ما ببن السايكو ( السيكولوجي ) ، والبورنو ( الإباحي ) ، يتم اغتصاب مقدرات الشعوب في شطحات الهوس ومنزلقات الفجور ، سواء أكان ذلك على المستوى السياسي أم المستوى الاقتصادي .
وفي ذكرى ثورة ٢٥ يناير ، لم يعد الميكروسكوب لرصد الميكروبات الداخلية كافيا للتشخيص ، بل أصبح التليسكوب مطلوبا لتوفير رؤية بعيدة وعريضة لأمراض العالم المزمنة المعدية ، والتي باتت كابحة ومانعة للتغيير .
ولعل كل ثورات الربيع العربي المجهضة ، خير شاهد ، وأبلغ دليل .
إذن ، بالميكروسكوب والتليسكوب معا ، يمكن أن نبدأ في ترتيب الإجابة على السؤال المزمن المحزن ، ومفاده :
إلى متى ستظل معلقة في الأفق المسدود ، عبارة : لا عزاء للشعوب ؟!!!
..........
١- السايكوسياسي :
يمثل السايكوسياسي معلم رئيسي في تاريخ الحكم والسيطرة .
فالبعض يدخل إلى السلطة محملا بهوس التسلط والهيمنة . والبعض الآخر تتملكه السلطة بهوسها ، فيصبح انعكاسا لتسلطها وهيمنتها .
ولذلك تظل البارانويا ( جنون العظمة ) تمثل الهوس المصاحب لأي سلطة ، خصوصا لو لم يتم وضع سقف محدد لفترات تلك السلطة ، ولم يتم الفصل ببن أركانها .
بينما يظل ( الإنكار ) هو الميكانيزم الهوسي الذي يمنح التوازن لخلل البارانويا ، لتبرير التعامي عن المظالم والجرائم والانتهاكات ، وتبديد المقدرات والثروات ، بلا خجل ولا وجل .
فمن النمرود : ( أنا أحيي وأميت ) ..
إلى فرعون : ( أنا ربكم الأعلى ) .. ( وما علمت لكم من إله غيري ) ..
مرورا بـ لويس الرابع عشر : ( أنا الدولة .. والدولة أنا ) ..
وصولا إلى هتلر ، وستالين ، ... وعصرنا الراهن بكل أقزامه في الإنسانية ، الذين تقودهم مُركبات النقص لتقمص هيئة العمالقة في التوحش والحيوانية .
طابور بغيض من المهاويس بالسلطة ، الذين أهدروا أرواح عشرات الملايين من البشر في حروب عبثية ونزاعات هزلية ، وبددوا أحلام أمم وأجيال ، بالقمع والفشل والفساد ، من أجل التشبث المريض بمقاعد الحكم والسلطة .
طابور طويل ، وسلسال من الدم والعويل ، يؤكد بأنه مازالت البارانويا ، تجد نفوسا مشوهة قابلة لاحتواء الهوس والتكبر والتجبر ، وسحق الملايين من أجل كبرياء مهووس واحد ، تعاونه عصابة من ( الجلادين ) .
ليظل ( السايكوسياسي ) بذلك ، مصطلحا قابلا وباقتدار للتداول ، لتوصيف الحضيض والانحدار الذي مازالت تكابده غالبية الجماعة الإنسانية ، تحت حكم الجانحين عن الفطرة السوية ، والسادرين في غيهم بالإنكار والسادية .
ولكن السايكوسياسي لا يقتصر فقط على دوائر الحكم والسيطرة .
بل يمتد أيضا إلى طائفة عريضة من المحكومين ، الممسوسين بجذام وجرب الاستبداد ، فتراهم مدافعون مساندون تابعون لكل جبار عنيد .
كما يمتد السايكوسياسي أيضا ، ليؤجج النزعة القومية البغيضة التي نشأ حول آبارها المسمومة النموذج الذي ينتظم وفقا له العالم ، ألا وهو ( نموذج الدولة القومية ) ، ليتحول العالم إلى معازل قومية تعتنق أوهام التفوق والتفرد والريادة العنصرية .
ورغم أن العلم التطبيقي أثبت بالدليل المصور ، أن البشرية كلها يجمعها كوكب واحد يدور حول الشمس ، إلا أن الإمكانية التي وفرتها التكنولجيا للتواصل والانتقال بين أرجاء العالم ، مازالت تقيدها الحدود السياسية الوهمية ، والعملات الوطنية التصادمية ، والجيوش وأجهزة المخابرات العدائية التآمرية ، ليظل ما وحدته التكنولجيا ، تفرقه الأيدلوجيا ، بموجب هلاوس جنون الارتياب ، والبارانويا القومية الخبيثة .
ولعل أصدق تجلى للحضيض الذي ما فتأت تتردى فيه المبادئ الانسانية بسبب الهلاوس القومية ، يتمثل في المشهد التاريخي الشهير لغرس العلم الأمريكي على سطح القمر ، وكأنها كانت رسالة مفادها : أن البشرية التي أتيح لها أن تقفز بالتكنولجيا إلى الفضاء ، لترى بأم عينيها الأرض ككرة تسافر بالجميع في مدار حول الشمس ، دونما اعتبار للحدود والقوميات ، تلك البشرية ذاتها تؤكد بالعلم الأمريكي على سطح القمر ، سقطتها الإنسانية من أعالي الفضاء في بئر البارانويا القومية !!!!!
٢- البورنواقتصادي :
لم تبدأ الإباحية ببيوت الدعارة ، مرورا بعروض الإستربتيز والبيب شو بالملاهي الليلية ، وصولا للمواقع الإلكترونية الجنسية .
بل بدأت بتعرية الشعوب مما يسترها من الدخل ، والرزق ، والستر ، والكرامة الانسانية .
ورغم أن التاريخ ينذرنا والحاضر يخبرنا ، بأن البورنواقتصادي يمثل نتيجة حتمية للسايكوسياسي.
إلا أن مؤسسات التمويل الدولية تدهشنا ، عندما تجتهد في تلميع البورنواقتصادي وتوقيره بالمصطلحات الفخيمة العريضة ، التي بموجبها يتم تقنين الفقر وتبربر الهدر والتعمية على الفساد ، تحت عنوان السياسات المسماة زورا بـ ( الإصلاح الاقتصادي ) ، بينما اسمها حقا وصدقا ( الإذلال الاقتصادي ) .
فأي إصلاح اقتصادي هذا الذي يمكن أن تحققه نظم ديكتاتورية ينخر ببنيانها الفساد ، وتعض بالنواجز على السلطة ، وتتحلل من أي مسئولية !!!!
وبذلك ، يفتح هذا الإذلال الاقتصادي الباب لتلك الحكومات الديكتاتورية الفاشلة ، لكي تمارس بموجبه السادية الاقتصادية على شعوبها ، المجبرة على الاستسلام لذل وهوان الاغتصاب الاقتصادي بنكهة الماسوشية ودناءاتها .
فالسايكوسياسي باحتضانه لهلاوس القومية بكل شططها ، يجعل الدول المتقدمة ، تحكم شعوبها بالديمقراطية ، بينما تتغاضى عن الديكتاتورية في الشطر المتخلف من العالم ، لتصبح المبادئ الإنسانية حول الحرية والعدالة والمساواة ، مجرد شعارات هزلية ، يتم التضحية بها تحت جنازير الاستبداد ، طالما كان هذا الاستبداد يحمي للدول المتقدمة مصالحها الاقتصادية القومية تحت الرايات الحمر للبورنو / اقتصادي .
ويبدو أنه لا فكاك من مظالم البورنواقتصادي ، طالما استمر الاقتصاد أسيرا لمفاهيم شيطانية ، تقنن الهدر وتمنطق الفقر ، ولا تتحرج من التضخم السرطاني للثروة في قبضة أقلية ، غالبا ما تتواطأ مع أي سلطة لتضمن لمصالحها الاستقرار والاستمرارية .
ولذلك ، تبدو المفاهيم الاقتصادية العبثية مثل : مفهوم ( العرض والطلب ) ، ومفهوم ( الدعاية الإعلانية ) الابتزازية ، تبدو تلك المفاهيم امتدادا لأنشطة التعري ، لتصبح التعرية الاقتصادية مشابهة للتعرية الجنسية .
فهل من معنى في القرن الواحد والعشرين من تاريخ البشرية ، لمفهوم : العرض والطلب ، الذي يتجاهل أن لكل سلعة أو خدمة تكلفة ، ومن ثم ينبغي أن يكون لهما هامش ربح ، مهما زاد أو نقص العرض أو الطلب ؟!!!
وهل من معنى لتحميل أسعار السلع والخدمات بتكلفة إعلانية هزلية احتيالية ، تتلاعب بغرائز المستهلك من خلال المثيرات النفسية لتحقيق استجابة شرائية انفعالية ، مع تجاهل تام لمواصفات الجودة السلعية أو الخدمية ، فتزيد التكلفة دون جودة حقيقية ؟!!!
وهكذا ، يضمن البورنو اقتصادي استمراريته بموجب تلك المفاهيم العبثية التي تفتقر للمنطق الإنساني ، ومسكونة بالغرائزية الحيوانية . فلا ينتج عن ذلك إلا مغالاة في الهدر والفقر ، لتتسع الفجوة بين هامش ضيق تتراكم فيه الثروة ، ومتن شاسع تأكل أحلامه الضائقة المالية .
.......
** ولكن .. للسايكو والبورنو تقلباتهما
التي تجعل البورنو يركب ظهر السياسي ، بينما يخترق السايكو عقل الاقتصادي .
ليظهر بذلك مصطلح ( البورنو/سياسي ) ، ويقابله مصطلح ( السايكو/اقتصادي ) .
.........
٣- البورنوسياسي :
يؤكد الواقع للأسف ، بأن الإباحية السياسية ترتبط بالأجهزة المخابراتية . فبينما تدير عصابات الجريمة المنظمة ( المافيا ) شطرا من أنشطة البورنو الاقتصادي ، فإن أجهزة المخابرات باعتبارها ( منظمات للجرائم المقننة ) كالاغتيال والتخريب والتجسس ، تدير بالمقابل أنشطة البورنو السياسي ، ليظل العالم موبوءا بجيوش من العيون الإلكترونية ( الكاميرات ) ، والآذان الإلكترونية ( الميكروفونات ) ، والفيروسات الرقمية ( التطبيقات الاختراقية أو التخريبية ) ، بهدف التجسس والتلصص على أدق تفاصيل العلاقات الحميمية ، شرعية كانت أم غير شرعية ، وسوية كانت أم غير سوية ، ليتم استخدامها للابتزاز والتهديد من أجل خدمة أغراض الأمن القومي للدولة القومية !!!
لتصبح العلاقات الجنسية أو أي مخازي أخلاقية ، بمثابة صيد ثمين تتعقبه أجهزة بسلطات وصلاحيات متعدية لكل المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية !!
أيضا ، يستمد البورنوسياسي وجوده من وضعية الهرمية السياسية البغيضة المسيطرة على نظم الحكم بالعالم ، والتي يقبع بموجبها على قمة السلطة فرد واحد ، ومهما كانت تقابله سلطات مستقلة ورقابية ، فإن للقمة أمراضها التي قلما يبرأ منها إلا أولي العزيمة الحديدية .
ولعل فضيحة الرئيس الامريكي/ بيل كلينتون مع مونيكا لوينسكي ، وفضيحة الملياردير الأمريكي/ إبستين الذي انتحر بمحبسه عام ٢٠١٩ ، وكان مدانا بتهمة الاتجار الجنسي بالأطفال ، وما تضمنته وثائق محاكمته من أسماء لسياسيين بارزين وأفراد من العائلات الملكية وفنانين ورجال أعمال ومحامين ، لعل كل ذلك يوضح كيف تفتن قمة السلطة الهرمية - بالبورنوسياسي - شاغلها حتى في ظل النظم الديمقراطية .
فما بالنا إذن بالنظم الديكتاتورية التي يمتلك فيها الشاغل للقمة السلطوية صلاحيات مطلقة ، وسلطات بلا أدنى مسئولية ، بما يجعل الخيال فقط - الذي قد لا يمكن مهما اشتط أن يجمح أبدا لقذارة الواقع - هو الذي يصور لنا جانب يسير من الفضائح الجنسية المدوية لفتوات النظم الاستبدادية ، تلك الفضائح المحجوبة قسرا عن الرأي العام بفضل متاريس وأسوار الحظر والتعتيم ، وهالات التفخيم والتعظيم للزعيم الفرد رسول العناية الوطنية !!!
٤- السايكواقتصادي :
بينما يعري البورنواقتصادي الشعوب مما يسترها من الدخل والرزق والستر والكرامة الإنسانية .
فإن السايكواقتصادي يغدق بشلالات من المليارات على فئة قليلة بالأوساط الرياضية أو الفنية ، أو بالبورصات المالية .
ولعله لا وجود لأي منطق اقتصادي أو أخلاقي ، يجعل شابا يجري خلف كرة ، يحصد مئات الملايين من الدولارات أو اليوروهات سنويا !!!
أو فنانا ( مشخصاتي أو مغنواتي ) يحصل على عشرات الملايين كأجر لفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني أو حفلة غنائية !!!
أو أن يتم بيع اللوحات لمشاهير الرسامين بعشرات الملايين في المزادات الفنية !!!
وبنفس المنطق الأعوج ، يبدو مفهوم ( البورصة ) ، كسوق تحولاتها انقلابية ، يبدو مفهوما عبثيا شيطانيا .
فلا معنى لصعود وهبوط الأسهم بالبورصة ، إلا لو استحضرنا أجواء موائد القمار ، بمكاسبها الخيالية ، وخسائرها المدوية . لتصبح البورصات بذلك مجرد نوادي للقمار ، يتم جني الأرباح منها أو تجرع الخسائر ، وفقا لمؤثرات في أغلبها غير اقتصادية ، وإنما هي مؤثرات قد تكون تآمرية أو انفعالية .
فماهو إذن المنطق الاقتصادي الذي يسمح بهذا النزيف المالي ، لتتراكم الثروة بيد أقلية . بينما تعاني شرايين ميزانيات الدول من جلطات تسدها ، فتتجمد الأجور ، وتنهار الرعاية الصحية والاجتماعية .
بالتأكيد ، لا وجود للمنطق في ظل الانبطاح للسايكواقتصادي ، مثلما لا وجود للأخلاق في ظل الاغتصاب من البورنواقتصادي ، ليظل الاقتصاد رهينا للسايكو والبورنو بكل أدرانهما !!!!
......
إن المتأمل المتألم من الحرب الروسية العبثية في أوكرانيا ، والحرب الهمجية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة ، ومن قبلهما مذابح الروهينجا في ميانمار ، وثورات الربيع العربي المجهضة كلها بلا استثناء ، بمصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والجزائر ، وقبلهم جميعا ذلك النزيف الدموي من المخازي اللإنسانية المتعاقبة في تاريخ البشرية المعاصر ، سواء من جرائم نظم الحكم الديكتاتورية ، أو ازدواجية معايير النظم الديمقراطية .. إن المتأمل المتألم سيدرك بأن السايكو والبورنو بتقلباتهما ما بين السياسي والاقتصادي ، يؤكدان بأن العالم يعيش في القرن الواحد والعشرين بتجهيزات مادية تكنولجية متقدمة ، تقابلها قوالب فكرية وبنية مؤسسية بدائية ووحشية ومجرِمة .
فبنية الدولة القومية بمنظومتها الفكرية ، تعوق الاستجابة للضرورات التي تفرضها القضايا والمبادئ الإنسانية ، التي ينبغي التعامل معها من منظور إن الأرض كوكب واحد متصل ومتحد ، وليس ممزقاََ إلى مساحات جغرافية ، وأعلام قومية ، وبشر تم تأطيرهم وحبسهم داخل أكذوبة وهمية اسمها ( الجنسية ) .
الأمر الذي يقود إلى العجز عن مواجهة القضايا المصيرية التي تتعلق بحاضر ومستقبل الإنسانية ، بسبب انشغال كل دولة بقضاياها الفرعية ، واستعدادها لسفك الدماء ودعم الديكتاتوريات من أجل مصالحها الذاتية .
ليتمدد بذلك الفقر ، ويتجذر الهدر ، ويتعزز عرش السايكو والبورنو بتجلياتهما الشيطانية سياسية كانت أم اقتصادية !!!
...............
فهل في الأفق .. من عزاء .. للشعوب ؟!!
مازال السؤال قائما .........
..............
دكتور / محمد محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق