27 فبراير 2015

د. محمد محفوظ يكتب : ميراث ميكافيللي .. أوساخ السياسة وسياسة الأوساخ

د. محمد محفوظ .. يكتب : ميراث ميكافيللي .. أوساخ السياسة وسياسة الأوساخ
تاريخ النشر : 26 فبراير 2015

في كافة أعمال البشر - وخاصة الأمراء - فإن الغاية تبرر الوسيلة ، وهذا حكم لا يمكن نقضه
ميكافيللي : كتاب الأمير

ربما لم يمت ميكافيللي ؛ وما فتأت روحه تنتقل من أمير لحاكم لسلطان لملك لرئيس ؛ لتظل افكار كتابه : الأمير ؛ حاضرة تسكن القصور ومقرات الحكم في هذا العالم ؛ بملكياته وسلطناته وإماراته وجمهورياته .

بالطبع ؛ لم يبدأ تاريخ الغدر والخيانة والانتهازية مع كتاب ميكافيللي ، وإنما بدأ مع بدء المسيرة البشرية ذاتها ، وظل مستمراً بإصرار واقتدار .

ولكن ما كان يرتكبه الحكام باعتباره نوازع ونواقص ومخازي بشرية ؛ تستدعي الامتعاض والاشمئزاز ، إذا به يتم تنظيره وتوثيقه بل وتوقيره مع ميكافيللي ليصبح نظرية معتبرة وسياسة مختبرة ؛ تمثل الدليل المختصر لممارسة الحكم والاحتفاظ به بكل الأساليب والأدوات ، ومهما كانت الخطايا والجرائم ، وكيفما كانت التكاليف والأضرار .

ونظراً لأن السياسة هي الأداة متعددة الأغراض التي يستخدمها الحكام لممارسة الحكم بمسئولياته المتشعبة والجسيمة ، فإن للسياسة أوساخها التى تجعل المسئول السياسي مضطراً في أغلب الأحوال للمفاضلة بين السيئ والأسوأ أو الوسخ والأوسخ .

ولعل ( أوساخ السياسة ) تشبه الوضع الذى يجد أى منا نفسه فيه ، عندما يضطر لوضع يده فى قعر التواليت لالتقاط خاتم ألقاه طفله فيه ، أو عندما يضع أحدنا يده فى البلاعة لإزالة أى شئ يعوق تصريفها للمياه.

ولكن إذا كانت هذه ( أوساخ السياسة ) التى تضطر السياسي للتعاطي مع الوساخة مجبراً ﻻ مختاراً .
فإنه بالمقابل هناك مدرسة فى السياسة تمارس ( سياسة الأوساخ ) ، بمعنى أن هذه المدرسة ترى السياسة كلها وساخة بحيث لا يستطيع الوفاء بمسئولياتها ولا الاضطلاع بمهامها إﻻ مجموعة من الأوساخ الذين يجيدون التعامل مع الأوساخ .

وهذا هو ميراث ميكافيللي ؛ فقد انتقلت السياسة على يده وبفعل كتابه من ( حظيرة أوساخ السياسة ) إلى ( مقلب زبالة سياسة الأوساخ ) .

تبدو ( أوساخ السياسة ) مثل حالة المحامي الذي يحاول استغلال ثغرات القانون لتبرئة موكله أو تخفيف الحكم عليه .

بينما تبدو ( سياسة الأوساخ ) مثل حالة المحامى الذي يلفق الأدلة ويصطنع الشهود لتبرئة موكله وإلصاق التهمة بشخص برئ .

وللأسف فإن مدرسة ( سياسة الأوساخ ) هي التى أصبحت تتبوأ المكانة العلية فى أروقة السياسة بعالمنا المعاصر. 

فالنزاعات المزمنة التى لا تنتهي فى بعض مناطق العالم ، أو الاضطرابات التى تنشب وتتعالى ألسنة نيرانها ، كلها تثبت بأن النيران إن كانت ﻻ تأكل نفسها لتنطفئ فإن هناك ﻻ محالة من يغذيها .

قد تبرر مدرسة ( أوساخ السياسة ) الدور الذى تلعبه الدول لبيع السلاح لكل الأطراف المتصارعة ، باعتبار أن السلاح سلعة ﻻ ينبغى حبسها عمن يريدها ، وبالتالى ﻻ حرج في أن تببع الدولة السلاح لطرف ما من الباب الأمامي وتبيع السلاح لعدوه من الباب الخلفي .

ولكن كيف يمكن لمدرسة ( سياسة الأوساخ ) أن تبرر اصطناعها للفتن وتأليبها للنزاعات من أجل بيع السلاح لكل الأطراف ومن ثم إضعاف كل الأطراف وإنهاكها .

قد يكون هناك تبرير فى عالم مدرسة ( أوساخ السياسة ) للاستفادة من صراع قائم ، ولكن ما هو المبرر فى عالم ( سياسة الأوساخ ) لاصطناع صراع ما للاستفادة من مآسيه ومخازيه وآلامه .

إن المراقب لمسار السياسة الدولية فى عالمنا المعاصر ؛ أو للسياسة الداخلية فى بعض دوله ، سيجد بأن أنصار مدرسة ( سياسة الأوساخ ) هم المتمترسين فى مقاعد السلطة وأجنحة قصورها .

وإذا كان تاريخ البشرية - تحت راية الدنيا أو الدين - يروج لمجموعة من قطاع الطرق باعتبارهم فاتحين مغاوير ؛ لنجاحهم فى التكويش على أكبر عدد من البلدان لاستنزاف شعوبها ونهب ثرواتها . 
فإن زمننا المعاصر يضم قاطعي طرق جدد ، بعض منهم تخصص في زرع الفتن وإشعال النزاعات للارتزاق من جريان نزيفها وتعالي لهيبها ، والبعض الآخر تخصص فى ترويض الضواري ( الجماعات الإرهابية والمافيا الدولية ) لاستخدامها فى ساحة السيرك السياسي الأسود العالمي .

أليس ما يحدث في المنطقة العربية الآن من احتراب أهلي بمثابة دليل .

أليست داعش بدمويتها ووحشيتها وجاهليتها بمثابة دليل .

وللأسف ؛ فثمة حقيقة مؤلمة تؤكد بأنه كلما اهتز الاقتصاد العالمي وتصدعت قواعده ، كلما برزت وصعدت مدرسة ( سياسة الاوساخ ) لتقود قاطرته وتحدد مسارها .

ولهذا فإن عالمنا المعاصر بقيمه النبيلة التي تمجد حقوق الإنسان ؛ واقتصاده المتقلقل الذى تسنده سياسة الأوساخ ، هذا العالم ستؤرقه آجلاً أم عاجلاً هذه التناقضات ، لأنه لم يعد ميراث ميكافيللي صالحاً لعالم أصبحت تربطه تكنولجيا الاتصالات والمواصلات ؛ بينما تمزقه أيدلوجيا المطامع والمؤامرات .....
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com


هناك 3 تعليقات: