التخدير السياسي ..
عندما ترتدي المناورة ثوب المبادرة ..
ويرفع الفتوات لافتة الحوار
................................
في مجال الحراك السياسي ، هناك فرق بين ( المناورة ) و ( المبادرة ) .
فالمناورة تقوم على تكتيكات الخداع والمحايلة والمسايرة .
بينما المبادرة تنتهج إستراتيجية الرُشد والتوافق بعد التحاور والمراجعة .
ومن خلال مقياس المناورة والمبادرة ، يمكن التفرقة الحاسمة في المجال السياسي بين ( التغيير ) و ( التخدير ) .
التغيير السياسي الذي يقبل بفتح آفاق جديدة للسير والمسير .
أم التخدير السياسي ، بهدف امتصاص الغضب المتراكم نتيجة السياسات الفاشلة ، والإصلاحات الغائبة ، والانتهاكات الفاضحة ، والأزمات العبثية المتوالية .
ولعل الخبرات المتراكمة المحزنة ، تثبت بأن أي سلطة جائرة فاشلة ، لا تبذل جهداً ولا تستنفر عزماً إلا للتغطية على فشلها وانتهاكاتها ، والتعمية على تدني قدراتها وأخلاقياتها .
ولذلك تبدو أساليب ( التخدير السياسي ) من وجهة نظر هذه السلطة بكل أجهزتها ، ملائمة جداً لتشتيت موجات الغضب الصاعدة ، وإبطاء نمو جذور الإحباط الهابطة .
وللأسف ، فإن الكبرياء السياسي يجعل أساليب التخدير السياسي تبدو بالنسبة لكثير من السياسيين والناشطين ، بمثابة ألاعيب مكشوفة ومماحكات مفضوحة لا ينبغي التهويل من آثارها .
بينما اللامبالاة السياسية لدى قطاع واسع من غير المسيسين ، تؤدي إلى الاستخفاف بهذه الأساليب التخديرية ، باعتبارها مجرد ( تعميرة إضافية ) تُضاف لحجر الشيشة الذي لا يخلو من المخدرات التقليدية .
ولكن رغم كبرياء السياسيين أو لامبالاة غير المسيسين ، فإن ثمة ( مضاعفات ) تنتج عن أساليب التخدير السياسي ، بما يجعلها تحقق آثارها أو تصيب أهدافها ، أو على أقل تقدير تؤدي إلى تشويش المشهد وتشتيت التركيز لدى أطرافه التي كانت يمكن أن تكون فاعلة لو ظلت ( واعية ) .
وتتمثل هذه ( المضاعفات ) الناتجة عن التخدير السياسي في المظاهر الآتية :-
١- الاسترخاء أو الركود السياسي :
فأساليب التخدير السياسي تنشر بالمجتمع انطباعات كاذبة بضرورة تهدئة وتيرة اللعب السياسي بمساحات الاحتجاج والمعارضة ، رداً على التهدئة الصورية التي تمارسها السلطة . الأمر الذي يؤدي إلى حالة من الاسترخاء أو الارتخاء السياسي ، وسيادة مناخ راكد سياسياً تفقد فيه المعارضة قوة دفع ( رياح الاختلاف ) لسفنها .
٢- ميوعة الخصومة أو المعارضة :
فمع استمرار مناخ الاسترخاء والركود السياسي ، تفقد الخصومة السياسية موجبات حدتها وعلو نبرة صوتها ، وتصيب المعارضة السياسية ميوعة جيلاتينية تنال من هيبتها ، وتزرع بداخل بنيانها ليونة تعصف بصلابة عودها وثبات مسارها .
٣- تشجيع المتلونين أو المذبذبين :
فسرعان ما يؤدي الركود السياسي وميوعة المعارضة إلى تشجيع المتلونين على إظهار جلودهم الحربائية التي تتلون وفقا لأهواء السلطة ، وفتح الطريق للمذبذبين لإعلان معارضتهم للمعارضة . الأمر الذي يثير الفرقة والانقسام داخل الساحة الحزبية ، ويخلق حالة من التناحر داخل كل حزب تعصف بترابط صفوفه . وبدلاً من الشقاق مع السلطة تنشق المنظمات السياسية على نفسها أو ينشأ الشقاق فيما بينها .
٤- ترسيخ الاستقرار الزائف :
حيث تؤدي حالة الاسترخاء السياسي والميوعة السياسية ، وانشغال القوى السياسية بالتذبذبات والتلونات الحربائية .. إلى ترسيخ حالة من الاستقرار الزائف المغشوش ، لتختفي مظاهر الغضب وأمارات الانهيار والتردي تحت هذا الغطاء المموه والقناع الكاذب .
٥- ابتزاز الشرعية الدولية :
ولذلك سرعان ما يؤدي هذا الاستقرار الزائف إلى ابتزاز النوازع البراجماتية لدى القوى الدولية الباحثة عن مصالحها في لعبة السياسة وكعكة المنافسة الاقتصادية العالمية .
الأمر الذي يكتسب بموجبه أي نظام فاشل فاسد مستبد شرعية دولية ، نتيجة حسابات المصالح وليس حسابات المبادئ والمُثل والقيم الإنسانية العالمية .
......
.. تبدو إذن أساليب التخدير السياسي قادرة على تحقيق كل الآثار المترتبة على تعاطي المواد المخدرة طبيعية كانت أم تخليقية .
فبينما يتم تصنيف المواد المخدرة إلى :
- مواد مثبطة مثل ( الحشيش ) .
- مواد منشطة مثل ( الهيروين ) .
- مواد مهلوسة مثل ( حبوب الفيل الأزرق ) .
فإن أساليب التخدير السياسي هي الأخرى وبالمثل تتفاوت آثارها .
بدءاً من الآثار المثبطة التي تؤسس للاسترخاء والركود والميوعة السياسية .
مروراً بالآثار المنشطة التي تحفز على التلون والتذبذب السياسي .
وصولاً إلى الآثار المهلوسة التي تفجر ضلالات وأوهام الاستقرار الكاذب .
وانتهاءاً بفتح الباب لغسل أموال بارونات المخدرات السياسية في العواصم العالمية ، لابتزاز وشراء الشرعية الدولية .
وللأسف ، رغم خطورة مضاعفات التخدير السياسي باعتبارها تغلق الباب أمام موجبات التغيير السياسي . إلا أنه لا توجد برامج للعلاج من إدمان المخدرات السياسية ، ولا توجد قوانين لعقاب طباخيها ومروجيها .
ولذلك لا سبيل لمواجهة التخدير السياسي ، إلا من خلال يقظة التيارات السياسية المعارضة والنخب الفكرية الرائدة ، لكي تقوم بدورها في ممارسة الكشف والفضح لهذه الأساليب ولا تستسلم لمضاعفاتها ، فتترسخ مناعة لدى المنتسبين لها سياسياً أو فكرياً ولدى الشرائح المختلفة من الشعب ، تحول دون دخولهم في دائرة المسطولين والشمامين والمهلوسين .. سياسياً .
وأما عن أية سلطة تجعل من أساليب التخدير السياسي الوسيلة والأداة المعتبرة لممارسة الحكم ، فمن المشروع سياسياً أن تُدرج في قوائم ( المسجلين مخدرات سياسية ) ، تحت عنوان : الاسم / سلطة .. والوصف / مزاجنجي .
...........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق