26 فبراير 2015

محنة العدالة في مصر .. بيروقراطية .. الاوراق العاجزة

د. محمد محفوظ .. يكتب : محنة العدالة فى مصر ( بيروقراطية .. الأوراق العاجزة  ) 
تاريخ النشر : 23 ديسمبر 2014   
ويل لقاضى الدنيا .. من قاضى الآخرة
قول مأثور

عندما يفشل أى نظام فى القيام بالدور المنوط به ؛ فإن هذا يعنى بأن هناك خللاً خطيراً فى بنيانه أو قصوراً جسيماً فى مدى الالتزام بقواعده .
ولقد كشف الحكم الأخير فى قضية قتل المتظاهرين بتاريخ ٢٩ نوفمبر ٢٠١٤ الذى قضى بالبراءة لكافة المتهمين بدءً من الرئيس الأسبق مبارك وانتهاءً بحبيب العادلى ومساعديه ؛ كشف بأن نظام العدالة فى مصر يعانى من محنة مستحكمة جعلته يفشل فى القصاص لمئات الأرواح التى أزهقت وآلاف الأجساد التى أصيبت وتضررت ، بما يوضح بأن هناك خللاً خطيراً فى بنيان هذا النظام علاوة على القصور المتوطن فى مدى الالتزام بقواعده .
فعلى مدى جولة أولى وجولة ثانية أمام دائرتين رفيعتين من دوائر محكمة الجنايات ، فشل نظام العدالة فى إدانة متهم ولو واحد بقتل وإصابة المتظاهرين . ورغم صدور حكم بإدانة مبارك وحبيب العادلى فى المحاكمة الأولى ، فإن المبدأ القانونى الذى بنت عليه المحكمة عقيدتها فى الإدانة والمتمثل فى امتناع رئيس الجمهورية ووزير الداخلية عن اتخاذ ما يلزم لمنع قتل المتظاهرين ؛ هذا المبدأ تم تأويله بمعرفة المحكمة بحيث يحمل فى طياته أدلة البراءة للدولة وأجهزتها الأمنية من قتل المتظاهرين تأسيساً على فرضية أن الأحداث التى وقعت إبان يوم ٢٨ يناير هى نتاج مؤامرة إخوانية مدعومة بعناصر أجنبية مسلحة لإسقاط الدولة .
إلا أن الضربة القاصمة التى أصابت نظام العدالة فى القلب ؛ تمثلت فى حكم البراءة للجميع الذى أسدلت عليه المحاكمة الثانية أستارها ؛ ليصيب أغلبية الشعب المصرى وأسر الشهداء والمصابين بحالة من الذهول .
والواقع أن هذا الذهول لا يجب أن يقتصر على أفراد الشعب بمختلف فئاته ، بل يجب أن يمتد إلى كافة المستويات الرئاسية بالقضاء وكافة قواعده بمستشاريه وقضاته وأعضاء النيابة العامة ، دونما أى محاولة لتسطيح الأمر قد تدفع إلى اللجوء للإنكار والتعلل بأن أوراق الدعوى فى قضية قتل المتظاهرين كانت تخلو من أى أسباب للإدانة ومن ثم لم يكن هناك مناص من الحكم بالبراءة .
والواقع أن ذلك المنهج فى التعاطى مع نظام العدالة ، هو منهج يفتح الباب لفقدان الثقة فى هذا النظام ومن ثم الالتفاف عليه لاستخلاص الحقوق من خلف ظهر الدولة ومؤسساتها .
فنظام العدالة باعتباره أحد أعمدة المجتمعات المتحضرة والحكم الرشيد ، ينبغى أن يظل مهموماً باستخلاص الحقوق لأصحابها من مغتصبيها وتقديم الترضية القضائية للمتضررين ؛ حتى يتحقق الردع القانونى فى المجتمع وتظل الدولة هى الملجأ الوحيد المنوط به سلطة الجزاء والقصاص .
ولهذا لم يعد من المقبول الاكتفاء بالتذرع بأن النيابة قد طعنت على الحكم فى قضية قتل المتظاهرين وستنظره محكمة النقض ، ومن ثم ستتم إعادة المحاكمة أمام محكمة النقض ذاتها فى حال قبولها الطعن باعتبارها محكمة موضوع بما يتيح الفرصة لأرفع محكمة وأعلاها قدراً فى درجات السلم القضائي أن تتصل بالقضية وتصدر فيها الحكم المتفق مع صحيح القانون .
بالفعل لم يعد من المقبول التذرع بهذا المنطق الذى يساهم فى تراكم عوامل القصور القضائى بمرور الزمن حتى تأتى اللحظة التي ينهار فيها ذلك النظام من داخله .
وبالتالي حان الوقت لتبنى مناهج جديدة تتيح للدوائر الرئاسية داخل السلطة القضائية دراسة عوامل القصور فى أحكام المحاكم وقرارات النيابة العامة ، وتقديم الحلول القانونية الكفيلة بعدم تكرارها .
وفى تقديرى فثمة تدخلات عاجلة لا تحتمل التأخير ينبغي على المستويات الرئاسية فى السلطة القضائية المبادرة بسرعة تبنيها وتعميمها سواء فى قضية قتل المتظاهرين أو فى أى قضية أخرى تحمل طابعاً مشابهاً لتلك القضية من حيث عدد الضحايا أو مناصب المتهمين ، أو حتى فى أى قضية عادية قد تندرج تحت بند الخصومات الفردية بين المواطنين .
وتتمثل هذه التدخلات فى الآتي :
أولاً : ضرورة إعادة تنمية الوعى لدى كافة أعضاء السلك القضائي بأن جوهر العمل القضائي سواء فى مرحلة التحقيق أو توجيه الاتهام أو المحاكمة هو تحقيق العدالة فى صورتها الشاملة التي تهدف إلى القصاص للضحايا أو استخلاص الحقوق لأصحابها أو إنهاء الخصومات والنزاعات ، وذلك لتجاوز العرف التقليدى الذى صار سائداً لدى قطاع عريض من رجال النيابة والقضاء ، والمتمثل فى ممارسة العمل القضائي باعتباره وظيفة نمطية تخضع لمجموعة من الإجراءات والضوابط الشكلية التى لا تبحث عن العدالة بقدر ما تبحث عن تبرئة أو إدانة عدد من المتهمين المفترضين دون البحث عن الجناة الحقيقيين ، والتى ﻻ تنشغل إﻻ باستيفاء عدد من الأوراق والمستندات ، التى ربما لا تكون بطبيعتها منتجة بأى حال فى الدعاوى المنظورة ، بما يجعل أغلب المحاكم تقيد نفسها - وباختيارها - بقرارات الإحالة التى تحيلها إليها النيابة العامة بذات وصف الجريمة ونفس قائمة المتهمين ، وهو ذات المسار الذى تتبعه أغلب النيابات عندما تعتمد محاضر الشرطة دون تمحيص ، وتوجه الاتهام لمن قدمتهم أجهزة الأمن كمشتبه فيهم دونما أى تحقيقات دقيقة ، بما يجعل ميزان العدالة يميل دونما أى معقب لصالح البوصلة الأمنية التى قد تخطئ أو تهمل فى تحديد توجهاتها .
وللأسف فإن الابتعاد عن جوهر العمل القضائي المتمثل فى التطلع إلى تحقيق العدالة فى صورتها الشاملة ، هو الذى رتب لمجموعة من السلبيات التى أسست لبيروقراطية قضائية تمارس العمل القضائى بمنطق الوظيفة لا منطق الرسالة ، ويتجلى ذلك فى الكثير من الأمثلة السائدة التى صارت مألوفة وملازمة للعمل داخل أروقة السلطة القضائية ، ومن هذه الأمثلة الآتى :
- إن النيابة العامة رغم كونها جهة الإدعاء العام فى المجتمع إلا أنها أصبحت لا تمارس دورها الأصيل فى المبادرة برفع الدعوى الجنائية المقرر لها بموجب المادة رقم ١ من قانون الإجراءات الجنائية ، وخصوصاً ما يتعلق بجرائم الفساد والتعدى على المال العام التى يتم ارتكابها جهاراً نهاراً فى كل شبر من أرجاء الوطن والتى تدخل فى باب العلم العام المتاح لأعضاء النيابة العامة كما هو متاح لكل مواطن ، بما يفرض على النيابة أن تبادر إلى العودة للقيام بدورها دون أى انتظار لبلاغات المواطنين .
- إن أغلب المحاكم أصبحت تكتفى عند نظرها الدعاوى بالأوراق المعروضة أمامها فقط دون أن تمارس الحق المقرر لها بموجب مجموعة من النصوص القانونية التى توفر للمحاكم سلطة كاملة تتيح لها التنقيب عن الحقيقة بمعزل عن تحريات ومحاضر الشرطة أو تحقيقات النيابة العامة ، طالما كانت الأوراق التى قدمتها تلك الجهات عاجزة عن كشف الحقائق . وتتمثل النصوص القانونية التى تعطى للمحاكم هذه السلطة فى الأمثلة الآتية  :
+ المادة رقم ١١ من قانون الإجراءات الجنائية التى تنص على أنه : ﺇﺫﺍ ﺭﺃﺕ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺠﻨﺎﻳﺎﺕ ﻓﻰ ﺩﻋﻮﻯ ﻣﺮﻓﻮﻋﺔ ﺃﻣﺎﻣﻬﺎ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺘﻬﻤﻴﻦ ﻏﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻗﻴﻤﺖ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﻋﻠﻴﻬﻢ ، ﺃﻭ ﻭﻗﺎﺋﻊ ﺃﺧﺮﻯ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺴﻨﺪﺓ ﻓﻴﻬﺎ ﺇﻟﻴﻬﻢ ، ﺃﻭ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺟﻨﺎﻳﺔ ﺃﻭ ﺟﻨﺤﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺘﻬﻤﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﺿﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ، ﻓﻠﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﻴﻢ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻷﺷﺨﺎﺹ ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ، ﻭﺗﺤيلها ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ﻭﺍﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻬﺎ .
+ والمادة رقم ١٢ إجراءات جنائية التى تنص على أنه : ﻟﻠﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺠﻨﺎﺋﻴﺔ ﺑﻤﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻨﻘﺾ ﻋﻨﺪ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻉ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﻌﻦ ﻓﻰ ﺍﻟﻤﺮﺓ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺣﻖ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﻃﺒﻘﺎً ﻟﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺮﺭ ﺑﺎﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ . ﻭﺇﺫﺍ ﻃﻌﻦ ﻓﻰ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﺪﺭ ﻓﻰ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﻟﻠﻤﺮﺓ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻼ ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺸﺘﺮﻙ ﻓﻰ ﻧﻈﺮﻫﺎ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﺎﺭﻳﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻗﺮﺭﻭﺍ ﺇﻗﺎﻣﺘﻬﺎ .
+ والمادة رقم ٢٩١ إجراءات جنائية التى تنص على أنه : ﻟﻠﻤﺤﻜﻤﺔ ﺃﻥ ﺗﺄﻣﺮ ، ﻭﻟﻮ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎﺀ ﻧﻔﺴﻬﺎ ، ﺃﺛﻨﺎﺀ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﺃى ﺩﻟﻴﻞ ﺗﺮﺍﻩ ﻻﺯﻣﺎً ﻟﻈﻬﻮﺭ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .
+ والمادة رقم ٢٩٤ إجراءات جنائية التى تنص على أنه : ﺇﺫﺍ ﺗﻌﺬﺭ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺩﻟﻴﻞ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ، ﺟﺎﺯ ﻟﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻨﺪﺏ ﺃﺣﺪ ﺃﻋﻀﺎﺋﻬﺎ ﺃﻭ قاضياً ﺃﺧﺮ ﻟﺘﺤﻘﻴﻘﻪ .
.. ولا شك بأن كل تلك المواد سالفة الذكر التى أصبحت شبه مهجورة فى عرف عدد غير قليل من المحاكم ، توضح بأن المقولة السائدة - التى تقرر بأن القاضى الجنائى مقيد فقط بالأوراق التى أمامه - ما هى إلا أسطورة لا تتفق مع صحيح القانون ، إذ أن القاضى الجنائى مقيد فقط بالأوراق المستوفاة التى أمامه المشفوعة بالأدلة الناصعة والبراهين القاطعة وليس الأوراق العاجزة عن إثبات أى شئ والفاقدة لأى وزن أو ثقل قانونى ، وبالتالى فإن المحكمة ملزمة إذا أرادت تحرى العدالة الشاملة أن تتدارك ما لحق بالأوراق من عجز وقصور ، لتشيد حكمها على أسس قوية ومتينة وقاطعة .
ومن ثم ، فإن الالتزام بجوهر العدالة هو الذى يمنح السلطة القضائية المكانة العلية التى تستحقها باعتبارها ممثلة للضمير الجمعى المهموم بالبحث عن الحقيقة حتى وإن كانت بمقاييسنا البشرية نسبية بطبيعتها ، كما أن ذلك الالتزام هو الذى ينزع عن هذه السلطة صفة البيروقراطية القضائية التى تقدس الأوراق حتى وإن كانت غير مستوفاة وعاجزة وفاقدة للأدلة والبراهين .
ثانياً : ضرورة قيام المستويات الرئاسية القضائية بتوجيه الوعي القضائي الجمعى - لدى أعضاء النيابة العامة ودوائر المحاكم - نحو مبدأ قانونى هام هو : مبدأ المسئولية الجنائية المترتبة على امتناع الموظف العام عن القيام بواجبات وظيفته .
وللأسف فإن الرأي العام السائد لدى جمهور القانونيين سواء من المحامين أو أعضاء السلك القضائى يميل نحو الاعتقاد بأن القانون المصرى يخلو من مفهوم : تجريم الامتناع ، باعتباره أحد صور الاشتراك فى الجريمة . ولعل هذا الرأى السائد قد تبلور نتيجة التعامل مع قانون العقوبات باعتباره مجموعة من النصوص المنفصلة عن بعضها البعض ، والتى لا تحكمها فلسفة للعدالة الجنائية غايتها تكوين إطار جزائي عقابى يضم بداخله كافة صور التعدى على الأنفس والأعراض والأموال والمصلحة العامة .    
إلا أن النظرة الفاحصة لنصوص قانون العقوبات تقودنا إلى نتيجة مغايرة لذلك الرأى السائد ، فلقد تبنت بعض مواد هذا القانون مفهوم : تجريم الامتناع ؛ بوصفه يمثل الإرادة غير الإيجابية التى تنشأ عنها جريمة ويكون لفاعلها سلطة أو إرادة ؛ آنية أو إشرافية أو وظيفية .
فالمادة رقم ٢٣٨ من قانون العقوبات تشدد العقوبة على من ارتكب جنحة القتل الخطأ ونكل - أى امتنع - عن مساعدة المجنى عليه ، باعتباره كان يمتلك سلطة آنية تتيح له تقديم المساعدة للمجنى عليه ولكنه مارس إرادة غير إيجابية تمثلت فى الامتناع عن تقديم هذه المساعدة .
والمادة رقم ٣٧٨ من قانون العقوبات - فى بندها الثامن - تعاقب من ترك أولاده حديثى السن أو مجانين موكلين لحفظه يهيمون وعرضهم بذلك للأخطار أو الإصابات ، باعتباره يمتلك سلطة إشرافية - ترتبط بمرحلة الطفولة لدى الأبناء أو بحالة الجنون لدى المرضى عقلياً - كانت تتيح له ضرورة توفير العناية اللازمة للطفل أو المجنون ، ولكنه مارس إرادة غير إيجابية تمثلت فى الامتناع عن أو الإهمال فى تقديم هذه المساعدة .
والمادة رقم ١٢٤ من قانون العقوبات تعاقب الموظفين العموميين إذا كانوا ثلاثة على الأقل وامتنعوا عمداً عن تأدية واجب من واجبات وظيفتهم أو مبتغين منه تحقيق غرض مشترك ، وتشدد العقوبة إذا أدى هذا الامتناع إلى جعل حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم فى خطر أو كان من شأنه أن يحدث اضطراباً أو فتنة بين الناس أو إذا أضر بمصلحة عامة ، باعتبار أن الموظف العام كان يمتلك سلطة وظيفية تتيح له اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تعريض المجنى عليهم للخطر ولكنه مارس إرادة غير إيجابية تمثلت فى الامتناع عن القيام بهذا الواجب الوظيفى .
وكما هو واضح فإن الامتناع بوصفه إرادة غير إيجاببة ينشأ عنها ضرر ما ، تمثل ركناً من الأفعال المجرمة فى قانون العقوبات . ولكن رجال القانون يجادلون بأن تلك الأمثلة لتجريم الامتناع تظل حصرية وتخرج عن صور الاشتراك فى الجريمة التى حصرها القانون فقط فى كل من : التحريض والاتفاق والمساعدة .  
وفى تقديرى ، فإن هذا التفسير غير صحيح باعتباره يتجاهل نص البند الثالث من المادة رقم ٤٠ من قانون العقوبات ، التى توضح بأن الاشتراك فى الجريمة بالمساعدة يتوفر من خلال : المساعدة بأى طريقة أخرى فى الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة لارتكابها . وكما هو واضح فإن عبارة ( أخرى ) تشمل بداخلها مفهوم الامتناع باعتباره أحد صور المساعدة فى ارتكاب الجريمة خصوصاً ممن يملك سلطة الأمر أو المنع أو الفعل أو الإشراف أو الامتناع ( آنياً أو إشرافياً أو وظيفياً ) .
علاوة على أن هذا التفسير يتجاهل نص المادة رقم ١٥ من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ، ذلك العهد الذى صادقت عليه مصر ودخل حيز التنفيذ اعتباراً من ١٤ إبريل ١٩٨٢ وأصبح منذ ذلك التاريخ جزءً من القوانين السارية . حيث تنص تلك المادة فى فقرتها الثانية على الآتى : ليس فى هذه المادة من شئ يخل بمحاكمة ومعاقبة أى شخص على أى فعل أو امتناع عن فعل كان حين ارتكابه يشكل جرماً وفقاً لمبادئ القانون العامة .
وكما هو واضح فإن مبدأ تجريم الامتناع هو مبدأ منصوص عليه فى العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ، بما يجعله جزءً من التشريعات المصرية التى ينبغى أن تتقيد بها المحاكم عند فصلها فى الدعاوى المعروضة عليها . وذلك وفقاً لنص المادة رقم ٩٣ من الدستور التى تنص على أنه : ﺗﻠﺘﺰﻡ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺑﺎﻻﺗﻔﺎﻗﻴﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﻬﻮﺩ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﺛﻴﻖ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻟﺤﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪﻕ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺼﺮ ، ﻭﺗﺼﺒﺢ ﻟﻬﺎ ﻗﻮﺓ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﺑﻌﺪ ﻧﺸﺮﻫﺎ ﻭﻓﻘﺎً ﻟﻸﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻤﻘﺮﺭﺓ .
- - - - -
وبالتالى إذا طبقنا مفهوم العدالة الشاملة على قضية قتل المتظاهرين ، فإنه يتعين على محكمة النقض باعتبارها ستصبح محكمة الموضوع فى حال قبول الطعن فى هذه القضية ، أن تستخدم الحق المقرر لها بموجب المادتين رقم ١١ و ١٢ من قانون الإجراءات الجنائية ، والذى يخول لها إقامة الدعوى الجنائية ضد فاعلبن أصليين فى جرائم قتل المتظاهرين ، فلا يعقل واقعاً أو قانوناً أن تعجز أرفع سلطة قضائية عن تحديد أولئك المتهمين ، سواء أكانوا من جهاز الشرطة أم من عناصر أجنبية كما إدعى رموز النظام الأسبق فى شهاداتهم المنحازة بحكم المنطق للنظام . ولعله من غير المقبول التذرع باختفاء أى أدلة تشير إلى أى فاعلين أصليين ، دون أن تتدارك المحكمة ذلك من خلال الاضطلاع بمهمتها فى توجيه الاتهام إلى كل من : المتسبب فى إخفاء هذه الأدلة أو إتلافها ، والمتورط فى اصطناع أدلة براءة مختلقة ، والمغرض الذى ألصق بشهادته معلومات مرسلة لا تدخل إلا تحت بند لغو الحديث ونظريات المؤامرة .
وبنفس المنطق ، إذا طبقنا مبدأ تجريم الامتناع على قضية قتل المتظاهرين ، فإن محكمة النقض يمكن لها تعديل وصف الاتهام لمبارك ووزير داخليته وقيادات الشرطة من خلال اتهامهم بالامتناع عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تعريض المتظاهرين للخطر ، باعتبار الامتناع أحد صور الاشتراك الجنائي بالمساعدة أو باعتبار أن ذلك الامتناع بوصفه جريمة طبقاً لنص المادة ١٢٤ عقوبات قد ارتبطت به جرائم أخرى .
ولعل المدخل القضائى الواجب الاتباع لوضع قضية قتل المتظاهرين فى إطارها القانونى السليم ، يتمثل فى الانطلاق من فرضية مشروعية التظاهرات التى اندلعت منذ ٢٥ يناير وما بعدها باعتبارها تعبير جماهيرى عن ثورة شعبية عادلة ضد نظام سياسى فاشل فاسد مستبد ، ومن ثم فإن امتناع رئيس الجمهورية أو وزير داخليته أو القيادات الأمنية عن اتخاذ التدابير التى تحول دون حدوث مواجهة بين الجماهير الحاشدة الغاضبة وبين قوات الشرطة ؛ هذا الامتناع هو الذى سمح لهذه القوات باستخدام الصلاحيات التى كانت مخولة لها آنذاك بموجب المادة رقم ١٠٢ من قانون الشرطة ، والتى تجيز لأجهزة الأمن استخدام السلاح لفض التجمهر أو التظاهر الذى يحدث من خمسة أشخاص على الأقل إذا عرض الأمن العام للخطر .
ومن ثم فإن هذا الامتناع من القيادة السياسية والقيادات الأمنية - عن اتخاذ هذه التدابير الحامية للمواطنين السلميين  - كان هو السبب الرئيسى الذى أدى إلى وضع قوات الشرطة فى وضعية المدافع عن نظام فاشل فاسد مستبد تسبب بسياساته الفاشلة إلى تعريض الأمن العام للخطر ؛ مما جعل هذه القوات تشتبك فى مواجهة عبثية مع حشود غفيرة من المواطنين السلميين ، الغاضبين بمنطق الثورة والمطالبة بالشرعية المستلبة وليس بمنطق الانقلاب على الدولة ومؤسساتها .
ولعل السؤال الذى يثور فى هذا الشأن يتمثل فى الآتى : وهل كان يمكن لقوات الشرطة يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ اتخاذ وضعية حماية التظاهرات بدلاً من محاولة فضها ؟
ولعل الإجابة الفورية مفادها بأنه : نعم وألف نعم ، كان يمكن لقوات الشرطة اتخاذ موقف حماية التظاهرات مثلما فعلت بكل شرف ووطنية فى مواجهة الحشود الجماهيرية يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وما بعدها ، حتى إسقاط حكم جماعة الإخوان الإرهابية .
ولعل هذا التصور الواقعى للمراكز القانونية لكافة الأطراف يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ ، هو التصور الذى غاب على النيابة العامة وهيئة المحكمة أن تتبنياه لتستقيم أركان المحاكمة ، فإذا بها تدور فى متاهات عبثية بحثاً عن أوامر شفهية أو كتابية صدرت بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين لإثبات تهمة الاشتراك بالتحريض ، بينما كان يجب عليهما - أى المحكمة والنيابة - أن تنشغلا بممارسات أجهزة الأمن على الأرض التى بدﻻً من أن تبادر إلى حماية التظاهرات الحاشدة بجماهيرها الغفيرة ، فإذا بها كانت تستهدف تفريقها وإرهاب المشاركين فيها لمنع وصولهم للميادين ، مما أدى إلى تحويل الفاعليات السلمية إلى محرقة تفتك بالمتظاهرين وقوات الشرطة معاً .  
إن بيروقراطية .. الأوراق العاجزة ، هى التى سمحت لمبارك ووزير داخليته وقيادات الشرطة باقتناص البراءة ، وبدلاً من أن تبادر هيئة المحاكمة إلى ممارسة الدور المقرر لها بموجب المادة رقم ١١ من قانون الإجراءات الجنائية لتعالج عجز الأوراق القاصر عن توجيه الاتهام لفاعل أصلى واحد ، أو لتتدارك عدم تبنى قرار الإحالة لمبدأ تجريم الامتناع ، إذا بها تستجيب لشعائر البيروقراطية العتيدة وتشغل وقتها وتستنفذ جهدها فى أرشفة أوراق الدعوى التى بلغت ١٦٠ ألف ورقة تخلو جميعها من توجيه أسهم الاتهام إلى فاعل أصلى واحد . وإمعاناً فى الافتتان ببيروقراطية الأوراق يتم تسطير حيثيات حكم البراءة للجميع فى ١٤٠٠ صفحة وتسطير ملخصه المرسل لوسائل الإعلام فى ٢٨٠ صفحة !!!
حان الوقت إذن للسلطة القضائية فى مصر لكى تواجه محنتها ، فالقضاء الذى أصبح مستقلاً تماماً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية بحكم نصوص دستور ٢٠١٤ ، ليس هو بأى حال من الأحوال القضاء المكبل بقيود البيروقراطية التى تنزل به من علياء الرسالة السامية إلى دهاليز الوظيفة الروتينية .
حان الوقت إذن .. لأن تتحول محنة القضاء إلى نعمة ، فتدفع عن هذا البلد بمواطنيه لعنة الدماء التى ستظل معلقة فى رقابنا جميعاً ودون استثناء ..... إلى أن يتم القصاص .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
               

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق