يتردد مصطلح الدولة البوليسية كثيرا في أوساط المثقفين ، وفي الحوارات والكتابات الإعلامية ، والمؤتمرات والمنتديات والأوراق البحثية .
ويتم تداول المصطلح باعتباره وصفا للدولة القمعية ، إلا أنه في حقيقته يمثل توصيفا علميا لمجموعة من الممارسات السلبية الرديئة الفاسدة في مجال الإدارة السياسية ، لتتحول إلى إدارة أمنوسياسية ( أمنية / سياسية ) .
وبالطبع ، فإن كل دولة بوليسية هي دولة قمعية ، ولكن ليس بالضرورة كل دولة قمعية هي دولة بوليسية ، ما لم تستخدم الأدوات وتنتهج الأساليب والممارسات التي ينبغي توافرها لكي تكتسب الدولة هذا التوصيف ، بحيث يصبح عنوانا لمنهجها في الحكم والإدارة .
وهذه الإدوات والأساليب والممارسات التي تتسم بها الدولة البوليسية .. تتمثل في الآتي :
١ - فالدولة البوليسية ، هي الدولة التي تلتبس فيها العلاقة بين نصوص القانون وبين التجاوزات والانتهاكات التي تمارسها الاجهزة الأمنية في المجتمع ؛ حيث تذوب الحدود الفاصلة بين الاثنين ؛ الأمر الذي يجعل ما تفعله هذه الأجهزة أو ما تريده هو بمثابة القانون ، مهما تعارض أو تصادم معه .
وبالتالي ، يرتبط تنفيذ القانون في الدولة البوليسية بالتعليمات الفوقية التي تسمح أو لا تسمح بتنفيذه ؛ ولا يرتبط بقوة القانون الذاتية المجردة .
ولهذا يصبح القانون أحد أدوات السيطرة والبطش ، وليس المحاسبة وتحقيق العدل . فالقانون قد يصبح نافذا وحاضرا للنيل من الخصوم ، أو غائبا لتلفيق التهم لهم . أو معطلا للتعمية على فشل الدولة وفسادها واستبدادها ، وضمان إفلاتها من العقاب والمساءلة .
الأمر الذي يجعل الدولة البوليسية - وللمفارقة - دولة منفلتة أمنيا ، وفقا لمفهوم الأمن الاجتماعي والاقتصادي . بينما هي دولة متمترسة أمنيا وفقا لمفهوم الأمن السياسي .
ولذلك تسمح الدولة البوليسية بحرية الفوضي الاجتماعية والاقتصادية .
بينما تترصد أي معارضة سياسية أو مظاهر احتجاجية . ولا يتم ذلك الترصد بالقوات الخاصة وقوات مكافحة الشغب وعناصر الشرطة السرية فقط ، بل تتم الاستعانة بمجموعات من البلطجية لإبعاد شبهة الانتهاكات عن الأجهزة الأمنية ، في مقابل غض الطرف أمنيا عن كل ممارسات الخروج عن القانون التي ترتكبها تلك المجموعات من البلطجية .
ولهذا يبدو القانون وفقا لهذا التوصيف بالدولة البوليسية كخيوط العنكبوت ، تتعثر فيه الحشرات الضعيفة بينما تعصف به الوحوش الكاسرة . والحشرات الضعيفة هنا - وياللعار - هم رعايا الدولة البوليسية ، بينما الوحوش الكاسرة هم حكامها وأجهزتها السيادية ودوائر النفوذ والقوة بها أياً كانت مسمياتها .
٢ - والدولة البوليسية ، هى الدولة التي تترك معظم المشكلات سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية .. إلخ ؛ لكى تتفاقم حتى تتحول إلى مشكلات أمنية ، بما يحتم استدعاء جهاز الأمن للتدخل والتصدي لها ومواجهتها بحلول أمنية ؛ تميل بالطبع نحو أساليب القمع والبطش والتنكيل ؛ وفقا لمنهج إطفاء الحرائق وليس القضاء على مسببات اندلاعها .
ولذلك تكون الحلول التي تسفر عنها التدخلات الأمنية مرحلية ؛ لأنها قد تخفي مظاهر الاحتجاج المترتبة على هذه المشكلات ؛ ولكنها لا تمنع من تصاعد الغضب حتى يحدث الانفجار مرة أخرى .
فمنهج الدولة البوليسية في علاج المشكلات بالعصا الأمنية يتوقف عند حد مواجهة العرض وليس معالجة المرض ، مجابهة نتائج المشكلات وليس وأد مسبباتها .
ولذلك هي دولة تطارد البعوض ولا تجفف مستنقعات توالده وتكاثره .
٣ - والدولة البوليسية ، هى الدولة التي تجعل الترشح للمناصب الحكومية الهامة في كافة مؤسساتها باختلاف أنشطتها ؛ مرتبطا بموافقة الأجهزة الأمنية ؛ حتى لو لم يتم النص في القوانين على ذلك .
ونظرا لأن ميزان الأجهزة الأمنية يقيس الأفضلية بمعيار الثقة لا بمؤهلات الجدارة ، فإن أهل الولاء تصبح لهم الأولوية دوما عن الأكفاء .
وبالتالي ، هي دولة معنية دائما بتصنيف مواطنيها ما بين ( الأنصار والأعداء ) ، ( الموالاة والمعارضة ) ، ( أهل الشر وأهل الخير ) . فلا يفوز بمناصبها إلا هؤلاء المحسوبون عليها لا ضدها ، المنغمسون في حبائلها لا المعزولون عن دوائر رضاها واسترضائها .
ولهذا تصبح السيرة المطلوبة لأي منصب هي السيرة الشخصية لا السيرة الوظيفية . فلا القدرات الفنية أو العلمية أو التخصصية هي المحل للتقدير والاعتبار . وإنما يحل محلها السيرة الشخصية المتعلقة بالموالاة السياسية والخضوع الوظيفي ، باعتبارها عنوان الجدارة وموجهات الاختيار .
وللمفارقة ، فجواز المرور الأمني لمناصب الدولة البوليسية لا يتناقض في أغلب الاحوال مع السمات السلبية في السيرة الشخصية ، وخصوصا ما يتعلق منها بنقاط الضعف المسلكية أو الأخلاقية . بل هو متناغم معها باحثا عنها محتفيا بوجودها . باعتبار أن كافة النقائص الأخلاقية والنوازع الدونية هي مفاتيح للتحكم والسيطرة ، يمكن استثمارها لضمان استغلال مواطن الابتزاز لدى أي شخصية في حال تمردها أو خروجها عن القواعد المرعية غير المعلنة .
٤ - والدولة البوليسية ، هى الدولة التي تقوم بتخصيص نسبة كبيرة من المناصب الحكومية على اختلاف تخصصاتها النوعية لرجال الأمن .
ولذلك يمتد داخل دولاب عملها طابور من رجال الأمن المتقاعدين إسميا ، المجندين عمليا لصالح أجهزتهم الأمنية . الأمر الذي يوفر عينا أمنية راصدة وقبضة بوليسية متنفذة داخل كل المرافق . بما يضمن تكريس موارد الدولة لخدمة مصالح النظام ، وضمان تسكين مؤيدي الدولة أو تابعيها أو مرشديها ومخبريها في كل مستويات اتخاذ القرار .
وللمفارقة ، فإن هذا ( الذراع الأمني ) داخل كافة المرافق الحكومية يكون راعيا وحارسا لكل مظاهر الفساد ، بما يوفر دائرة موثوقة لتجنيد الفاسدين وابتزازهم من أجل استخدامهم كعيون لرصد أي متمردين محتملين داخل بنية مؤسسات الدولة وأجهزتها .
٥ - والدولة البوليسية ، هى الدولة التي تسند الكثير من الأنشطة المجتمعية غير الأمنية إلى الأجهزة الأمنية .
ولذلك تزدحم وتتضخم الهياكل التنظيمية لوزارة داخليتها وباقي أجهزتها الأمنية ، نتيجة تحميل هذه الهياكل بإدارات ومصالح تمارس أعمالا وتخصصات ليست لها أي صفة أمنية ، كان ينبغي - وفقا للمقتضيات الرشيدة من منظور قواعد التنظيم والإدارة - أن يتم إلحاقها بوزارات أخرى تدخل هذه الأعمال ضمن نطاق اختصاصها .
بل ، ويتطور الأمر في الدولة البوليسية إلى حد السماح للأجهزة الأمنية بإنشاء منظومتها الاستثمارية الخاصة بها والتي تمتد لكافة الأنشطة الاقتصادية وتصب أرباحها داخل موازنتها . بما يجعل من تلك الأجهزة لاعبا في ساحة كعكة الاقتصاد المحلي ، ومن ثم يحتم وقوعها في مصيدة تضارب المصالح بين مسئولياتها الأمنية وطموحاتها الاستثمارية .
علاوة علي ذلك ، فإن الأنشطة المجتمعية التي تفلت من التبعية التنظيمية للمؤسسات الأمنية لا تفلت من التبعية الترخيصية لها . حيث يتم ربط الكثير من هذه الأنشطة بموافقات وجوبية ينبغي صدورها عن الجهات الأمنية للبدء في هذه الأنشطة أو الاستمرار فيها . وذلك دون الاستناد غالبا إلى نصوص من القانون تستوجب ذلك .
الأمر الذي يقسم الكثير من أنشطة المجتمع ؛ إلى الآتي :
- أنشطة غير أمنية تتولاها حصريا الجهات الأمنية .
- أو أنشطة غير أمنية لا يتم الترخيص لمزاولة نشاطها إلا بموجب موافقات أمنية مسبقة .
- أو أنشطة غير أمنية تدخل ضمن المنظومة الاستثمارية لأجهزة الأمن .
وبذلك ، يصبح المجتمع بمؤسساته رهن القبضة الأمنية ، تنظيما .. أو ترخيصا .. أو استثمارا .
٦ - والدولة البوليسية ، هي الدولة التي تضع عينا أو قدما أو ذراعا او أصبعا أمنية، داخل التنظيمات الحزبية ، أو النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني ، أو المؤسسات الإعلامية .
ولا يقتصر ذلك على استخدام الوسائل التكنولجية للمراقبة غير القانونية لأنشطة هذه الجهات ولأسرار الحياة الشخصية لأعضائها ؛ لاستغلال ما يتوفر من معلومات لتصفية هذه الجهات وأعضائها معنويا أمام الرأي العام .
بل يمتد الأمر إلى تجنيد عناصر يتم انضمامها لتلك الجهات بغرض نقل أخبارها واتجاهات أعضائها ؛ وترتيب سيناريوهات لإحداث وقيعة داخل صفوفها ؛ تمهيدا لحلها أو إرباك نشاطها نتيجة الصراعات بين أجنحتها .
أو من خلال إنشاء الدولة البوليسية لكيانات حزبية أو أهلية أو إعلامية تابعة لها ، أو وضع يدها على كيانات قائمة أصلا ، لتخترق بها ساحة الحياة الحزبية أو ساحة منظمات المجتمع المدني أو الساحة الإعلامية.
ولقد تطور الأمر في ظل الفضاء الإلكتروني الناجم عن شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ، حيث بدأت الأجهزة الأمنية بالدول البوليسية في إدخال التحديث على أساليبها المتعلقة بإرباك الرأي العام أو تأليبه أو تخديره ؛ من خلال ما يسمى باللجان الإلكترونية التي تدار بمعرفة هذه الأجهزة ، لنشر الشائعات ، والاغتيال المعنوي للشخصيات ، والإرهاب النفسي للمعارضين باستهدافهم بالسباب والتجريس والاستهزاء .
.... .....
كانت هذه هي المظاهر أو الممارسات التي تتسم بها الدولة البوليسية ..
ولكن ، قد تتعقد وتلتبس ملامح الدولة البوليسية ، عندما تنبثق من داخل دولة تخضع لحكم المؤسسة العسكرية ، فيظهر نمط الإدارة الأمنوعسكروسياسية ( أمنية / عسكرية / سياسية ) .
حيث تنفتح دائرة المناصب الحكومية لكي تضم قطاعا كبيرا من المتقاعدين ذوي الخلفية العسكرية . بما يقلص كثيرا من الكوادر المدنية داخل بنية الدولة التنظيمية . ويصبغ مؤسساتها بصبغة عسكرية تضاف إلى الصبغة الأمنية بما يجرف طبيعتها المدنية .
علاوة على اقتطاع جانب أكبر من الكعكة الاقتصادية لبناء المنظومة الاستثمارية للمؤسسة العسكرية التي تؤمن بقاءها في الحكم من خلال ترسيخ قاعدتها الاقتصادية .
إلا أن المأزق العسير الذي تواجهه الدولة البوليسية حتى لو كانت تقودها المؤسسة العسكرية ، يتمثل في أن نفاذ الأجهزة الأمنية بالدولة البوليسية للكثير من الأنشطة والمؤسسات ؛ يؤدي إلى تجرؤ هذه الأجهزة واستقوائها بصلاحياتها الأمنية ، وانفلاتها وارتكابها لحماقات كارثية ؛ تؤلب عليها باقي مؤسسات الدولة بما فيها حتى المؤسسة العسكرية .
بما يؤدي بمرور الوقت إلى اططفاف هذه المؤسسات في جانب ؛ وأجهزة الأمن المنفلتة المتجرئة في جانب آخر .
علاوة على أن تجنيد الأجهزة الأمنية لخدمة أهداف النظام مع تخليها عن دورها في تحقيق الأمن بالمجتمع ؛ يخلق فجوة واسعة بينها وبين غالبية مكونات المجتمع ، بما يرسخ النظرة لها باعتبارها العصا الغليظة للسلطة المستبدة الفاشلة ، والعين المتغافلة عن حماية أموال الناس وممتلكاتهم وأرواحهم وأعراضهم .
الأمر الذي يعمق الشرخ بين الأجهزة الأمنية والمجتمع بغالبية مواطنيه أو مؤسساته . وينذر بحدوث انفجار ، بالطبع لا تصب نتيجته في صالح استمرار الدولة البوليسية .
ولعله من الواضح ، أن بولسة المجتمعات الحديثة أو عسكرتها هو أمر يتناقض مع الطبيعة المنفتحة للحضارة الإنسانية الراهنة ؛ التي تؤدي منجزاتها التكنولجية إلى تجاوز الحدود والأسوار ، وتعدد الآراء والأفكار ، ومن ثم تعميق الحقوق والحريات .
ولذلك ، فإن الدولة البوليسية بكل منطلقاتها ، هي دولة تحمل داخل أحشاءها بذرة فناءها . بوصفها خلطة كريهة تفسدها وتسممها بهارات البولسة . وباعتبارها دولة ضد الحاضر ، ومن ثم لا مكان لها بالقطع في .. المستقبل .
ولكن ، لا يمكن الوصول لذلك المستقبل إلا من خلال تفعيل حزمة متكاملة من الضمانات التي تسمح بتفكيك بنيان الدولة البوليسية ؛ بما يسد الطريق أمام أية محاولات لإعادة إنتاجها حال سقوطها .
ولكن لهذا حديث آخر ، يمكن مطالعة تفاصيله بدراستي المرفق رابطها بالهامش تحت عنوان :
الضمانات المطلوبة لعدم إعادة إنتاج الدولة البوليسية ( ضمانات : وظيفية - هيكلية - إدارية - تشريعية ) .
دكتور / محمد محفوظ
#الدولة_البوليسية
هامش :
- رابط دراستي :
الضمانات المطلوبة لعدم إعادة إنتاج الدولة البوليسية ( ضمانات : وظيفية - هيكلية - إدارية - تشريعية ) .
https://drmmahfouz.blogspot.com/2011/07/necessary-safeguards-against.html
الدراسة تم عرضها بمؤتمر :
( تحديات التحول الديمقراطي في مصر خلال المرحلة الانتقالية ) .
المنعقد بالقاهرة بتاريخ ٢٦ - ٢٧ يوليه ٢٠١١ ، بالتعاون بين كل من :
- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
- مركز العلاقات الدولية والحوار الخارجي FRIDE بأسبانيا
- صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية UNDEF
توصيف رائع دقيق بالغ يادكتور ..
ردحذفخالص الشكر والامتنان والتقدير
ردحذف