05 أغسطس 2020

د. محمد محفوظ يكتب : نوح ٥٠ سنة فقط وليس ٩٥٠

نوح ٥٠ سنة فقط وليس ٩٥٠ 
( ١٠٠٠ - ٥٠ = ٥٠ )

(( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون )) . سورة العنكبوت - الآية ١٤ 

- مقدمة لازمة : 

هذا المقال سيوضح أن مدة رسالة نوح عليه السلام هي ٥٠ سنة فقط ، وليست ٩٥٠ سنة . وذلك استنادا إلى عدد من الإشارات - بسورة نوح وسور أخرى من القرآن الكريم - ينبغي أخذها جميعا في الاعتبار عند تفسير الآية رقم ١٤ بسورة العنكبوت .

وهذه الإشارات تستند إلى أدلة لغوية وأدلة رقمية بالنص القرآني ، توضح بأن لفظ ( عام ) ولفظ ( سنة ) كلما وردا بالقرآن الكريم في سياق واحد ، فإن لفظ ( عام ) لا يشير إلى ١٢ شهرا قمريا ، وإنما يشير إلى دورة فلكية تساوي ٢٣٥ شهرا قمريا تكافئ ١٩ سنة شمسية ، وهذه الدورة تم الاصطلاح على تسميتها في علم الفلك بـ ( الدورة الميتونية ) . بما يعني أن لفظ ( عام ) = دورة ميتونية ، أي يساوي ١٩ سنة شمسية .

الأمر الذي يفيد أن العبارة القرآنية : ( ألف سنة إلا خمسين عاماً ) ، تعني وفقا لهذا التفسير ( ألف سنة إلا ٥٠ دورة ميتونية ) ، وحيث أن الدورة الميتونية = ١٩ سنة 
ونظراً لأن ٥٠ دورة ميتونية = ٥٠ × ١٩ سنة = ٩٥٠ سنة 
فإن عبارة : ( ألف سنة إلا خمسين عاماً ) ، تصبح وفقاً لهذا التفسير ألف سنة إلا ٩٥٠ سنة .
فتصبح النتيجة أن مدة لبث نوح في قومه = ١٠٠٠ سنة - ٩٥٠ سنة = ٥٠ سنة 

كانت هذة مقدمة لازمة ، وفيما يلي دلائل وبراهين إثباتها ، وفقا للترتيب الآتي :

- أولاً : عمر نوح في القرآن الكريم والتوراة والحديث الشريف  
- ثانياً : التحليل اللغوي للفرق بين لفظ ( سنة ) ولفظ ( عام ) 
- ثالثاً : العلاقة بين السنة الشمسية والعام القمري 
- رابعاً : الإشارات القرآنية الرقمية التي تربط بين قصة نوح عليه السلام والدورة الميتونية 
- خامساً : حساب مدة لبث نوح في قومه وفقا لمعطيات الدورة الميتونية 
- الخلاصة :
- الخاتمة :
- تنويهات واجبة :
- الهوامش : الجداول والمصادر والصور

فإلى التفاصيل ........

أولاً - عمر نوح في القرآن الكريم والتوراة والحديث الشريف : 
 
للوهلة الأولى يبدو لغير المتخصصين أن العمر المديد لنوح عليه السلام بمثابة معجزة وفقاً لنص الآية رقم ١٤ من سورة العنكبوت .

ولكن ماورد بالإصحاح الخامس والإصحاح التاسع بالتوراة حول الأعمار المديدة للجيل الأول للبشرية ، بداية من آدم مرورا بنسله المتصل حتى نوح عليهما السلام ، يوضح أن عمر نوح لم يكن استثناء ، مما ينفي عنه صفة المعجزة . 
فقد كانت أعمار الجيل الأول للبشرية كما وردت بالتوراة كالتالي :
( آدم ٩٣٠ سنة - شيث ٩١٢ سنة - أنوش ٩٠٥ سنة - قينان ٩١٠ سنة - مهللئيل ٨٩٥ سنة - يارد ٩٦٢ سنة - أخنوخ ٣٦٥ سنة - متوشالح ٩٦٩ سنة - لامك ٧٧٧ - نوح ٩٥٠ سنة ) .

أيضاً ، هناك حديث ضعيف الإسناد منسوب للرسول برواية أنس ، يفيد أن ( عمر نوح ) بلغ ١٤٥٠ سنة . ( انظر الهامش : رقم ١ ) 
وحديث آخر منسوب للرسول برواية ابن عباس ، يشير إلى أن ( عمر آدم ) بلغ ٩٦٠ سنة . ( انظر الهامش : رقم ٢ ) 

فإذا أضفنا لذلك ، حقيقة خلو القرآن تماما من أي آيات توضح تعجب أو استغراب قوم نوح من عمره المديد ، فإن الأمر سيبدو بمثابة تأكيد للأعمار المديدة لكل أبناء هذا الجيل الأول للبشرية ، بما يوضح سبب عدم استغراب أو تعجب قوم نوح بشأن عمره المديد .

ولكن ، إذا كانت الأعمار المديدة وفقا للتوراة صفة ملازمة لكل أبناء الجيل الأول للبشرية ، فإنها بذلك تخرج من إطار الدين ولا تندرج ضمن المعجزات الإلهية التي هي بالتعريف ينبغي أن تكون خارقة لقوانين الطبيعة وغير شائعة بين الناس . 

وهو ما يؤدي بالضرورة إلى دخول تلك الأعمار المديدة ضمن إطار العلم ومعطياته المترتبة على كل من : 
شواهد ( علم البيولوجي ) التي مازالت تنفي وجود أي أدلة بيولوجية تثبت إمكانية تطاول عمر الإنسان لعدة مئات من السنين ، منذ وجوده على الأرض وحتى الآن .
وشواهد ( علم الأنثربولجي ) التي مازالت أيضا لا تقدم من واقع الهياكل العظمية الآدمية المعثور عليها التي تعود لآلاف السنين ، أي دليل يفيد بأن عمر أي إنسان قد امتد لمثل تلك الأعمار المديدة المشار إليها بالتوراة . 

وبناء على هذه الشواهد العلمية النافية للأعمار المديدة للجنس البشري ، فإنه يصبح من المنطقي البحث عن تفسير ( آخر ) لمسألة خلو القرآن من أي استغراب أو تعجب لدى قوم نوح بشأن عمره المديد . 
وهذا التفسير ( الآخر ) يمكن أن يكون مفاده بكل بساطة : 
أن عمر نوح لم يتجاوز المعدلات المعتادة للأعمار حتى عصرنا الحالي .

ولعل هذا التفسير ( الآخر ) يتردد صداه في العبارة القرآنية المخصوصة التي نصت على مدة لبث نوح في قومه ، والتي جمعت في سياق واحد بين لفظين : لفظ ( سنة ) ولفظ ( عام ) ، حيث قال تعالى : 
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) . 
وذلك خلافاً للعبارة الواردة بالتوراة التي نصت على الآتي : 
( فكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة ) .
وفي نسخ أخرى من التوراة ترد تلك العبارة كالآتي :
( فكانت كل أيام نوح تسع مئة سنة وخمسين سنة ) .

وهو ما يستدعي ضرورة التحليل اللغوي لاستنباط المعاني الكامنة في تلك العبارة القرآنية المخصوصة : ( ألف سنة إلا خمسين عاماً ) للكشف عن المقصد الإلهي من استخدام لفظ ( سنة ) مقترناً بلفظ ( عام ) ، بما يزيل الغطاء عن الدلالة المختفية تحت المعنى الظاهر والتي تفتح الباب للكشف عما يحمله النص القرآني من أدلة قد تؤيد ذلك التفسير ( الآخر ) ، الذي يفيد بأن ما ورد في الآية الكريمة لا يمكن اعتباره إشارة لطول مدة لبث نوح في قومه ، وإنما إشارة إلى ملمح آخر يريدنا الله تعالى أن نتدبره . 

ثانياً - التحليل اللغوي للفرق بين لفظ ( سنة ) ولفظ ( عام ) :

لعله من الأوفق تنزيها لله سبحانه وتعالى ، أن نسلم بأن الاستخدام الإلهي للغة غير الاستخدام الإنساني لها . ولا يستقيم في المدلول الإلهي أن تتشابه المعاني بين الكلمات غير المتشابهة في الحروف . 

لذلك تبدو مسألة ادعاء الترادف في ألفاظ القرأن الكريم جديرة بالنقد والمراجعة ، لإعادة فهم هذه الألفاظ في ضوء السياق العام للنص الإلهي المقدس ، وليس السياق اللغوي للمحيط الاجتماعي البشري . 

وإذا كانت البلاغة هي : مطابقة الكلام لمقتضى الحال . فإن كلام الله تعالى هو المثال للبلاغة عندما تدرك حد الكمال . ومن ثم فإن اختلاف الحروف بين لفظ وآخر يقتضي اختلاف المعنى والمدلول بلا شك أو جدال . 

بل إن بلاغة كلام الله تعالى تمتد وتتعاظم لتختلف المعاني بين بعض الكلمات المتشابهة في الحروف نتيجة اختلاف السياق الواردة فيه . كمثال : كلمة ( المحصنات ) التي يختلف معناها باختلاف السياق ، فتعني الحرائر في سياق ما ، بينما تعني المتزوجات في سياق آخر . ولعل هذا ينطبق أيضا على لفظ ( عام ) بحيث يشير لمعان متعددة باختلاف السياق .

ولهذا ، لابد من التسليم بأن ثمة دلالة إلهية تترتب على استخدامه سبحانه وتعالى للفظ (سنة) مصاحبا له لفظ ( عام ) في سياق واحد بالآية رقم ١٤ من سورة العنكبوت .

وتنحو أغلب الكتابات الشارحة لألفاظ القرآن الكريم إلى وجود اختلاف في المعنى بين لفظ سنة ولفظ عام ، انطلاقا من السياق القرآني الذي يشير في الغالب وفقا لرأيهم إلى لفظ ( سنة ) بمعنى الزمن الذي تلازمه شدة وضيق الحال ، بينما يشير إلى لفظ ( عام ) بمعنى الزمن الذي تلازمه سعة ولين ويُسر الحال .

وهذا التفسير الشائع يرتفع بمدة لبث نوح في قومه لتصل إلى ( ألف سنة ) ، منها ( ٩٥٠ سنة ) قبل الطوفان عانى فيها نوح من الشدة والضيق لعناد قومه وإصرارهم على كفرهم ، ومنها ( ٥٠ عاما ) من بعد الطوفان أنعم الله فيها على نوح بسعة ولين ويسر الأحوال بعد دحر الكفر واستقرار الإيمان . بحيث يصبح لفظ ( إلا ) استثناء لحال من حال ، وليس استثناء لمدة زمنية من مدة أخرى .

ولكن ثمة فرق آخر في المعنى بين لفظ ( سنة ) ولفظ ( عام ) ينبغي أن يتم أخذه في الحسبان .
فحروف : السين ، والنون ، والتاء المربوطة .. في تتابعها ، تشير إلى معان متعددة ، ولكنها تتفق جميعا في الدلالة .

حيث تشير إلى لفظ ( سَـنة ) بفتح السين ، باعتباره مقياس للزمن ، أي دورة واحدة للأرض حول الشمس .
وتشير أيضا إلى لفظ ( سِـنة ) بكسر السين ، باعتباره الغفوة اللحظية بين اليقظة والنوم ، مثل العبارة القرآنية : (( لا تأخذه سِنـة ولا نوم )) . 
كما تشير إلى لفظ ( سُـنّة ) بضم السين ، باعتباره الطريقة الواحدة والسبيل المتفرد . مثل العبارة القرآنية :  (( سُنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا )) .

وبذلك يشير التحليل اللغوي للفظ ( سنة ) باختلاف تشكيل الحروف إلى دلالة محددة تتمثل في : الإفراد ، والواحدية ، وعدم التجميع ، وعدم الاشتمال على أكثر من شيء .

بينما يشير التحليل اللغوي للفظ ( عام ) إلى : العموم ، والتجميع ، والاشتمال على أكثر من شيء ، والتكرار والشيوع والذيوع . 

ولهذا ، يشير لفظ ( سنة ) من منظور الحركة الفلكية إلى دورة واحدة لجسم حول جسم آخر .
بينما يشير لفظ ( عام ) من منظور الحركة الفلكية إلى مجموع دورات متعددة لجسم حول جسم آخر .

وهذا يجعل لفظ ( سنة ) يمثل فلكيا ( دورة واحدة ) للأرض حول الشمس ، بما يجعل السنة شمسية .
بينما لفظ ( عام ) يمثل فلكيا ( مجموع دورات ) القمر حول الأرض بواقع ١٢ دورة ، بما يجعل العام قمريا . مصداقا لقوله تعالى : (( إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا ... )) . سورة التوبة - الآية ٣٦

وانطلاقا من هذا الفهم ، بشأن شمسية السنة وقمرية العام ، فإن تفسير الآية رقم ١٤ من سورة العنكبوت الخاصة بمدة لبث نوح في قومه ، سيشير إلى ألف سنة شمسية مطروحا منها ٥٠ عاما قمريا . الأمر الذي سيسفر أيضا عن زيادة وليس نقصان في مدة رسالة نوح عليه السلام ، وذلك كالتالي :
فالسنة الشمسية = ٣٦٥ يوما تقريبا .. والعام القمري = ٣٥٤ يوما تقريبا
أي أن العام القمري = ٩٧ ٪ من السنة الشمسية 
وبالتالي ، فإن ٥٠ عاما قمريا = ٤٨,٥٤٣٦٨٩٣ سنة شمسية 
فإذا طرحنا قيمة ٥٠ عاما قمريا من ألف سنة شمسية ( ألف سنة الا خمسين عاما ) .
فإن مدة لبث نوح في قومه تصبح تساوي : 
١٠٠٠ سنة - ٤٨,٥٤٣٦٨٩٣ سنة = ٤٦ ,٩٥١ سنة . أي بزيادة سنة ونصف تقريبا عن المدة الزمنية الشائعة ، وهي ٩٥٠ سنة .

ولكن هذا التفسير يصطدم مرة أخرى بالتفسير ( الآخر ) بشأن عدم تطاول مدة لبث نوح في قومه . الأمر الذي يرجح أن لفظ ( عام ) قد يشير إلى مجموع دورات تتجاوز الـ ١٢ دورة الشائعة للقمر حول الأرض . وهو ما يستدعي البحث عن (علاقة) أخرى بين السنة الشمسية والعام القمري ، يمكن أن تمدنا بتفسير جديد للمدة الزمنية التي لبثها نوح عليه السلام في قومه .

ثالثاً - العلاقة بين السنة الشمسية والعام القمري :

توضح الحسابات الفلكية أن العلاقة بين السنة الشمسية والعام القمري ، لا تقتصر فقط على العلاقة  الشائعة التي تجعل العام القمري = ٩٧ ٪ من السنة الشمسية ، وإنما تمتد لعلاقات أخرى ، بما قد يجعل لفظ ( عام ) يساوي مجموع دورات أكبر من دورة الـ ١٢ شهرا الشائعة ، وذلك كالتالي : 

+ العلاقة الأولى : ومفادها أن ٣٢ سنة شمسية = ٣٣ عاما قمريا تقريبا ، وهذه العلاقة تتوافق بموجبها رأس السنة الشمسية الميلادية تقريبا مع رأس السنة القمرية الهجرية كل ٣٢ سنة شمسية أو ٣٣ عاما قمريا ، بفارق ٦,٣٦ يوما ( أي بفارق ستة أيام وثلث تقريبا ) . 

+ العلاقة الثانية : ومفادها أن ١٩ سنة شمسية = ٢٣٥ شهرا قمريا ، أي ( ١٩ عاما قمريا + ٧ شهور قمرية ) . وهذه العلاقة يتم الاعتماد عليها في التقاويم العبرية والقبطية لتحديد مواعيد عيد الفصح وعيد القيامة في الديانتين اليهودية والمسيحية ، وتمت تسميتها الدورة الميتونية Metonic Cicle نسبة إلى الفلكي الإغريقي : ميتون Meton .. الذي اكتشف تلك الدورة عام ٤٣٢ ق.م .

وتعني الدورة الميتونية ، أن ثمة علاقة فلكية بين الأرض والقمر ، تتمثل في أن الإحداثيات الخاصة برصد الأرض والقمر لا تتطابق تقريبيا في أي موضع لهما حول الشمس إلا كل ١٩ سنة ، بحيث تتساوى ١٩ دورة للأرض حول الشمس ومجموعها بالأيام ( ٦٩٣٩,٦٠  يوما ) ، تتساوى تقريبيا مع ٢٣٥ دورة للقمر حول الأرض ومجموعها بالايام ( ٦٩٣٩,٦٨ يوما ) , بفارق ٨ ٪  من اليوم ( ساعتين تقريبا فقط ) . بحيث يعود القمر لنفس إحداثيات موضعه الذي كان فيه حول الأرض بنفس إحداثيات موضعها حول الشمس ، وذلك كل ١٩ سنة . 
( انظر الهامش : رقم ٣ )

أي أن ٢٣٥ دورة للقمر حول الأرض = ١٩ دورة للأرض حول الشمس ، بفارق ساعتين تقريبا فقط .

ولعل هذا يوضح ، أن الدورة الميتونية ( دورة الـ ١٩ سنة ) ، تنخفض بفارق العلاقة بين سنواتها الشمسية وأعوامها القمرية إلى ساعتين فقط ، بخلاف ( دورة الـ ٣٢ سنة ) التي يصل الفرق بين سنواتها الشمسية وأعوامها القمرية إلى ٦ أيام . 
( انظر بالصور : الجدول رقم ١ موضحا به العلاقة بين السنة الشمسية والعام القمري )

بما يعني ، أن لفظ ( عام ) كلما ورد بالقرآن الكريم في سياق واحد متلازما مع لفظ ( سنة ) ، فإنه قد لا يشير بالضرورة الى العام القمري الذي يساوي ١٢ شهرا قمريا ، بل قد يشير الى دورة فلكية أخرى ، قد تكون دورة الـ ٣٣ عاما قمريا التي تكافئ ٣٢ سنة شمسية ، أو الدورة الميتونية دورة الـ ٢٣٥ شهرا قمريا التي تكافئ ١٩ سنة شمسية .

وسنثبت في البند التالي ، أن تفسير لفظ ( عام ) بمعناه المساوي لـ ١٩ سنة شمسية أو ٢٣٥ شهرا قمريا ، هو التفسير الذي تدعمه الأدلة الرقمية الكامنة بالنص القرآني . ومن ثم فإن الدورة الميتونية تبدو هي الأجدر بحساب مدة لبث نوح في قومه .

رابعاً - الإشارات القرآنية الرقمية التي تربط بين قصة نوح عليه السلام والدورة الميتونية :

ثمة إشارات رقمية متعددة ، سواء بمجمل القرآن الكريم ، أو بسوره المتفرقة : كسورة نوح ، وسورة هود ، وسورة المؤمنون ، وسورة آل عمران ، توضح جميعها العلاقة بين قصة نوح عليه السلام والدورة الميتونية ، أو بالأحرى العلاقة بين قصة نوح وكل من رقم ٢٣٥ ورقم ١٩ ، وذلك كالآتي :

+ الاشارة الأولى بسورة نوح ، وهي إشارة لافتة ، وتتمثل في الآتي :
فسورة نوح هي السورة رقم ( ٧١ ) في ترتيب السور بالمصحف الشريف .
وهي السورة رقم ( ٧١ ) في ترتيب النزول لسور القرآن الكريم .
وهي أيضا السورة رقم ( ٧١ ) في الترتيب التنازلي لسور القرآن الكريم وفقا لعدد الآيات . بمعنى أن سورة البقرة تتبوأ المركز رقم ( ١ ) باعتبارها أطول سورة من حيث عدد الآيات ، وتحتل سورة نوح المركز رقم ( ٧١ ) في هذا الترتيب التنازلي .

وكما هو واضح ، فإن هذه العلاقة الثلاثية التي يتطابق بموجبها ترتيب سورة نوح بالمصحف الشريف ، مع ترتيب نزولها من الوحي ، مع ترتيبها التنازلي من حيث عدد الآيات ، هذه العلاقة تتماثل مع العلاقة الثلاثية بين الشمس والأرض والقمر التي تنتظم وفقا لها الدورة الميتونية . 

وهذه العلاقة الثلاثية تتعزز معانيها بإشارة رقمية لافتة تتمثل في الآتي :
ترتيت سورة نوح بالمصحف + ترتيب نزولها + ترتيبها التنازلي وفقا لعدد آياتها = ٧١ + ٧١ + ٧١ = ٢١٣ 
فإذا أضفنا لهذا الرقم عدد حروف عبارة البسملة وهي = ١٩ حرفا
وأضفنا أيضا عدد حروف اسم نوح وهي = ٣ حروف
فإن حاصل جمع هذه الأرقام الثلاثة = ٢١٣ + ١٩ + ٣ = ٢٣٥

.. أي أن التحليل الرقمي المبدئي لسورة نوح يسفر عن ظهور رقم ( ٢٣٥ ) ، وهو عدد الشهور القمرية المكافئة لعدد ١٩ سنة شمسية في الدورة الميتونية .
( انظر بالصور : الجدول رقم ٢ لبيان ترتيب سور القرآن بالمصحف وترتيب نزولها . والجدول رقم ٣ لبيان الترتيب التنازلي لسور القرآن الكريم وفقا لعدد الآيات )

+ الإشارة الثانية بسورة نوح : وتتمثل في الآتي :
إجمالي عدد الكلمات بسورة نوح ( برسم المصحف الشريف ) = ٢٢٦ كلمة 
عدد كلمات عبارة : سورة نوح = ٢ كلمة
حاصل جمع : ٢٢٦ + ٢ = ٢٢٨
ورقم ٢٢٨ = ١٢ × ١٩
.. وهكذا يظهر رقم ( ١٩  ) مرتبطا بسورة نوح .

فإذا أضفنا لرقم ٢٢٨ ، عدد حروف عبارة : سورة نوح = ٧ حروف
فإن حاصل جمع هذه الأرقام الثلاثة = ٢٢٦ + ٢ + ٧ = ٢٣٥
.. وهكذا يظهر رقم ( ٢٣٥ ) للمرة الثانية مرتبطا بسورة نوح .

أيضا يمكن أن تنتظم تلك الإشارة الرقمية الثانية وفقا للتنظيم التالي :

إجمالي عدد الكلمات بسورة نوح = ٢٢٦ كلمة
عدد كلمات عبارة : سورة نوح = ٢ كلمة
عدد كلمات عبارة البسملة = ٤ كلمات
عدد حروف اسم نوح = ٣ حروف
حاصل جمع هذه الأرقام الأربعة = ٢٢٦ + ٢ + ٤ + ٣ = ٢٣٥
( انظر بالصور : الجدول رقم ٤ يوضح إجمالي عدد الكلمات بسورة نوح )

+ الإشارة الثالثة بسورة نوح : وتتمثل في الآيات من رقم ١٦ إلى رقم ١٩ ، حيث قال الله تعالى :
(( وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا )) . 

الآيات السابقة تجمع بين القمر والشمس ، وورد فيها لفظ الأرض بالآية رقم ١٩ بمعنى ( الكوكب الكروي ) الذي تفرض كرويته أن يكون بساطا ، أي مبسوطا بلا حافة يتم إدراكها مهما تواصل عليه المسير .
وفي ذلك إشارة إلى علاقة رقم ١٩ بتلك الأجرام السماوية الثلاثة ( كوكب الأرض - القمر - الشمس ) . 
وهذا ما تؤكده العلاقات الرقمية التالية بين تلك الأجرام :
فالقمر يستمد نوره من الشمس
القمر نورا ( ٩ حروف ) + الشمس سراجا ( ١٠ حروف ) = ١٩ حرفا
والقمر يدور حول كوكب الأرض ويعكس نوره إليها
القمر نورا ( ٩ حروف ) + الأرض بساطا ( ١٠ حروف ) = ١٩ حرفا
.. وهكذا يظهر رقم ( ١٩ ) للمرة الثانية مرتبطا بسورة نوح ، وليؤكد العلاقة بين الشمس والأرض والقمر ورقم ١٩ .

+ الإشارة الرابعة وتتعلق بعدد مرات ورود اسم نوح بمجمل سور القرآن الكريم : 
حيث أن حروف : النون ، والواو ، والحاء ، المتتابعة التي يتكون منها اسم نوح عليه السلام ، قد وردت في مجمل القرآن الكريم ٥٠ مرة ، ٤٣ منها برسم اسم نوح عليه السلام ، و٧ مرات برسم كلمات أخرى ( كلمة نوحيه ٢ مرة - كلمة نوحيها ١ مرة - كلمة نوحي ٤ مرات ). 
.. وهكذا يظهر رقم ٥٠ مرتبطا بالحروف الثلاثة التي يتشكل منها اسم نوح عليه السلام .

ولكن الإشارة اللافتة أن رقم ٤٣ الذي يمثل عدد مرات ورود اسم نوح بالقرآن الكريم ، إذا تم جمعه مع رقم ٧١ الذي تتميز به سورة نوح كما أوضحنا في الإشارة الرقمية الأولى . فإن الناتج يكون رقم ١١٤ ، وهو عدد سور آيات القرآن ، وهو أيضا حاصل ضرب رقم ١٩ في رقم ٦ .
أي أن : ٤٣ + ٧١ = ١١٤ . و ١١٤ = ١٩ × ٦
علماً بأن رقم ( ٦ ) هو رقم ترتيب سورة نوح بالمصحف ضمن ترتيب السور التي وردت بأسماء الأنبياء ، وذلك وفقا للترتيب الآتي : 
١ - سورة يونس ، ٢ - سورة هود ، ٣ - سورة يوسف ، ٤ - سورة إبراهيم ، ٥ - سورة محمد ، ٦ - سورة نوح .
.. وهكذا يظهر رقم ( ١٩ ) للمرة الثالثة مرتبطا باسم نوح عليه السلام .
( انظر الهامش : رقم ٤ )

+ الإشارة الخامسة وتتعلق برحلة سفينة نوح ، من خلال ( ابتهال ) نوح باسم الله مع بدء انطلاقها ، و ( دعاء ) نوح لله متضرعا قبل رسوها . 
الابتهال : تتضمنه سورة هود بالآية رقم ٤١ ، ويتمثل في العبارة القرآنية : ( .. بسم الله مجريها ومرسها .. ) ، ومجموع حروف هذا الابتهال = ١٩ حرفا . 
والدعاء : تتضمنه سورة المؤمنون بالآية رقم ٢٩ ، ويتمثل في العبارة القرآنية : ( .. رب انزلني منزلا مباركا .. ) . ومجموع حروف هذا الدعاء الذي أوحاه الله تعالى لنوح ليتضرع به إليه سبحانه ليبارك فيما تنتهي به رحلة السفينة بعد نهاية الطوفان ، كان مجموع حروفه ١٩ حرفا .
.. وهكذا يظهر رقم ( ١٩ ) للمرة الرابعة والمرة الخامسة مرتبطا بقصة نوح .

+ الإشارة السادسة وتتضمنها الآية رقم ٣٣ من سورة آل عمران والتي يقول فيها تعالى : 
( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) .
حيث أن عدد حروف عبارة : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا .. ) ، تساوي ١٩ حرفا . 
.. وهكذا يظهر رقم ( ١٩ ) للمرة السادسة مرتبطا بنوح عليه السلام .

+ الإشارة السابعة :
أثبت المهندس/ عدنان الرفاعي ، في مقال بعنوان : ألف سنة إلا خمسين عاما ، وفي العديد من الفيديوهات والمقابلات التلفزيونية ، أن عدد حروف سورة نوح = ٩٥٠ حرفا وفقا لرسم كلمات القرآن الكريم . وهو ما استدل من خلاله بأن رقم ٩٥٠ ينصرف إلى عبارة : ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) . بما يعني أن فترة رسالة نوح = ١٠٠٠ سنة ، من بداية إرساله لقومه حتى أخذهم بالطوفان . وتلك السنوات الـ ١٠٠٠ التي كان فيها نوح لابثاً في قومه يدعوهم ، تخللتها ٥٠ سنة منفصلة وليست متصلة ، كان فيها نوح لابثاً خارج قومه هاجرا لهم .
ومن خلال طرح سنوات الهجر الخمسين التي لبث فيها نوح خارج قومه من الألف سنة التي لبثها في قومه ، فإن ١٠٠٠ - ٥٠ = ٩٥٠ سنة .

.. وفي تقديرنا المتواضع ، ووفقا لكل ما أوضحناه سلفا من إشارات لغوية ورقمية بالنص القرآني ، فإننا نميل إلى التسليم بأن عدد حروف سورة نوح الذي يساوي ٩٥٠ حرفا لا ينصرف إلى عبارة : ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) ، وإنما ينصرف حصرا إلى عبارة : (خمسين عاما) ، بحيث يشير لفظ ( عام ) إلى الدورة الميتونية التي تساوي ١٩ سنة ، فتصبح عبارة : ( خمسين عاما ) = ٥٠ × ١٩ = ٩٥٠ سنة
.. وهكذا  يظهر رقم ( ١٩ ) للمرة السابعة مرتبطا بنوح عليه السلام .
(انظر الهامش - رقم ٥ ) 
............

إذن في ظل كل تلك الإشارات الرقمية القرآنية التي تربط بين نوح عليه السلام ، وكل من رقم ( ١٩ ) ورقم ( ٢٣٥ ) ، بواقع ٧ مرات لرقم ١٩ ، ومرتان لرقم ٢٣٥ .

وفي ظل عدم وجود دليل علمي يؤيد تطاول عمر الإنسان منذ وجوده على الأرض ليصل إلى الأعمار المديدة الواردة بالتوراة .

وفي ظل خلو القرآن الكريم من أي آيات توضح استغراب قوم نوح من عمره المديد.

وفي ظل ذكر مدة لبث نوح في قومه بالقرآن الكريم باستخدام لفظين غير مترادفين ، لفظ ( سنة ) ولفظ (عام ) .

... في ظل كل تلك المقدمات ، فإن التفسير ( الآخر ) بشأن عدم تطاول مدة لبث نوح في قومه يأخذ مكانه تحت الضوء ، وفقا لأسانيد تستوجب التبني والاعتبار .

.. فإلى حساب مدة لبث نوح في قومه وفقاً لكل تلك المعطيات ...
.............

خامسا - حساب مدة لبث نوح في قومه وفقا لمعطيات الدورة الميتونية :

بعد عرض كل تلك الإشارات الكامنة بالنص القرآني والتي توضح ارتباط رقم ( ٢٣٥ ) ورقم ( ١٩ ) بنوح عليه السلام وقصته . فإنه لا يمكن تجاهل أن الاستخدام الإلهي لعبارة : ( ألف سنة الا خمسين عاما ) ، كان يشير إلى معنى مخصوص يخرج بلفظ ( عام ) من دلالته الشائعة التي تساوي ١٢ شهرا قمريا ، لكي تحل محله دلالة أخرى تجعل لفظ ( عام ) يساوي ٢٣٥ شهرا قمريا تكافئ ١٩ سنة شمسية ، أو ٣٣ عاما قمريا تكافئ ٣٢ سنة شمسية .

ومن ثم ، فإن تفسير لفظ ( عام ) بسورة العنكبوت بمعناه الشائع الذي يساوي ١٢ شهرا قمريا ، والذي يرتفع بمدة لبث نوح في قومه ليصل إلى ٤٦ ,٩٥١ سنة ، هو تفسير لا يتلاءم مع تلك الإشارات .

كما أن تفسيرلفظ ( عام ) بمعناه المساوي لـ ٣٣ عاما قمريا تكافئ ٣٢ سنة شمسية ، هو تفسير يجعل ٥٠ عاما = ٥٠ × ٣٢ = ١٦٠٠ سنة . 
ومن ثم ينتج عن عبارة : ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) قيمة سالبة . إذ أن : ١٠٠٠ - ١٦٠٠ = - ٦٠٠ ( أي سالب ٦٠٠ ) ، وهي بالطبع نتيجة لا زمنية .

وبناء عليه ، فإن تفسير لفظ ( عام ) بمعناه الذي يتفق مع الإشارات التي توضح ارتباط رقم ٢٣٥ ورقم ١٩ بنوح عليه السلام وقصته ، هذا التفسير يؤدي إلى التسليم بأن لفظ ( عام ) بالآية رقم ١٤ من سورة العنكبوت = دورة ميتونية = ١٩ سنة شمسية .

وبالتالي ، تصبح قيمة ٥٠ عاما = ٥٠ دورة ميتونية = ٥٠ × ١٩ سنة = ٩٥٠ سنة .
فإذا تم طرح هذه القيمة من ١٠٠٠ سنة ، تصبح مدة لبث نوح في قومه = ١٠٠٠ سنة - ٩٥٠ سنة = ٥٠ سنة فقط .

أي أن العبارة القرآنية : ( ألف سنة إلا ٥٠ عاما ) ، تعني ( ألف سنة إلا ٥٠ دورة ميتونية ) = ١٠٠٠ سنة - ٩٥٠ سنة = ٥٠ سنة . 
وإذا شئنا الدقة ٥٠ سنة إلا ٤ أيام .

وهكذا ، تصبح مدة لبث نوح عليه السلام في قومه ٥٠ سنة فقط ، وقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى هذا المعنى بعبارة قرآنية تتضمن ظاهرة فلكية تواترية تجمع بين الشمس والأرض والقمر .

بما يعني أن الله تعالى اصطفى نوحا عليه السلام بمعجزة مناخية تمثلت في الطوفان ، ولكن مدة لبثه في قومه لم تكن بنص الآيات والإشارات الكامنة بها معجزة بيولوجية تتعلق بالعمر المديد ، وإنما كانت تتضمن إشارة إلى ظاهرة فلكية تواترية هي الدورة الميتونية . 

وهذه الظاهرة الفلكية كانت معلومة لدى علماء الفلك ورجال الدين اليهودي منذ ٤٣٢ سنة قبل الميلاد ، أي منذ ١٠٤٢ سنة تقريبا قبل بعثة الرسول عليه السلام سنة ٦١٠م .

ولذلك ، أينما ورد لفظ ( عام ) في سياق واحد بالقرآن الكريم مع لفظ ( سنة ) ، فإنه لا يشير إلى العام القمري ، وإنما يشير إلى الدورة الميتونية التي تساوي ١٩ سنة شمسية تكافئ ٢٣٥ شهرا قمريا .

... ولعل هذا سيكون بإذن الله تعالى ، موضوع بوست قادم عن الإشارات الكامنة بالآيات من رقم ٤٧ إلى رقم ٤٩ من سورة يوسف ، والتي يترافق فيها لفظ ( سنين ) مع لفظ ( عام ) في سياق واحد ، بما يستدعي أيضا تفسير لفظ ( عام ) بسورة يوسف وفقا لمعطيات الدورة الميتونية .
........

الخلاصة : 

لعل تدبر الآيات السالف ذكرها الخاصة بنوح عليه السلام في ضوء معطيات الدورة الميتونية ، يقدم تفسيرا مستحدثا لمعاني تلك الآيات . 
قد لا يقبله البعض تمسكا بالتراث والنقل وتوجسا من العقل . 
وقد يستخف به البعض الآخر افتتانا بالعقل وريبة وشكا في النص .

وما بين التمترس خلف التفسير التراثي المتوارث للنص ، أو التحلل من أي تفسير للنص استسلاما للريبة والشك في مصدر هذا النص .
فإن الرد على كلا الفريقين لن يكون إلا ببرهان واحد مفاده : 
إن النتائج المستخرجة من النص تم التوصل إليها بموجب إشارات لغوية ورقمية متضمنة بذات النص .

وبالتالي ، فعلى من يؤمن بالنص أن يحترم ما يتم استخراجه من ثناياه وبطائنه . 
وعلى من يشك في النص ، أن يعيد التفكير في مدى صدقية ذلك النص ، طالما كان يحمل ما يتماشى مع العلم والعقل ولا يتصادم معهما .
...............

الخاتمة :

وأخيراً ، قدم هذا البوست مقاربة لمدة رسالة نوح عليه السلام من منظور ألفاظ القرآن الكريم التي هي غير قابلة للترادف ، وهي مقاربة تحمل تفسيرا نافيا للعمر المديد عن نوح عليه السلام ، وتحمل بالتبعية تفسيرا نافيا للأعمار المديدة المزعومة لباقي أبناء الجيل الأول للبشرية الواردة بالتوراة بسفر التكوين .

ومن ثم فإن عبارة : ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) ، تقدم إجابة قرآنية مفادها : أن كافة ماورد بالتوراة أو الأحاديث المنسوبة للرسول عن أعمار مديدة للأجيال الأولي للبشرية من لدن آدم حتى نوح وبنيه ، لا دليل عليه من العلم القابل للكشف والتقصي ، ولذلك ربط الله تعالى العبارة القرآنية التي أشارت لمدة لبث نوح في قومه بظاهرة فلكية تواترية ، ليبرهن لنا سبحانه بأن تلك الأعمار المديدة المزعومة ينبغي استقرائها ضمن براهين العلم وأسبابه. 

وتأسيسا على ما سبق ، ربما يتبادر لذهن البعض أن المنهج الذي اتبعناه لحساب مدة لبث نوح في قومه باستخدام الدورة الميتونية ، هو منهج قابل للتطبيق على باقي الأعمار المديدة الواردة بالتوراة أو بعض الأحاديث النبوية من لدن آدم مرورا بنوح وصولا لإبنائه وأحفاده ، وذلك لمعرفة المدى الزمني الحقيقي لتلك الأعمار قياسا بعمر نوح .

والواقع ، إننا نعتقد بأن ذلك المنهج الذي اتبعناه لا يفتح الباب لإعادة حساب تلك الأعمار المديدة لأبناء الجيل الأول للبشرية وفقا لمعطيات الدورة الميتونية ، بل إنه يغلق ذلك الباب تماما ، باعتبار أن نفي القرآن الكريم العمر المديد عن نوح ، قد  أدى بالتبعية المباشرة إلى نفي تلك الأعمار المديدة عن باقي أبناء الجيل الأول للبشرية ، ومن ثم تصبح هذه الأعمار تدور في إطار المعدلات الطبيعية الشائعة للأعمار الإنسانية . 

وكأن القرآن الكريم ، بنفيه للأعمار المديدة الواردة بالتوراة ، يؤكد المعنى الذي يتردد صداه في قوله سبحانه : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) . سورة النمل - الآية ٧٦
ومن إشارات القرآن الكريم أن رقم تلك الآية هو : ٧٦ 
ونظرا لأن رقم ٧٦ = ١٩ × ٤
فإن رقم ( ١٩ ) يطل بوجهه مرة أخرى ، ليشير من ضمن ما يشير إلى الدورة الميتونية ، باعتبارها تكشف بعض ما اختلف فيه بني إسرائيل ، والذي كان وفقا لمضمون هذا المقال يتعلق بالأعمار المديدة المزعومة لأبناء الجيل الأول للبشرية .
..........

تنويهات واجبة : 

- التنويه الأول :
تم التعامل مع الدورة الميتونية في هذا البوست باعتبارها ظاهرة فلكية تتكرر بموجبها ذات الإحداثيات لمواضع الأرض والقمر بالنسبة للشمس كل ١٩ سنة أو ٢٣٥ شهرا قمريا ، وليس باعتبارها تقويما فلكيا ابتكره أيضا الفلكي : ميتون ، ليحقق التوافق بين السنة الشمسية والعام القمري .

ولقد قام ( ميتون ) بتوليف تقويمه هذا من خلال ما يسمى بـ ( نظام الكبس ) ، الذي تصبح بموجبة سبعة أعوام قمرية من كل ١٩ عاما قمريا أعواما كبيسة ، أي يصبح عدد شهورها ١٣ شهرا وليس ١٢ شهرا ، بما يجعل ١٩ عاما قمريا لا تساوي ٢٢٨ شهرا ، وإنما تساوي ٢٣٥ شهرا (  ٢٢٨ شهرا + ٧ شهور ) ، الأمر الذي يحقق التوافق بين الشهور الشمسية والقمرية ، ومن ثم تحل المناسبات المرتبطة بالشهور القمرية في موعد متوافق مع الشهور الشمسية .

ورغم أن هذه التوليفة التوفيقية التي ابتكرها ( ميتون ) يتم استخدامها في التقويم اليهودي لتحديد موعد ( عيد الفصح ) ، وفي التقويم المسيحي لتحديد موعد ( عيد القيامة ) ، إلا أن هذه التوليفة لا تتلاقى مع المعنى الظاهر لقول الله تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم .. ) . سورة التوبة - الآية ٣٦ 

ولذلك نؤكد بأن الدورة الميتونية في هذا البوست لا تستند إلى تلك التوليفة التوفيقية التي لا تتلاقى مع الآية رقم ٣٦ من سورة التوبة ، وإنما تستند إلى الظاهرة الفلكية الثابتة والمستقرة علميا ، بشأن تكرار ذات الإحداثيات لمواضع الأرض والقمر بالنسبة للشمس كل ١٩ سنة .

بما يعني أن البوست يتحدث عن الدورة الميتونية باعتبارها اكتشاف فلكي ، وليس باعتبارها توليفة بشرية للتوفيق بين السنة الشمسية والعام القمري .

- التنويه الثاني :
اتجهت بعض الكتابات إلى نفي العمر المديد عن نوح وباقي أبناء الجيل الأول للبشرية ، من خلال التكهن بأن وحدات الزمن التي استخدمها الإنسان في العصور القديمة كانت تختلف عن وحدات الزمن الحالية . 
بمعنى أن وحدة الزمن كانت تتمثل في دورة القمر حول الأرض بمنازله المتعاقبة من الهلال إلى البدر إلى الهلال ( أي الشهر القمري ) ، بما يجعل مفهوم السنة لدى الجيل الأول للبشرية يساوي شهرا قمريا ، الأمر الذي يفيد بأن عمر نوح البالغ ٩٥٠ سنة يساوي وفقا لذلك المفهوم ٩٥٠ شهرا قمريا ، ومن ثم يصبح عمره عليه السلام = ٩٥٠ ÷ ١٢ = ٧٩,١٦ سنة . ( انظر الهامش : رقم ٦ )

ولكن هذا المفهوم الذي تبنته تلك الكتابات ، لا يتفق مع نصوص واضحة وصريحة بالتوراة بشأن نوح وقصته ، ورد فيها لفظ شهر باعتباره أحد مكونات السنة ، وورد فيها لفظ يوم بوصفه من مكونات الشهر . وفيما يلي بعض الآيات التي تثبت ذلك كالآتي :

 - (( لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته )) . سفر التكوين الإصحاح ٧ - الآية ٤ 

- (( في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء )) . سفر التكوين الإصحاح ٧ - الآية ١١ 

- (( وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة )) . سفر التكوين الإصحاح ٧ - الآية ١٢ 

- (( واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراط )) . سفر التكوين الإصحاح ٨ - الآية ٤ 

- (( وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال )) . سفر التكوين الإصحاح ٨ - الآية ٥ 

- (( وكان في السنة الواحدة والست مئة، في الشهر الأول في أول الشهر، أن المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر، فإذا وجه الأرض قد نشف )) . سفر التكوين الإصحاح ٨ - الآية ١٣ 

- (( وفي الشهر الثاني، في اليوم السابع والعشرين من الشهر، جفت الأرض )) . سفر التكوين الإصحاح ٨ - الآية ١٤ 

- (( وعاش نوح بعد الطوفان ثلاث مئة وخمسين سنة )) . سفر التكوين الإصحاح ٩ - الآية ٢٨ 

- (( فكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة، ومات )) . سفر التكوين الإصحاح ٩ - الآية ٢٩ 

ووفقا لكل هذه الآيات بسفر التكوين التي تسرد قصة نوح والطوفان ، فإنه يتبين أن التكهنات التي ذهبت إلى أن كلمة سنة تعني شهرا قمريا ، هي تكهنات تتناقض مع النص ، وتتجاهل ما تضمنته آيات سفر التكوين من ذكر صريح للفظ سنة ولفظ شهر ولفظ يوم .

ومن ثم يظل لفظ سنة الوارد بالعهد القديم غير قابل للتأويل بغير معناه الشائع ، والذي يفيد أن السنة لم تكن في ذلك العهد من تاريخ البشرية تساوي شهرا ، وإنما كانت تتكون من ١٢ شهر .

.. أيضا ، فإن بعض الكتابات الأخرى ، اتجهت إلى القول بأن القدماء كانوا يستخدمون نظام العد الخماسي وليس العشري ، استنادا لآلهة قوم نوح الخمسة ( ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ) . وأن الوحدة الزمنية لديهم كانت تتمثل في رقم ٧ ، بما ينخفض بعمر نوح إلى ٧١ سنة ونصف تقريبا . ( انظر أيضا الهامش : رقم ٦ )

والواقع ، أن تلك الكتابات وإن كانت تنفي العمر المديد عن نوح ، وتقدر عمره بـ ٧١ سنة تقريبا ، بما يتفق مع علاقة سورة نوح اللافتة برقم ٧١ . إلا أن النتائج التي تصل  لها تلك الكتابات لا تستند لمقدمات ثابتة علمياً ، بل هي نتائج متصورة ولا تأكيد عليها ، سواء ما يتعلق منها بنظام العد الخماسي ، أو الوحدة الزمنية المتمثلة في رقم ٧ ، بما يجعل نتائجها تفتقر للبراهين والأدلة . 

ولعل الارتباط اللافت لرقم ٧١ بسورة نوح ، قد يدفع نحو الميل لاعتبار هذا الرقم بمثابة إشارة رقمية إلى عمر نوح عليه السلام ، بمعنى أنه لبث في قومه ٥٠ سنة ، ومجمل عمره كان ٧١ سنة .

ولكننا لا نؤيد الخوض في تفاصيل لم يتطرق لها القرآن الكريم ، ونكتفي بإعمال الاجتهاد والتدبر في مدة لبث نوح في قومه فقط ، دون التطرق لأبعد من ذلك ، طالما تجاوز القرآن الكريم ذلك وسكت عنه .

لذا لزم التنويه ... 

اللهم بارك لنا في قراءتنا لقرآنك الكريم ، وتدبرنا في آياته يارب العالمين .
...........

دكتور / محمد محفوظ

الهوامش : 

١ - روى ( ابن عساكر ) عن ( أبان بن أبي عياش العبدي ) عن ( أنس ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتين سنة ، فلما أتاه ملك الموت قال : يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة ، كيف رأيت الدنيا ؟ قال : مثل رجل بني له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر .
( إسناد الحديث واه ، أبان هذا متروك ، كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب . قال الحافظ في اللسان : ضعفه أحمد وجماعة ، وكذبه ابن معين مرة . وقال أبو حاتم : متروك ذاهب الحديث . وقال النسائي : ليس بثقة ) . 
المصدر :
٢ - عن ابن عباسٍ قال : إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال: أي رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون عاما، قال رب: زد في عمره. قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام. فزاده أربعين عاما، فكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلت، وأبرز الله عز وجل عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة . 
( رواه أحمد واللفظ له عن ابن عباس والترمذي، وصححه عن أبي هريرة . ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي ) . مسند أحمد : حديث رقم (3519) .
المصدر :
٣ - تعريف الدورة الميتونية بدائرة المعارف البريطانية
٤ - ورد اسم نوح بمجمل القرآن الكريم ٤٣ مرة في عدد ٢٨ سورة . واللافت أن رقم ٢٨ هو عدد آيات سورة نوح . والأمر اللافت الإضافي ، أن حاصل جمع ٤٣ + ٢٨ = ٧١ ، وهو الرقم المميز لسورة نوح .

٥ - عدنان الرفاعي : ألف سنة إلا خمسين عاماً
( مقال يوضح أن عدد حروف سورة نوح = ٩٥٠ حرفا ، وأن مدة لبث نوح في قومه = ٩٥٠ سنة )
٦ - روابط لبعض الكتابات التي نفت العمر المديد عن نوح ، ولكن وفقا لأدلة غاب عنها دليل ( الدورة الميتونية ) .
انظر كل من :
+ شرح كلمة أزمنة العهد القديم
+ محمد بن ابراهيم : عمر النبي نوح المضاعف بين الألف سنة والـ ١٠٠٠ سنة
+ د. عبد الوهاب القرش : هل حدد القرآن الكريم عمر نوح عليه السلام وفق تقويم عصره ؟!!
 + د. رشيد الجراح : كم لبث نوح في قومه؟
+ الباحث السوري أسد زيتون : العمر الحقيقي الذي عاشه النبي نوح في قومه
دكتور / محمد محفوظ
#نوح_عليه_السلام
#نوح
#القرآن_الكريم
#التوراة
#سفر_التكوين
#الحديث_الشريف
#الدورة_الميتونية







لينك الجدول رقم ( ١ ) :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق