.. وكذلك زُين لفرعون سوء عمله وصُد عن السبيل ..
سورة غافر - الآية ٣٧
النظرية الليبرالية متكاملة .
جناحها السياسي هو : الديمقراطية .
وجناحها الاقتصادي هو : اقتصاد السوق .
وذيلها المحقق لتوازنها هو : الحرية ، في كافة المجالات " ثقاقية - إعلامية - آكاديمية - عقائدية .. إلخ " .
وبالطبع سياق عملها هو : المجتمع ، الحامل لهذه الثلاثية لينطلق باكتمالها في أجواء التقدم والتحضر ، أو لينكفئ بغيابها في أنفاق التخلف والتأخر .
أما ما نكابده في مصر فهو نظام مشوه ، اقتصاد يتم الادعاء بأنه اقتصاد سوق ، لا تقابله ديمقراطية سياسية حقيقية ، مع انخفاض شديد في منسوب الحرية باعتبارها قيمة مجتمعية غير حيوية أو أساسية .
وتعني " الديمقراطية " باعتبارها الجناح السياسي لليبرالية ، أن يصل للسلطة من يعبِّر عن أغلبية الشعب بموجب انتخابات نزيهة .
نزيهة بمعنى : أن لا يتم تصميم قوانينها لضمان نتائج بعينها .
ونزيهة بمعنى : أن لا يُسمح بتدخل الأجهزة الأمنية لتوجيهها من خلال الدفع بعناصر بذاتها تم برمجة ولاءها .
ونزيهة بمعنى : أن لا تُخصص النسبة الأكبر من حصصها للمستقلين ، فيتكالبوا على عتبات أبوابها ليفوزوا بالمقاعد النيابية ، وتصبح الساحة السياسية منزوعة الحزبية ولا طعم ولا لون لها .
علاوة على ذلك ، تعني الديمقراطية كجناح سياسي لليبرالية : الفصل بين السلطات ، لتحقيق الرقابة من كل سلطة على الأخرى - وليس التواطؤ بينها لتتحول من سُلطات الى سلاطات وتتحور من مؤسسات إلى عزب وتكيات - بما يحقق متابعة ومراقبة السياسات لضمان تنفيذها ، ومن ثم السهر على مصلحة الأغلبية ومطالبها وأحلامها .
أما " الحرية " كقيمة ليبرالية ، فهي تعني احترام حرية التعبير ليستفيد المجتمع من مجموع أفكار وإبداعات علمائه ومفكريه ومثقفيه والنابغين فيه .
كما تعني - الحرية - احترام الفردية والتعددية والتنوع ، لاسيما وأن المجتمعات التي ينسحق أفرادها في المجموع تتحول إلى مجتمعات أصفار ، وبمنطق الحساب : صفر + صفر + صفر = صفر . بينما المجتمعات التي تحترم فردية مواطنيها لكي يمثل كل فرد وزناً حسابياً ما ، تتحول إلى مجتمعات قيم وقامات وابتكارات وإبداعات ، وبمنطق الحساب : ربع + نص + تلت= رقم ما ، دائماً يكون أكبر من الصفر .
إذن ، فالحرية هي السياق الذي تتحرك فيه السياسة فتترسخ الدبمقراطية ، وهي السياق الذي يتحرك فيه الاقتصاد فيتأسس اقتصاد السوق .
ولهذا ، فإن اقتصاد السوق هو انعكاس للحرية على المجال الاقتصادي ، بحيث يتحرك السوق ويتفاعل وفقاً لآلياته وقوانينه الطببعية ، ولا تتدخل الدولة إلا لتضمن عدم الانحراف بهذه الآليات والقوانين .
فالسوق يفقد حريته في ظل تفشي الاحتكار وتضارب المصالح والفساد وتجاهل المعايير والمواصفات .. إلخ .
فكل تلك الانحرافات تقيد السوق وتجعل السوس ينخر في قواعد حريته فتتجمد آلياته .
من هذا المنطلق .. فحيثما تغيب الحرية أو تخفت أضواؤها ، فإن الديمقراطية تتحول إلى مسخ مشوه ، يمكن أن نطلق عليه لفظ : الديكتوقراطية أو الديموكتاتورية ، مزيج وخليط من الديكتاتورية المقنعة بالديمقراطية الصورية الشكلية ، أو الديمقراطية المبطنة بالديكتاتورية السلوفانية المخملية .
وأينما تضمر الحرية وتتصلب شرايينها ، يتحول اقتصاد السوق إلى مسخ معوق ، يمكن أن نطلق عليه لفظ : اقتصاد السوء ، سوء القصد والمآل ، وسوء العمل ومن قبله النية .
وبالتالي هو مزيج وخليط من حرية السوق الراعية لفوضى الهبش والكبش والتهليب والنصب ، المتزينة بمؤشرات البورصة وفرص الاستثمار ونسب النمو غير التنموية .
ففي ظل الديكتوقراطية أو الديموكتاتورية ، يعمل اقتصاد السوء كالشفاط الذي يمتص الجانب الأكبر والأعظم من عوائد أي نمو ، فلا تذهب إلى القاعدة العريضة من الشعب ، وإنما يستأثر بها طبقة رجال المال والأعمال المحيطة بالسلطة من أجل مصالحها واستمرار بقائها .
اقتصاد السوء باعتباره المقابل الموضوعي للديكتوقراطية أو الديموكتاتورية ، هو في معناه ومبناه سحق ومحق للطبقات العريضة من الشعب ، وتراكم مهول للثروة في يد أقلية فاسدة مفسدة تتواطأ مع الحاكم - أي حاكم - ولا تخشى الرب .
وهذا ما سبق أن كابده الشعب المصري مع نظام مبارك وذاق مرارته واكتوى بلظاه ، حيث تم السير في طريق الإصلاح الاقتصادي من خلال : تبني الخصخصة منذ عام ١٩٩٣ ، والتعويم الكامل للجنيه عام ٢٠٠٣ ، وإطلاق حوافز الاستثمار لجذب الدولار .
الأمر الذي أسفر عن معدلات نمو واعدة ، إلا أنها لم تنعكس على مجموع الشعب لترحم أحيائه وتترفق بقتلاه . فقد كان اقتصاد السوء هو المسيطر المتمكن ، بينما اقتصاد السوق مقيدة آلياته ومستنزفة قواه .
ولهذا ، تبدو ترهات وسخافات الإصلاح الاقتصادي في دول تتلبد سماؤها بالغيوم التي تحجب شمس الحرية ، بمثابة مسرحية هزلية قد تفتح الباب بالفعل للاستثمارات الأجنبية والعوائد الدولارية - فالعالم يبحث عن مصالحه وفرص جديدة لزيادة إيراداته وموارده - ولكنها لا تفتح الباب حتماً للرخاء والرفاهية .
فبرامج الإصلاح الاقتصادي في ظل اقتصاد السوء تغيب عنها عناصر حيوية أساسية مثل :
- تكلفة الفساد المستشري المتنطع المتمكن ، المتفلت من أية رقابة حاسمة ومحاسبة قضائية .
- تكلفة إهدار المال العام في بالوعات الإهمال والإسراف ، وانحطاط الكفاءة والفشل ، وأوجه الإنفاق الاستفزازية .
- تكلفة الإنقاق الحكومي الباهظة التي تؤسس لثنائية هزلية : الشعب الفقير / الحكومة الغنية .
- تكلفة المشروعات العملاقة ، المتعملقة تكلفة وإنفاقاً ، المتقازمة عوائداً وإيراداً .
- تكلفة تهميش التنظيمات النقابية ومحاصرة دورها في توازن العلاقة بين : أرباب الأعمال ، والشرائح العمالية والتخصصات المهنية والمستويات الوظيفية .
- تكلفة زواج المال بالسلطة بكل تبعاته غير الأخلاقية الإجرامية.
- تكلفة تضارب المصالح الناتجة عن إنشاء كل من المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية لمنظومتها الاستثمارية الاقتصادية ، فيختلط الأمن بالدفاع بالتجارة بالاستثمار في دائرة مصمتة مستغلقة ، تفتقر إلى تكافؤ الفرص والرقابة والمحاسبة والشفافية .
من هذا المنطلق ، فإن أي برامج للإصلاح الاقتصادي تغيب عنها كل هذه التكاليف ، مصيرها المحتوم : نزيف داخلي في الموارد والأصول بما يضاعف المعاناة وضيق العيش على القاعدة الشعبية العريضة ، ونتاجها المعلوم : عوائد تصب في جيوب وكروش الدائرة المحيطة بالسلطة من رجال المال والأعمال .
بالخلاصة ، هي برامج تستنسخ تجربة مبارك في الإصلاح الاقتصادي ، إصلاح لا ينفي الثورة .. ولا يحقق الرخاء .
بالإضافة إلى أن هذه التكاليف الكارثية تتناقض كلياً مع برامج الإصلاح الاقتصادي في ظل اقتصاد السوق ، والتي تترافق معها ضرائب تصاعدية على الأغنياء ، وشبكات ضمان اجتماعي قوية لدعم الفقراء ، ومنع للاحتكارات التي تتحكم بقطاعات بعينها من الاقتصاد ، ومواجهة لتضارب المصالح وخلط الأدوار والأوراق ، وترتيب للأولويات الوطنية لترسيخ التنمية الصحية والتعليمية والبحثية والصناعية والزراعية .. إلخ .
لذلك ، فإن الاسئلة الأجدر بالطرح في مواجهة من يروج أو يطبل أو يزمر لقرض صندوق النقد ، وما يرافقه من إجراءات اقتصادية إصلاحية باعتبارها الدواء المُر الذي يجب على الشعب تجرعه بالرضى أو بالغصب ، للانطلاق بالاقتصاد وأحوال العباد إلى النمو والرخاء والرفاهية ، هذه الاسئلة هي :
- ماذا تغير في مصر على مستوى كل مؤسسات الدولة الموبوءة بالبيروقراطية العفنة ، والإدارة العشوائية ، والفساد والوساطة والمحسوبية ؟
- وهل يمكن لدولة تفشل في جمع القمامة وتنظيم المرور ووقف مخالفات البناء ، أن تنجح في حل ازمتها الاقتصادية والتطلع لآفاقها التنموية ؟
- وهل الدولة التي أهدرت عشرات المنح والقروض في بالوعات المشروعات التي ليس لها أولوية ، يمكن ائتمانها على المزيد من القروض ليكون مصيرها رقم يضاف إلى قائمة الديون التي تغتال أحلام الأجيال الحاضرة والمستقبلية ؟
الإجابة بكل سرعة وفورية : لا شيء .. لا شيء تغير .
فمؤسسات دولة مبارك قائمة ثابتة مستقرة ، وجبال القمامة متراكمة متعفنة وبائية ،
وبالوعات المشروعات مفتوحة مفشوخة على مصراعيها .. إلخ .
وبالتالي ، يمكن بالفعل لدولة مبارك التي يرأسها السيسي أن تحقق معدلات مرتفعة للنمو بالمعايير الدفترية ، والمعادلات الحسابية التي تتضمن قسمة عوائد النمو على مجموع أفراد الشعب ، فتكون النتيجة أرقام وهمية ، لا علاقة لها بمعدلات التوزيع الحقيقية التي لا تصب معظمها في خزينة الشعب ، وإنما في خزائن الطبقة المالكة النافذة المتحلقة حول دوائر السلطة في دولتنا الدكتوقراطية أو الديموكتاتورية .
وبالفعل ، لا يمكن إنكار أن تراكم الثروة في يد الأقلية النافذة الثرية يمثل أحد نقائص الراسمالية . لكن الديمقراطية السياسية تمارس رد الفعل ؛ الذي إن كان غير مساويٍ في المقدار ؛ فإنه مضاد في الاتجاه ، بما يضمن مستويات أجور مرتفعة ، وخدمات اجتماعية راقية ومنتظمة . بينما تتكفل الحرية المجتمعية بإسباغ حالة من الرضا العام .
لذلك ، حيثما غابت الحرية يتبخر الرخاء وتستحيل الرفاهية ، ويصبح النمو المستدام في مقام النمو المستباح للأفاقين والنصابين والمرتزقة والقوادين والحرامية .
الاستثناء الوحيد لإمكانية تأسيس الرخاء والرفاهية في ظل غياب الحرية والديمقراطية ، يتواجد في الدول التي تمتلك نتيجة صدفة جيولجية موارد طبيعية مهولة وحيوية . فيتم تعويض الانسداد في قنوات الديمقراطية وسياقات الحرية ، بالإغداق على الشعب في مجال الأجور والخدمات الاجتماعية . دول الخليج في أغلبها نموذجاً : للوفرة الاقتصادية ، والندرة الديمقراطية ، وكبت الحرية .
والمحصلة ، أن قروض صندوق النقد غير قابلة للتحويل أو الصرف ، أو لإصلاح ما انكفأ والتوى واعوج في ظل اقتصاد السوء بالبلاد الديكتوقراطية أو الديموكتاتورية .
مثلها مثل " الفياجرا " .. غير صالحة لصلب ونفخ .. ما ارتخى بفعل السكر والكوليسترول والضغط .. والعاهات السياسية .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق