " .
ومزاوجا ما بين رموز الماضي والحاضر و " مستقبل وطن " .
ومستلهما تاريخ الثورة المصرية من خلال ماض مجيد يلتئم بــ " وفد جديد " .
وحافظا للكرامة الوطنية من خلال نواب " مستقلين " غير تابعين ولا منقادين ولا مستأنسين .
إذا كان ذلك البرلمان كذلك ؛ صدقا وليس كذبا أو نصبا أو إفكا ؛ فعليه أن يقاتل من أجل إبقاء سلطات الرئيس السيسي مقلصة كما رسمها الدستور .
نقول ذلك لكي نرفع درجة الحرارة حول ثلاجة الرئيس السيسي التي جمدت وثلجت طموحات المصريين ؛ حتى باتوا يترحمون على ثورة تربعت على أنقاض نظام مبارك ، ثم خُطفت في عهد الإخوان ، ثم تخشبت أطرافها وتيبس عقلها من الصقيع في ثلاجة الرئيس .
على البرلمان إن كان حقا ممثلا لأحلام هذا الشعب ؛ أن يضع الرئيس في الخانة التي رسمها له الدستور حتى يمكن إعادة ترتيب أولويات مصر التي ثار المصريون من أجلها مرتين .
فقد أصبح مؤكدا بعد عام ونصف من وجود الرئيس السيسي في السلطة ، بأن ترتيبه لأولويات الوطن لا يتفق مع ترتيب أغلب المصريين لها .
فلا شيء تغير في وجه مصر ، ناهيك عن قلبها أو عقلها . بل على العكس ، فإن أصحاب الوجوه الكريهة والنفوس السقيمة والعقول العقيمة يعودون واحدا بعد الآخر إلى المشهد . وباتت الأصوات التي ما كانت تجرؤ على الفحيح بعد 25 يناير ؛ باتت تنعق وتنهق وتردح وتشرشح وتبث سمومها في أعصاب الناس وصبرهم على المكروه .
لا شيء تغير في وجه مصر ، لأن الرئيس يريد أن يرتفع بأدوار جديدة فوق ذات البناء القديم دون أن يهتم أولا بإصلاح أساسات البناء المتصدعة . وبالتالي فإن النتيجة الحتمية - هندسيا وعقليا - أن ينهار البناء ، فالأساسات المخوخة لن تتحمل أحمالا إضافية ... أليست تفريعة قناة السويس الجديدة ، والعاصمة الإدارية الجديدة ، وشبكة الطرق الجديدة ، والمليون ونصف مليون فدان الجديدة ، ومفاعلات الضبعة النووية الجديدة ، ومشروع تنمية شرق التفريعة الجديد .. كلها أحمال إضافية على مبنى تتراقص أساساته بفعل الفساد والإهمال والتسيب والإدارة الفاشلة .
لا شيء تغير في وجه مصر ، لأن الرئيس يجمع حوله - إلا فيما ندر - رجال مبارك أو من هم أشباههم . فالصندوق القديم الذي استوطنته الحشرات والميكروبات مازال هو المعين الذي ينهل منه الرئيس في اختياراته للقيادات الحكومية ، وبالتالي : ماذا ينتظر الرئيس من رجال مبارك أو من على شاكلتهم ؟ أليست النتيجة الحتمية أنهم مثلما سطروا اسم مبارك في الصفحات السوداء للتاريخ ، فسيسطرون اسم أي رئيس غيره .
لا شيء تغير في وجه مصر ، لأن المصري البائس اليائس ينظر حوله ويتحسر على كرامته التي تمتهن ، وحقوقه التي تسلب ، ومصالحه التي تتبخر ، وأمواله التي تتبدد .. في طرقات الجهاز الإداري للدولة وأقسام الشرطة والمحاكم والمستشفيات والمدارس والجامعات والشوارع والعشوائيات .
لا شيء تغير في وجه مصر ، لأن الرئيس كما قال : أنا بطبطب على الجميع !! وللأسف فإن الدول لا تدار بالطبطبة ، وإنما بالحساب والمتابعة والثواب والعقاب. فالطبطبة علي المؤسسات الفاسدة المترهلة المتجرئة على الدستور والقانون ، مثلها مثل تدليل الآباء لأبنائهم إلى حد إفسادهم وعقوقهم .
فإذا كان شيئا لم يتغير حتى الآن في وجه مصر بعد ثورة أولى وثورة ثانية . أفلا يُظهر البرلمان الموقر كرامة أو أمارة ليثبت أنه هو المتغير الجديد أو الوحيد في وجه مصر ، أو أي موضع آخر من جسدها .
يريد البرلمان أن يمارس دور الدُعامة التي يتم تركيبها في شرايين القلب المتصلبة ليستمر فيها سريان الدماء . ونحن ندعم بدورنا حق البرلمان في أن يمارس دور الدُعامة . ولكن السؤال الأول : دعامة لمن ؟ نعم .. دعامة لمن ؟ يقول البرلمان إنه يسعى لــ " دعم الدولة المصرية " ، ولاشك بأن كل مصري أصيل لم تتلوث دمائه بإخوانية خائنة أو مباركية فاسدة يدعم أيضا الدولة المصرية . ولكن السؤال الثاني : هل لدى البرلمان خطوط فاصلة بين دعم " الدولة " المصرية ، ودعم " الحكومة " المصرية ؟ وهل يدرك البرلمان الفرق بين الدولة والنظام ؟ الدولة التي هي باقية والنظام الذي هو زائل . وهل يعلم البرلمان أن الفصل بين السلطات والتوازن بينها حقيقة دستورية نصت عليها المادة الخامسة من الدستور ؟
وبالتالي فإن السؤال الثالث للبرلمان : هل هناك جدوي من - أو أمل في - دعم حكومة فاشلة ونظام يحافظ على الفساد والاستبداد ؟
دعم الدولة إذن - لو كان البرلمان يدرك الفرق بين الدولة والنظام - يقتضي أن يرفع البرلمان الكارت الأحمر للحكومة الفاشلة البائسة ، ويسحب منها الثقة .
دعم الدولة إذن - لو كان البرلمان يدرك أنه يمثل السلطة الشعبية في بنيان سلطات الدولة - يحتم على البرلمان أن يترجم آمال وأحلام ومطالب هذا الشعب إلى تشريعات وسياسات .
وطالما أن كل ذرة تراب في مصر ، تنطق بل وتصرخ بأن الرئيس وحكومته في واد والشعب في واد آخر . فعلى البرلمان إذن أن يُشكل هو حكومته التي تمثل رمانة الميزان التي تفرض الأهداف الثورية على الوضع المتجمد والمتكلس . فحكومة تسير على خطى مبارك ، ورئيس يرى أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان ويكون  ،كلاهما لا يستحق دعم البرلمان .
على البرلمان إذن أن يتعامل مع البرنامج الذي ستقدمه له الحكومة باعتباره مجرد كلام إنشا تتخلله إحصائيات وملايين ومليارات ، لأنه لو كان لدى الحكومة برنامج أساسا لظهر على الأرض وليس على صفحات الأوراق ، وما انتظر لحين انعقاد البرلمان ، وإنما كان سيتجسد في سياسات تخدم الناس وتكافح الفساد وتطهر البلد من ميراث الاستبداد .
دعم الدولة لن يكون إلا بردها عن ظلمها وفسادها واستبدادها ، وبكشف عجزها وترهلها وإهمالها .
وطالما أن الدستور رسم دورا للرئيس ودورا للبرلمان ، فعلى البرلمان لو كان حقا يمثل الشعب أن يمارس سلطاته كاملة غير منقوصة من أول يوم ، بل من أول ساعة أو دقيقة . وعليه أن يشكل حكومته وأن يحاسب حساب الملكين الوزراء الأربعة المخول للرئيس بموجب الدستور اختيارهم ، وهم وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل . وأن يثبت لهم بأن مصطلح الوزارات السيادية هو مصطلح غير دستوري لأن السيادة للشعب وحده وليست لمجموعة وزارية من بين الوزارات . وأن يثبت لهم بأنهم ليسوا وزارات رئاسية تستقوي بمنصب الرئيس أو شعبيته ، وإنما هي وزارات مثل باقي الوزارات تخضع للمساءلة والمحاسبة السياسية والرقابة المالية وسحب الثقة .
أما لو كان للبرلمان رأيا آخر في دوره . ويري بأن دعم الدولة يتمثل في التواطؤ مع سلطتها التنفيذية وتصنيم سلطتها القضائية . فإنه سيدخل إلى التاريخ من صفحاته السوداء ، مثله مثل برلمان الحزب اللاوطني المزوراتي في 2010 ، وبرلمان المتأسلمين الإرهابيين في 2011 / 2012 . بحيث يحق عليه القول والوصف بأنه البرلمان الذي اتخذ من دون الشعب أندادا وشركاء .. والعياذ بالله .
دسترة السيسي فريضة برلمانية ، بحيث يكون أول رئيس محدود السلطات تشاركه في إدارة الدولة السلطة التشريعية الرقابية المنتخبة ، لترتيب أولويات مصر التي لم ينجح الرئيس حتى الآن في ترتيبها .
فلقد اطمأن الرئيس لربيع الرضا الشعبي والحب الجماهيري ، وبالفعل بلع له الناس الزلط تأسيا بالمثل الشعبي : حبيبك يبلع لك الزلط . ولكن هذا الربيع أغرى الرئيس على تجاهل أولويات الناس والتصدي للأولويات التي يراها وزرائه ومستشاريه والأجهزة الأمنية والمستثمرين .
ولذلك لا مفر من خريف السأم والضجر ، فربما لا تعمل بوصلة الأولويات لدى الرئيس بصورة صحيحة إلا تحت الضغط . هذا الضغط الذي ينبغي أن يمارسه البرلمان من خلال تبنيه لإحساس الشعب بالغصة والقنوط ، ومن خلال إصراره على أن يكون ندا لسلطات الدولة الأخرى وليس سنيدا لها ، أو مقننا لفسادها واستبدادها وإهمالها .
على البرلمان أن يؤسـس للممارسـات السـياسية والتدخلات التشريعية والملاحقات الرقابية ، التي تجسم جميعها الحدود البارزة لمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات . ولعل أولى الخطوات على هذا الطريق تتمثل في دسترة الرئيس.
أما لو رضخ البرلمان للمطبلاتية والهمبكاتية والشمشرجية ، ووقع في خطيئة تسييح الحدود بين " السلطات " لكي تتحول إلى " سلاطات " ، فعليه أن يتحمل احتقار الشعب واشمئزازه ، ناهيك عن غضبه وانفجاره .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق