د. محمد محفوظ .. يكتب : وزارة الداخلية .. ونظرية الطيران بجناح واحد ( حول جدلية الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .. والأمن السياسي )
صاحب بالين .. كذاب ( مثل شعبي )
تبدو التجربة المريرة لمكافحة التنظيمات الإرهابية النشطة بمثابة اختبار عسير لأى دولة ولأى جهاز للأمن .
وقد يكون من الملائم أن يقود هذه المواجهة الكوادر القيادية التي تخصصت في هذا المجال ، وتمرست على أدواته وأساليبه وتكتيكاته .
ولهذا يمكن القول بأن وزير الداخلية الجديد بحكم خبرته الوظيفية الطويلة داخل جهاز أمن الدولة ( الأمن الوطني ) ، هو الرجل المناسب لمواجهة الخطر الداهم الذي تمثله الجماعات الإرهابية الداخلية بامتداداتها وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
ولكن التجارب السابقة تثبت بأن قيادة وزارة الداخلية من خلال القيادات التي تمرست على مواجهة الارهاب ، قد تفضي إلى خلق حالة من عدم التوازن بين الجناحين المفترض توازنهما في أي منظومة للأمن بمفهومه الشامل ، وهذان الجناحان هما : جناح الأمن السياسي ، وجناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
ولا ينصرف مدلول الأمن السياسي إلى المعنى الضيق الذي يحصره في أمن النظام السياسي القائم ، وإنما يمتد ليشمل في نطاقه العام ما يسمى بالجريمة السياسية التى تتصاعد درجة خطورتها حتى تصل إلى ذروتها فيما يسمى بالأنشطة الإرهابية.
ولعل أبسط تعريف للجريمة السياسية يتمثل في أنها الجريمة التي يتم توظيف العنف فيها لتحقيق أغراض سياسية . وبينما يمثل التظاهر غير الشرعي أو قطع الطرق أو الاعتصام أبسط مظاهر الجريمة السياسية - باعتبارها تستهدف جميعاً إجبار السلطة القائمة على اتخاذ إجراء معين أو التراجع عنه أو انتهاج سياسة معينة أو التراجع عنها دون اللجوء للضوابط التي حددها القانون - فإن استخدام السلاح لمواجهة السلطة القائمة بغرض إنهاكها أو إسقاطها أو الانتقام منها ، يمثل ذروة مظاهر الجريمة السياسية بما يستدعي وصفها آنذاك بالإرهاب .
أما مدلول الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، فهو ينصرف في جانبه الاجتماعي إلى مواجهة جرائم التعدي على النفس والأعراض والأموال والممتلكات والبيئة المحيطة ، بينما ينصرف في جانبه الاقتصادي إلى مواجهة جرائم الفساد المالي والإداري والإنتاجي والترويجي واختراق النظام الاقتصادي للدولة أو الإضرار به .
ولا شك بأن ضمان التوازن بين الجناحين ، جناح الأمن السياسي وجناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي هو الذي يضمن لقطاع الأمن في المجتمع القيام بالدور المنوط به ، باعتبار أن عدم التوازن بين الجناحين من خلال تغليب الاهتمام بأحدهما على حساب الآخر سيؤدي إلى قصور يصيب معادلة الأمن في أحد طرفيها .
فإهمال الأمن السياسي لحساب تغليب اعتبارات الأمن الاجتماعي / الاقتصادي غالباً ما يؤدي إلى الفوضى أو الاحتراب الأهلي أو إضعاف السلطة القائمة .
وإهمال الأمن الاجتماعي / الاقتصادي لحساب تغليب تحديات الأمن السياسي غالباً مايؤدي إلى تدني منظومة القيم في المجتمع وتراجع سيادة القانون ليحل محلها قانون الغابة التي يفتك فيها القوي بالضعيف .
ولكن نظراً لأن الجريمة السياسية في حدها الأدنى أو حدها الأقصى الذي يوصف بالإرهاب تمثل تعدياً واضحاً على هيبة النظام القائم باعتباره سلطة الحكم ، فإن قيام السلطة بحماية نفسها من خلال دعم جناح الأمن السياسي ؛ هو أمر تكون له دائماً الأولوية والاعتبار قياساً بالأمن الاجتماعي / الاقتصادي الذي قد يحوز المرتبة الثانية من الاهتمام والدعم .
ولهذا تمثل درجة ثقل كفة جناح الأمن السياسي الاختبار الدقيق الذي يكشف مدى التغول على كفة جناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي أم التوازن معها .
وبالتالي ، ففي النظم الديمقراطية قد يقتصر فقط الميل الشديد نحو جناح الأمن السياسي على فترات زمنية محدودة تحتشد فيها الدولة لمحاربة الإرهاب .
بينما في الدول الاستبدادية قد يتعاظم هذا الميل ليأخذ شكل الهاجس المزمن الذي يؤدي إلى الإفراط في توسيع دائرة الجريمة السياسية والتهديدات الإرهابية المحتملة بما قد يمتد بها إلى الأنشطة السياسية السلمية المعارضة .
ولهذا فإن حصن الأمان في أى مجتمع يتطلع للمضى قدماً في طريق التطور الديمقراطي يتمثل في ضرورة فض الاشتباك الذي قد يؤدي إلى إشكالية ترتيب الأولويات بين الأمن السياسي والأمن الاجتماعي / الاقتصادي . وبالطبع لن يتأتى هذا الفض إلا من خلال الاستقلال الإداري والتنطيمي لكل جناح من الجناحين عن الآخر ، بحيث يعمل كل منهما تحت قيادة مستقلة في مجال النشاط المنوط به بأقصى طاقة بشرية وفنية وتكنولجية ومعلوماتية ومالية متاحة ، ليصب المردود النهائي لنشاط كليهما في خدمة قطاع الأمن في المجتمع بمفهومه الشامل .
ومن ثم فإن فصل الجهاز المنوط بالأمن السياسي( جهاز الأمن الوطني ) عن وزارة الداخلية لتتفرغ للأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، هو أمر يمثل حجر الزاوية لمنع استنزاف الموارد البشرية والفنية والمالية لخدمة الأمن السياسي على حساب الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
ولعل تجارب الدول المتقدمة التي تمتلك قدرات عالية في مواجهة الإرهاب توضح امتلاكها لجهاز مستقل لمكافحة الإرهاب بعيدا عن البناء التنظيمي لوزارة الداخلية . جهاز FBI في الوﻻيات المتحدة الأمريكية ، وجهاز MI5 في بريطانيا ، وجهاز FSB في روسيا ، كل هذه الأجهزة التي تمثل كيانات قوية على مستوى العالم في مواجهة الإرهاب ، هي أجهزة مستقلة عن وزارات الداخلية وتمارس عملها في مجال الأمن السياسي بعيداً عن الوزارة المسئولة عن الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
وبالتالي ، فإن هذا هو النهج الأفضل للتعامل مع جناحي الأمن اللذين لا يمكن استخدامهما بكامل قدرتهما إلا لو تم فصل كل منهما عن الآخر ، بحيث تنطلق وزارة الداخلية بجناح واحد هو جناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، بينما ينطلق جهاز الأمن الوطني بجناح واحد أيضاً هو جناح الأمن السياسي .
ونظراً لأن الجناحين متكاملين تحت راية منظومة الأمن بمفهومه الشامل ، فإن نتاج جهودهما سيرتفع بطائر الأمن ليحلق في أجواء المجتمع فيتعزز الإحساس بين جموع الشعب بالأمان والاطمئنان والاستقرار .
ومن هنا فإن استمرار تحميل وزارة الداخلية بعبء الأمن السياسي الذي يستنزف مواردها ويشتت جهودها ، هو أمر يضر بمنظومة الأمن فى المجتمع ككل ، ويصيب جهاز الشرطة بعدد من السلبيات التي تفسد علاقته بالشعب .
ومن هذه السلبيات ، أن مواجهة الجرائم الإرهابية تستدعي ضرورة الاستناد إلى تشريعات إستثنائية تتجاوز الضمانات المقررة فى قانون الإجراءات الجنائية لمواجهة الجرائم الجنائية ، ومن ثم فإن توريط وزارة الداخلية في الدائرة الملغومة لمكافحة الإرهاب يؤدي إلى تكريس الخلط ما بين أساليب المواجهة ، بما يطبع الأمن الاجتماعي / الاقتصادي بنفس طابع الأمن السياسي ، الأمر الذي يساهم في خلق فجوة ما بين وزارة الداخلية والشعب ، نتيجة ابتعادها عن المظهر النظامي المدني وبدء تعاطيها مع مظاهر نظامية عسكرية ﻻ يتقبلها المجتمع المدني ، وتتناقض مع الطبيعة المتعارف عليها للشرطة المدنية .
علاوة على ذلك ، فإن تحميل وزارة الداخلية بعبء الأمن السياسي يؤدي إلى تقصيرها لا محالة في مجال الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، ومن ثم ارتفاع معدﻻت الجرائم الجنائية وشيوع الرشوة والفساد والاعتداء على أملاك الدولة والمرافق العامة ؛ فى مقابل تدنى معدﻻت الضبط لمرتكبي تلك الجرائم .
وإذا كانت مصر تشهد في هذه الأيام فاعليات المؤتمر الاقتصادي لدعم وتنمية الاقتصاد المصري ، فإن إهمال الأمن الاقتصادي لحساب الأمن السياسي يؤدي إلى تسميم مناخ الاستثمار في مصر ، من خلال تحمل المستثمر لتكاليف إضافية لتمويل جماعات الفاسدين والمرتشين المتحكمين في التراخيص والموافقات ، بما يؤدي إلى تحميل هذه التكاليف للمستهلك المصري الذي لن يجلب له الاستثمار الملوث بالفساد إلا سلع وخدمات باهظة السعر ومنخفضة الجودة .
علاوة علي ذلك ، فإن شيوع مناخ الفساد نتيجة إهمال الأمن الاقتصادي يؤدي إلى اجتذاب نوعية فاسدة من المستثمرين ، تتعامل مع أى حقل اقتصادي بمنطق النهب والسلب والتجريف ، وبنظام اخطف واجري .
ولهذا ، فقد حان الوقت لمنح الاستقلال الإداري والتنظيمي لجهاز الأمن الوطني ، بحيث يتسنى له الانفصال عن وزارة الداخلية ويستقل بإدارة جناح الأمن السياسي ، بينما تتفرغ وزارة الداخلية لإدارة الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، مع فتح قنوات التنسيق والتعاون بين الجناحين لتحقيق الأمن في المجتمع بمفهومه الشامل .
وإذا كانت نظرية الطيران بجناح واحد لا تتناسب مطلقاً مع الأجسام الطائرة التي تسقط إذا انفصل أحد جناحيها ، فإنها تظل نظرية صالحة في مجالات أخرى ومنها الأمن ، للتأكيد على أهمية الفصل بين الكيانات التي قد تتقارب فيها الوسائل ، ولكن قد تتصادم وتتعارض فيها الأهداف ، أو يطغى أحدها على الآخر .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
صاحب بالين .. كذاب ( مثل شعبي )
تبدو التجربة المريرة لمكافحة التنظيمات الإرهابية النشطة بمثابة اختبار عسير لأى دولة ولأى جهاز للأمن .
وقد يكون من الملائم أن يقود هذه المواجهة الكوادر القيادية التي تخصصت في هذا المجال ، وتمرست على أدواته وأساليبه وتكتيكاته .
ولهذا يمكن القول بأن وزير الداخلية الجديد بحكم خبرته الوظيفية الطويلة داخل جهاز أمن الدولة ( الأمن الوطني ) ، هو الرجل المناسب لمواجهة الخطر الداهم الذي تمثله الجماعات الإرهابية الداخلية بامتداداتها وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
ولكن التجارب السابقة تثبت بأن قيادة وزارة الداخلية من خلال القيادات التي تمرست على مواجهة الارهاب ، قد تفضي إلى خلق حالة من عدم التوازن بين الجناحين المفترض توازنهما في أي منظومة للأمن بمفهومه الشامل ، وهذان الجناحان هما : جناح الأمن السياسي ، وجناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
ولا ينصرف مدلول الأمن السياسي إلى المعنى الضيق الذي يحصره في أمن النظام السياسي القائم ، وإنما يمتد ليشمل في نطاقه العام ما يسمى بالجريمة السياسية التى تتصاعد درجة خطورتها حتى تصل إلى ذروتها فيما يسمى بالأنشطة الإرهابية.
ولعل أبسط تعريف للجريمة السياسية يتمثل في أنها الجريمة التي يتم توظيف العنف فيها لتحقيق أغراض سياسية . وبينما يمثل التظاهر غير الشرعي أو قطع الطرق أو الاعتصام أبسط مظاهر الجريمة السياسية - باعتبارها تستهدف جميعاً إجبار السلطة القائمة على اتخاذ إجراء معين أو التراجع عنه أو انتهاج سياسة معينة أو التراجع عنها دون اللجوء للضوابط التي حددها القانون - فإن استخدام السلاح لمواجهة السلطة القائمة بغرض إنهاكها أو إسقاطها أو الانتقام منها ، يمثل ذروة مظاهر الجريمة السياسية بما يستدعي وصفها آنذاك بالإرهاب .
أما مدلول الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، فهو ينصرف في جانبه الاجتماعي إلى مواجهة جرائم التعدي على النفس والأعراض والأموال والممتلكات والبيئة المحيطة ، بينما ينصرف في جانبه الاقتصادي إلى مواجهة جرائم الفساد المالي والإداري والإنتاجي والترويجي واختراق النظام الاقتصادي للدولة أو الإضرار به .
ولا شك بأن ضمان التوازن بين الجناحين ، جناح الأمن السياسي وجناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي هو الذي يضمن لقطاع الأمن في المجتمع القيام بالدور المنوط به ، باعتبار أن عدم التوازن بين الجناحين من خلال تغليب الاهتمام بأحدهما على حساب الآخر سيؤدي إلى قصور يصيب معادلة الأمن في أحد طرفيها .
فإهمال الأمن السياسي لحساب تغليب اعتبارات الأمن الاجتماعي / الاقتصادي غالباً ما يؤدي إلى الفوضى أو الاحتراب الأهلي أو إضعاف السلطة القائمة .
وإهمال الأمن الاجتماعي / الاقتصادي لحساب تغليب تحديات الأمن السياسي غالباً مايؤدي إلى تدني منظومة القيم في المجتمع وتراجع سيادة القانون ليحل محلها قانون الغابة التي يفتك فيها القوي بالضعيف .
ولكن نظراً لأن الجريمة السياسية في حدها الأدنى أو حدها الأقصى الذي يوصف بالإرهاب تمثل تعدياً واضحاً على هيبة النظام القائم باعتباره سلطة الحكم ، فإن قيام السلطة بحماية نفسها من خلال دعم جناح الأمن السياسي ؛ هو أمر تكون له دائماً الأولوية والاعتبار قياساً بالأمن الاجتماعي / الاقتصادي الذي قد يحوز المرتبة الثانية من الاهتمام والدعم .
ولهذا تمثل درجة ثقل كفة جناح الأمن السياسي الاختبار الدقيق الذي يكشف مدى التغول على كفة جناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي أم التوازن معها .
وبالتالي ، ففي النظم الديمقراطية قد يقتصر فقط الميل الشديد نحو جناح الأمن السياسي على فترات زمنية محدودة تحتشد فيها الدولة لمحاربة الإرهاب .
بينما في الدول الاستبدادية قد يتعاظم هذا الميل ليأخذ شكل الهاجس المزمن الذي يؤدي إلى الإفراط في توسيع دائرة الجريمة السياسية والتهديدات الإرهابية المحتملة بما قد يمتد بها إلى الأنشطة السياسية السلمية المعارضة .
ولهذا فإن حصن الأمان في أى مجتمع يتطلع للمضى قدماً في طريق التطور الديمقراطي يتمثل في ضرورة فض الاشتباك الذي قد يؤدي إلى إشكالية ترتيب الأولويات بين الأمن السياسي والأمن الاجتماعي / الاقتصادي . وبالطبع لن يتأتى هذا الفض إلا من خلال الاستقلال الإداري والتنطيمي لكل جناح من الجناحين عن الآخر ، بحيث يعمل كل منهما تحت قيادة مستقلة في مجال النشاط المنوط به بأقصى طاقة بشرية وفنية وتكنولجية ومعلوماتية ومالية متاحة ، ليصب المردود النهائي لنشاط كليهما في خدمة قطاع الأمن في المجتمع بمفهومه الشامل .
ومن ثم فإن فصل الجهاز المنوط بالأمن السياسي( جهاز الأمن الوطني ) عن وزارة الداخلية لتتفرغ للأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، هو أمر يمثل حجر الزاوية لمنع استنزاف الموارد البشرية والفنية والمالية لخدمة الأمن السياسي على حساب الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
ولعل تجارب الدول المتقدمة التي تمتلك قدرات عالية في مواجهة الإرهاب توضح امتلاكها لجهاز مستقل لمكافحة الإرهاب بعيدا عن البناء التنظيمي لوزارة الداخلية . جهاز FBI في الوﻻيات المتحدة الأمريكية ، وجهاز MI5 في بريطانيا ، وجهاز FSB في روسيا ، كل هذه الأجهزة التي تمثل كيانات قوية على مستوى العالم في مواجهة الإرهاب ، هي أجهزة مستقلة عن وزارات الداخلية وتمارس عملها في مجال الأمن السياسي بعيداً عن الوزارة المسئولة عن الأمن الاجتماعي / الاقتصادي .
وبالتالي ، فإن هذا هو النهج الأفضل للتعامل مع جناحي الأمن اللذين لا يمكن استخدامهما بكامل قدرتهما إلا لو تم فصل كل منهما عن الآخر ، بحيث تنطلق وزارة الداخلية بجناح واحد هو جناح الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، بينما ينطلق جهاز الأمن الوطني بجناح واحد أيضاً هو جناح الأمن السياسي .
ونظراً لأن الجناحين متكاملين تحت راية منظومة الأمن بمفهومه الشامل ، فإن نتاج جهودهما سيرتفع بطائر الأمن ليحلق في أجواء المجتمع فيتعزز الإحساس بين جموع الشعب بالأمان والاطمئنان والاستقرار .
ومن هنا فإن استمرار تحميل وزارة الداخلية بعبء الأمن السياسي الذي يستنزف مواردها ويشتت جهودها ، هو أمر يضر بمنظومة الأمن فى المجتمع ككل ، ويصيب جهاز الشرطة بعدد من السلبيات التي تفسد علاقته بالشعب .
ومن هذه السلبيات ، أن مواجهة الجرائم الإرهابية تستدعي ضرورة الاستناد إلى تشريعات إستثنائية تتجاوز الضمانات المقررة فى قانون الإجراءات الجنائية لمواجهة الجرائم الجنائية ، ومن ثم فإن توريط وزارة الداخلية في الدائرة الملغومة لمكافحة الإرهاب يؤدي إلى تكريس الخلط ما بين أساليب المواجهة ، بما يطبع الأمن الاجتماعي / الاقتصادي بنفس طابع الأمن السياسي ، الأمر الذي يساهم في خلق فجوة ما بين وزارة الداخلية والشعب ، نتيجة ابتعادها عن المظهر النظامي المدني وبدء تعاطيها مع مظاهر نظامية عسكرية ﻻ يتقبلها المجتمع المدني ، وتتناقض مع الطبيعة المتعارف عليها للشرطة المدنية .
علاوة على ذلك ، فإن تحميل وزارة الداخلية بعبء الأمن السياسي يؤدي إلى تقصيرها لا محالة في مجال الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، ومن ثم ارتفاع معدﻻت الجرائم الجنائية وشيوع الرشوة والفساد والاعتداء على أملاك الدولة والمرافق العامة ؛ فى مقابل تدنى معدﻻت الضبط لمرتكبي تلك الجرائم .
وإذا كانت مصر تشهد في هذه الأيام فاعليات المؤتمر الاقتصادي لدعم وتنمية الاقتصاد المصري ، فإن إهمال الأمن الاقتصادي لحساب الأمن السياسي يؤدي إلى تسميم مناخ الاستثمار في مصر ، من خلال تحمل المستثمر لتكاليف إضافية لتمويل جماعات الفاسدين والمرتشين المتحكمين في التراخيص والموافقات ، بما يؤدي إلى تحميل هذه التكاليف للمستهلك المصري الذي لن يجلب له الاستثمار الملوث بالفساد إلا سلع وخدمات باهظة السعر ومنخفضة الجودة .
علاوة علي ذلك ، فإن شيوع مناخ الفساد نتيجة إهمال الأمن الاقتصادي يؤدي إلى اجتذاب نوعية فاسدة من المستثمرين ، تتعامل مع أى حقل اقتصادي بمنطق النهب والسلب والتجريف ، وبنظام اخطف واجري .
ولهذا ، فقد حان الوقت لمنح الاستقلال الإداري والتنظيمي لجهاز الأمن الوطني ، بحيث يتسنى له الانفصال عن وزارة الداخلية ويستقل بإدارة جناح الأمن السياسي ، بينما تتفرغ وزارة الداخلية لإدارة الأمن الاجتماعي / الاقتصادي ، مع فتح قنوات التنسيق والتعاون بين الجناحين لتحقيق الأمن في المجتمع بمفهومه الشامل .
وإذا كانت نظرية الطيران بجناح واحد لا تتناسب مطلقاً مع الأجسام الطائرة التي تسقط إذا انفصل أحد جناحيها ، فإنها تظل نظرية صالحة في مجالات أخرى ومنها الأمن ، للتأكيد على أهمية الفصل بين الكيانات التي قد تتقارب فيها الوسائل ، ولكن قد تتصادم وتتعارض فيها الأهداف ، أو يطغى أحدها على الآخر .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق