ميراث المرأة في القرآن بين قطعية الثبوت ونسبية الدلالة
خواطر اجتهادية حول العبارة القرآنية : (( ومن يعص الله ورسوله و { يتعد } حدوده ))
أحكام المواريث تمنع تجاوز نصيب الذكر لأكثر من ضعف نصيب الأنثى ولكنها لا تمنع خفض نصيب الذكر ليتساوى مع نصيب الأنثى
.............
(( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... * ... * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) . سورة النساء / الآيات ١١ - ١٤ .
..............
تطرح المجادلات المثارة بشأن مسألة نصيب المرأة في الميراث ، ضرورة تسليط الضوء على عدد من النقاط التي ينبغي مناقشتها لعلها تزيل الحيرة وتفك اللبس .
أولا - أحكام المواريث بين الثبوت والدلالة :
احتلت أحكام المواريث موقعها المستقر ضمن الأحكام قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ، بإجماع التفسيرات القرآنية والمذاهب الفقهية .
وتشير الأحكام قطعية الثبوت وقطعية الدلالة إلى الأحكام التي تتضمن أمرا أو نهيا أوتحليلا أو تحريما بعبارات قاطعة جازمة ، لا تسمح بأي مساحة للتدخل والتأويل البشري .
بخلاف الأحكام قطعية الثبوت ولكن نسبية الدلالة والتي تتضمن أيضا أمرا أو نهيا أوتحليلا أو تحريما ولكن بعبارات غير قاطعة وغير جازمة ، وتسمح بمساحة للتدخل والتأويل البشري .
ولعل التفرقة بين دلالات الاستخدام الإلهي للغة ودلالات الاستخدام البشري لها ، هي التي ستكشف بأن لفظ { يتعدى } الوارد بآيات المواريث لا يشير إلى معنى جازم قاطع ، وإنما يشير لمعنى نسبي يحتمل التأويل ، وهو ما سنوضحه في السطور التالية ....
ثانيا - اللغة بين دلالات الاستخدام الإلهي ودلالات الاستخدام البشري :
تبدو مسألة ادعاء الترادف في ألفاظ القرأن الكريم جديرة بتسليط الضوء عليها ، لإعادة فهم هذه الألفاظ في ضوء السياق العام للنص الإلهي المقدس ، وليس السياق اللغوي للمحيط الاجتماعي البشري .
فالاستخدام الإلهي للغة غير الاستخدام الإنساني لها . ولا يستقيم في المدلول الإلهي أن تتشابه المعاني بين الكلمات غير المتشابهة في الحروف .
وإذا كانت البلاغة هي : مطابقة الكلام لمقتضى الحال . فإن كلام الله تعالى هو المثال للبلاغة عندما تدرك حد الكمال . ومن ثم فإن اختلاف الحروف بين لفظ وآخر يقتضي اختلاف المعنى والمدلول بلا شك أو جدال .
فكلمة رسول لا تساوي المدلول الإلهي لكلمة نبي ، ونفس القياس ينطبق على عبارتي أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب ، أو اليهود وبني إسرائيل ، أو الرب والإله .. وهكذا .
ومن هذا المنطلق ، ينبغي التعامل مع مدلول لفظ { يتعدى } .
فلو كان مقصد الله تعالى هو الأمر بعدم مخالفة حدوده ، لكان لفظ { يخالف } هو الاوفق للمعنى . ولكن استعمال لفظ { يتعدى } يشير لمقصد الله وهو عدم تجاوز حدوده سبحانه ، وعدم التجاوز يعني حصرا عدم ( تخطي ) الحد الأقصى ولكنه لا يمنع من النزول عنه .
فلفظ يتعدى يشير للحدود ( حدود الله ) باعتبارها نطاقات ومساحات يتم التحرك خلالها دون تجاوز أو تخطي أو تعدي لحدها ، وليس باعتبارها خطوط أو مسارات محددة لا يتم الخروج عن سبيلها .
فإذا قلنا لشخص ما : تلك حدود أرضك فلا تتعداها . فإن هذا لا يعنى أن يقتصر سيره فوق الخطوط المرسومة لحدود الأرض فقط ؛ وإنما يعنى أن يسير داخل كل الأرض تقدماً وتراجعاً دون أن يتجاوز هذه الخطوط أو التخوم أو الحدود .
فالحدود فى آيات المواريث ؛ ليست إشارة إلى الأمر الذي لا ينبغي مخالفته ، وإنما هى تعريف بالسياج الذي لا ينبغي القفز فوقه ، وبالسقف الذي لا ينبغي التطاول عليه وتعديه .
ولعل هذا الفهم يزداد وضوحا عند تدبر الآية الكريمة الخاصة بالاعتكاف في المساجد ، والتي قال فيها تعالى : ( ... ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها ... ) . سورة البقرة - الآية ١٨٧ .
فلفظ { لا تقربوها } يشير إلى حاجز يحيط بالأمر المنهي عنه ، يتوجب عدم الاقتراب منه ، ومن ثم عدم الولوج إليه والخوض فيه .
بينما لفظ { يتعدى } يشير إلى حاجز يحيط بالأمر المسموح به ، ينبغي عدم تجاوزه ، ولكن دون نهي عن التحرك داخل نطاقه ودائرته وسياقه .
وإلا لو كان لفظ { يتعدى } يشير فقط إلى عدم التجاوز دون إمكانية للتقهقر والتراجع أو النزول والانخفاض ، فإنه يفقد بلاغته لكونه يترادف حينئذ مع لفظ ( يخالف ) ، ومن ثم كان من الأولى بلاغيا حاشا لله أن يكون التعبير القراني : ومن يخالف حدود الله .
ولعل ما سبق يؤكد بأن حظ الرجل الذي هو مثل حظ الأنثيين يمثل السقف الأعلى الذي لا ينبغي للذكر تجاوزه ميراثا في مقابل الأنثى ، ولكن لا مانع قرآني من الانخفاض عنه وصولا إلى مستوى التساوي بينهما .
ثالثا - المنهج القرآني المرشد لعدم تعدي الحدود :
إذا أقررنا بالفهم السابق للفظ { يتعدى } ، فإن الحدود بذلك ترسم مساحة ؛ خطوطها الخارجية ( القصوى ) التي لا ينبغي تجاوزها وتخطيها هى الأمر الإلهى ؛ بينما نطاقها ( النسبى المتدرج ) انخفاضا ونزولا أو تقهقرا ورجوعا هو الاجتهاد البشرى .
ولكن هذا الاجتهاد لا يخضع للأهواء والتحيزات البشرية ، وإنما يسترشد بالمنهج القرآني الموافق لتعاليم الله الوارد بقوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) . سورة الأعراف - الآية ١٩٩ .
فالعفو هنا ؛ لا يعني التخلي عن حدود الله تعالى ؛ وإنما يعني النزول عن سقفها الأعلى وحدها الأقصى لسد الذرائع أمام نزعات التحاسد ، وتمهيد السبيل لدواعي التراحم والتسامح والوصل .
والعُرف هنا - أيضاً - لا يعني هجر الحدود ؛ وإنما يعني النزول عن حدها الأقصى بما يناسب السائد والمألوف من قواعد التحضر والتقدم ، وبما يساير ولا يخاصم متغيرات العصر .
والإعراض عن الجاهلين ( أي الفارغين من العلم ) يعنى - بمفهوم المخالفة - الاستعانة بأهل العلم فكراً وعملاً ؛ أى المتخصصين فى مجالاتهم المتنوعة .
وبالتالي ؛ لا مجال للأخذ بالعفو أو الأمر بالعُرف ؛ إلا بناء على دراسة علمية تحترم التخصص الذى تقتضيه المسألة المطروحة .
الحدود إذن في أنصبة المواريث ، بمثابة نطاقات لا ينبغى تجاوز تخومها ؛ ولكن يمكن الانطلاق داخل مساحتها بفقه العفو وقواعد العُرف ومنهج العلم .
.......
- الخلاصة :
لعل كل ما سلف يوضح بأن مضاعفة نصيب الذكر عن نصيب الأنثى في الميراث ، ما كان إلا تقليصا لنصيب الذكر ، واعترافا بنصيب للأنثى في ظل مجتمعات وتقاليد كانت تستهجن أصلا توريث الأنثى وتحرمها تماما من الميراث .
ولكنه سبحانه بعلمه المحيط ترك من خلال لفظ { يتعدى } مساحة للاجتهاد البشري لمواكبة التطور والتقدم والرقي في المجتمعات .
لذلك بينما وضع عز وجل سقفا لا يمكن تجاوزه لنصيب الذكر ، إلا أنه ترك مساحة وأعطى رخصة تسمح بخفض ذلك النصيب ، ليصير حظ الذكر الذي كان مثل حظ الأنثيين ، متساويا - تراحما وتسامحا - مع حظ الأنثى .
والله سبحانه وتعالى .. أعلم
دكتور / محمد محفوظ
................
- لينك : تعريف و معنى ( تعدى ) في معجم المعاني الجامع
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/تعدى/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق