26 فبراير 2015

الشرطة .. بين إزدواجية الانحياز للجماهير والتعصب للمؤسسة

د. محمد محفوظ .. يكتب : الشرطة .. بين إزدواجية الانحياز للجماهير والتعصب للمؤسسة
تاريخ النشر : 14 فبراير 2015
من الواضح أن البعض لا يفهم رسائل السماء أو ربما يتجاهلها .
ﻻ يفهمها فيتعامل معها باعتبارها جواز مرور للسير في نفس الطريق القديم .
أو يتجاهلها متغافلاً عنها استهتاراً ، أو متعالياً عليها كبرياءً .
ولقد كانت عودة جسور الثقة بين جماهير المصريين وجهاز الشرطة في 30 يونيو 2013 بمثابة هدية من السماء ، اختصرت كثيراً من الوقت والجهد ؛ لرأب الشرخ الذى تكون على مدى سنوات ﻻنحياز الشرطة للنظام على حساب الشعب ؛ ولإنهاء الخصومة الثأرية التى أفرزتها أحداث ثورة 25 يناير 2011 .
ولكن للأسف ؛ فإن قوانين الواقع تثبت بأن السياق الحاكم والمناخ القائم والقواعد الراسخة أقوى من التوجهات والميول غير الرسمية ؛ حتى وإن كانت محبذة لدى القاعدة العريضة فى أى مجتمع أو أى مؤسسة ؛ أو أى جهاز كجهاز الشرطة . لأنه بينما فهمت القاعدة العريضة من ضباط وأفراد ومجندي الشرطة رسالة السماء التى كانت بمثابة هدية تتيح لهم العودة مرة أخرى لأحضان الشعب ، إلا أن السياسات الأمنية والإجراءات الشرطية لم تتغير لتواكب العهد الجديد ، فكانت مثل الحاجز العالي الذى يمنع الخروج من الدائرة القديمة الكريهة رغم صدق النوايا وحسن المقاصد .
الأمر يشبه الحالة التى يعيشها مدخن قرر مخلصاً البدء فى الإقلاع عن التدخين ، ولكن السياق المجتمعى المحيط به يسمح بالتدخين فى كل مكان ، والدائرة الاجتماعية أو الوظيفية المحيطة به لا تستهجن التدخين ، وبالتالى فإن النتيجة المحتومة هى عودة هذا الشخص إلى التدخين ، فالواقع والسياق والقواعد أقوى من التوجهات والميول والنوايا الحسنة !!
وبنفس المنطق ؛ فإن الواقع يقرر بأن الشرطة انحازت بكل شرف للجماهير فى 30 يونيو 2013 وأدارت ظهرها لنظام الإخوان الإرهابي ؛ أى أنها بدات بالفعل أولى خطوات الإقلاع عن التدخين مثل صاحبنا المدخن سالف الذكر ، ولكن رغم ذلك الانحياز فإن السياق والمناخ والسياسات والإجراءات التى تعمل فى ظلها الشرطة مازالت كما هى لم تتغير ، وبالتالى يصبح استمرارها فى انتهاج نفس ممارساتها القديمة أمراً حتمياً ، تماماً مثل ذلك المدخن العائد .
فمازال الغياب الأمني عن معظم الشوارع المصرية مستمراً ، ولا يوجد بكافة محافظات مصر حتى الآن نظام متكامل لخدمات الطوارئ يوفر انتشاراً أمنياً من خﻻل دوريات مستمرة مربوطة لاسلكياً بغرف عمليات فى حالة استنفار دائم ، بما يضمن الانتقال السريع لأماكن البلاغات للتصدى لها وضبط مرتكبيها ، أو يحقق حالة من التواجد الأمني الرادع بما يقلص من ممارسات الخروج على القانون .
ومازال الإهمال الفادح مستمراً فى مجالى الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي ، وهما المجالان المرتبطان بأعمال الناس وأموالهم وأملاكهم وأنفسهم وأعراضهم ، فمعدﻻت جرائم التعدى على النفس والمال وشيوع الرشوة والفساد والاعتداء على أملاك الدولة والمرافق العامة ؛ كلها معدﻻت مرتفعة فى مقابل تدنى معدﻻت ضبط مرتكبيها .
ومازال هناك استمرار فى المعاملة غير الودية أو العنيفة أو المهينة للمتعاملين مع أقسام وجهات الشرطة .
ومازال هناك استمرار فى الإجراءات البيروقراطية العقيمة التى تسمم على الناس حياتهم وتضيع وقتهم ؛ داخل معظم الجهات الشرطية الخاصة باستخراج تراخيص المركبات وقيادتها واستخراج وثائق الأحوال المدنية وتصاريح العمل وجوازات السفر ورخص السلاح .
ومازال هناك تسيب وفساد يمنع اﻻرتفاع بمعدﻻت تنفيذ الأحكام وضبط المحكوم عليهم الهاربين ، نتيجة الإهمال أو شيوع الرشوة والتربح بين بعض رجال الشرطة .
ومازال هناك تدنى فى مستوى المعايير الإنسانية المطبقة فى أماكن الاحتجاز وفى السجون ، وفى الأساليب والإجراءات التى تتم من خﻻلها عمليات نقل المتهمين إلى مقرات النيابات والمحاكم .
ومازال هناك ضعف فى مستوى التدريب لقوات الأمن المركزى ، بما يؤدى إلى عدم قدرتها على استعمال أساليب إحترافية غير قاتلة عند التصدي لفض الشغب أو تفريق المظاهرات أو التجمعات غير القانونية .
إذن ؛ كل هذه الممارسات السلبية المستمرة تتناقض بزاوية قدرها 180 درجة مع الصورة المبهرة المشرفة لانحياز جهاز الشرطة للجماهير فى 30 يونيو 2013 .
ولذلك سيصعب على المواطن البسيط أن يتفهم بمرور الوقت هذه الإزدواجية التى عاد بموجبها جهاز الشرطة إلى أحضان الشعب ؛ ولكنه رغم ذلك مازال كسابق عهده يهمل أو يتجاوز فى حق هذا الشعب .
سيصعب على المواطن البسيط أن يتفهم هذه الإزدواجية التى تجعل العاملين بجهاز الشرطة يبذلون أرواحهم الغالية لحماية هذا الشعب من خطر الإرهاب ؛ بينما هم أنفسهم الذين يتورط بعضهم فى إزهاق أرواح بعض أبناء هذا الشعب نتيجة الإهمال أو الرعونة أو ضعف التدريب أو الاستعلاء أو عدم الالتزام بالقانون ؛ ويتورط البعض الآخر منهم فى الصمت المشين على تجاوزات زملائهم أو إخفاء الأدلة لدرء التهمة عن مرتكبيها وتسهيل إفلاتهم من العقاب .
بالطبع من حق البسطاء أن يتحيروا ويلتبس عليهم الأمر ؛ وبالتالى ﻻ يصلوا إلا إلى النتيجة البسيطة التى مفادها : أن جهاز الشرطة مازال على سابق عهده ؛ يكافح الإرهاب ؛ ولكنه ﻻ يستطيع أن يكافح آفة مزمنة وكريهة هى : آفة التعصب للمؤسسة .
نعم ؛ آفة التعصب للمؤسسة .. تلك الآفة التى تجعل جهاز الشرطة يعانى ؛ ويعانى معه المجتمع ؛ من إزدواجية الانحياز للجماهير والتعصب للمؤسسة .
وبالطبع هذه الإزدواجية متوطنة فى كافة المؤسسات المصرية مهما تباينت مجالات عملها سواء أكانت خدمية أم امنية أم عسكرية أم قضائية أم دينية .. الخ ...
ولذلك لا يفسر مصطلح ( الدولة العميقة ) بمفهومه البغيض التركى المنشأ ؛ حقيقة العلاقة التاريخية والمعاصرة بين الدولة المصرية ومؤسساتها ؛ فالمؤسسات كانت وﻻ زالت فى خدمة الدولة حقاً ؛ ولكن ولاءها كان دائماً لنفسها ؛ ورغم أنها كانت دائماً فى خدمة الحاكم ؛ إلا أنها كانت الأقوى بحكم البقاء ؛ فالحكام زائلون والمؤسسات باقية ؛ تبنى ثقافتها وتقاليدها ؛ ليستمر الولاء فقط لثقافة المؤسسة وتقاليدها .
مصطلح الدولة العميقة بمفهومه الإيجابى فقط ؛ هو الذى ينطبق على الدولة المصرية ومؤسساتها ؛ لأن رسوخ تلك الدولة من قديم الزمن ؛ منح مؤسساتها القدرة على مد وتشبيك وتعميق جذورها .
بينما مصطلح ( ثقافة المؤسسة ) وتقاليدها بمفهومه السلبى ؛ هو الذى يصلح لوصف ما تلاقيه أى محاولة للإصلاح فى مؤسسات مصر من معارضة وممانعة .
لذلك ستبقى ثقافة المؤسسة هى الفيروس الكامن داخل كل مؤسسات الدولة المصرية - بدون استثناء - الذي يضعف مناعتها ويجعلها تسقط في فخ التعصب للمؤسسة .
أليس الأزهر كمؤسسة مثالاً واضحاً للممانعة التى تلاقيها أى دعوة للتغيير تحت وطأة الانسياق لآفة التعصب للمؤسسة بثقافتها وتقاليدها ، بما يوفر الحماية ويضفي القدسية على مجموعة من النصوص البشرية المسيئة للدين والمتجرأة على القيم السامية والغايات النبيلة .
أستطيع أن أزعم إننى أعلم بحكم خلفيتى الوظيفية الشرطية المأزق الإنسانى والأخﻻقى الضاغط على القاعدة العريضة من ضباط وأفراد الشرطة ، فرغم أن التجاوزات التى يتعرض لها المواطنون تقوم بها فئة من ضمن هذه القاعدة العريضة ذاتها ، إﻻ أن المسئول الحقيقي عن استمرار تلك التجاوزات هى السياسات الأمنية المتكلسة والإجراءات الشرطية العقيمة التى يحافظ من بيدهم الأمر على استمرارها ؛ نظراً لاستسلامهم لممارسة دور الكهنة فى معبد التعصب للمؤسسة بثقافتها وتقاليدها .
وبالتالى ؛ ستظل القاعدة العريضة من ضباط وأفراد الشرطة مثل التروس فى جهاز خربان ﻻ تخرج منه إﻻ خدمة أمنية غير مطابقة للمواصفات ؛ رغم الدماء الشريفة التى سالت ومازالت تسيل من أجل الانحياز للشعب ومن أجل حماية كل المجتمع من الإرهاب ..
وهكذا تؤدى آفة التعصب للمؤسسة إلى عدم القدرة على استثمار الثقة التى اكتسبتها أجهزة الأمن نتيجة انحيازها للجماهير ؛ ومن ثم تفويت الفرصة على عملية إصلاح وتطوير الأجهزة الأمنية بأقل كلفة ممكنة . كما تؤدى إلى انغلاق المؤسسة الأمنية على ذاتها ؛ ومن ثم دفع المجتمع للتعامل معها - حتى رغم استمرارها فى دفع فاتورة الدم لاستئصال الإرهاب - باعتبارها طائفة أو إقطاعية مسكونة بآفة التعصب لثقافتها وتقاليدها وقياداتها وضباطها وأفرادها ؛ والطرمخة إن لزم الأمر على انتهاكاتهم وتجاوزاتهم بدلا من كشفها ومواجهتها .
قد تكون ( آفة حارتنا النسيان ) كما قال الراحل الملهم : نجيب محفوظ .
ولكن يبدو أن النسيان مجرد نتيجة لأسباب متعددة ، واحد منها اسمه : التعصب للمؤسسة .
 *****
dr.mmahfouz64@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق