ثقافة
التعصب والكراهية ( 2/2 )
التسامح
المفقود .. في المنطقة العربية
بقلم دكتور / محمد محفوظ
نشر : يونيو 2007
يدل انتشار ثقافة التعصب والكراهية في أى مجتمع على فقدان هذا المجتمع لثقافة التسامح . ويعتبر التسامح قيمة
سياسية عليا في النظم الديمقراطية , ومبدأ ليبرالى هام تتأسس بموجبه قدرة المجتمع على تحمل عبء الممارسة الديمقراطية . وقد يتعجب
البعض لوصف الممارسة الديمقراطية بالعبء , ولكن الواقع يؤكد بأن الحكومات
المستبدة تحكم شعوبها بكل استسهال وإهمال - وبدون أية أعباء - باستخدام عصا
القمع و الطغيان , وتمرر سياساتها غير الرشيدة دون أن تعبأ بأية معارضة , لأن مسوغ
البقاء في السلطة يعتمد على القوة والقهر . وذلك بخلاف الحكومات الديمقراطية
التى تكابد أعباء الممارسة الديمقراطية ,
ويعتمد بقاءها في السلطة على الرضى العام للجماهير , وبالتالى تمارس تلك الحكومات عملية مستمرة
من العرض والشرح والتبرير لسياساتها , وتخضع لحساب يومى مستمر من السلطات الأخرى ومن المؤسسات الإعلامية ومن منظمات
المجتمع المدنى . ولهذا تهتز دائماً المقاعد بالزعماء في الدول الديمقراطية ,
نتيجة الزلازل البرلمانية والرياح الإعلامية والمظاهرات الشعبية . بينما تستقر
مقاعد الزعماء في الدول المستبدة وكأنها خارج إطار الزمان والمكان والأحداث ,
لأنها مثبتة إلى الأرض بسلطان الخوف وأوتاد الطغيان .
ولكن التسامح الذى نتحدث عليه , ليس هو التسامح - فقط - بمعناه اللغوى الذى يعنى القدرة على
العفو والتعامل بود أو ما يسمى في تعبيراتنا
الشعبية ( الطِيبَة ) . وإنما يمتد التسامح - في المعنى السياسى - إلى قدرة المجتمع على إدارة الاختلاف واحتواء
التنوع . ذلك الاختلاف الذى هو أمر لازم
في كل مجتمع على وجه الأرض , لأنه سنة الله في الخلق . لهذا تتوجه كافة القوى
السياسية في المجتمعات الديمقراطية بأفكارها وبرامجها المختلفة إلى الجماهير , ومن خلال صناديق الاقتراع في العملية الانتخابية تكشف الجماهير عن اختياراتها . وبالتالى
تحترم النظم الديمقراطية ثقافة التسامح , لأنها توفر المناخ الذى يتيح لكل
الاتجاهات السياسية التعبير عن توجهاتها , مما يُجنب المجتمع أية احتقانات نتيجة
محاصرة بعض الأفكار أو عزلها .
وتشير ثقافة التسامح إلى مبدأ هام , مفاده أنه لا يجوز التعامل مع الأفكار باعتبارها
تجسيداً لأصحابها , وإنما ينبغى عزل الأفكار عن أصحابها , حتى لا يتم إقصاء الآخر
المختلف , و يتحول المجتمع إلى ساحة
للقتال والشقاق , أو إلى جزر معزولة
تستقل كل منها بتوجهاتها الفكرية . ومن هنا كانت ثقافة التسامح هى حصن الأمان
لدعم قدرة المجتمع على إدارة الاختلاف , والتعامل مع الأفكار المتنوعة بالحوار والجدل و النقاش الحر .
وللأسف فإن المنطقة العربية تفتقر افتقاراً شديداً إلى
ثقافة التسامح , وتروج مؤسساتها التعليمية والدينية والإعلامية والسياسية - دون كلل أو ملل - لثقافة التعصب والكراهية والغل الأسود . ولذلك تتملكنى الدهشة الشديدة عندما أرصد
الحيرة التى يقع فيها أغلب المحللين العرب
عند تصديهم لتحليل النزاعات المزمنة في المنطقة , ويدفعهم الفشل في كشف الأسباب
الحقيقية لهذه النزاعات , إلى تعليق الأمر
كله على شماعة نظرية المؤامرة . وذلك رغم وضوح السبب الحقيقى مثل
وضوح الشمس , والذى يتمثل في غياب ثقافة التسامح في المجتمعات العربية , مما يؤدى
إلى عدم القدرة على إدارة الاختلاف واحتواء التنوع , وبالتالى يتم الانزلاق إلى العنف والقوة والسلاح والسب والشتم والاتهام بالعمالة والخيانة والخروج على ثوابت الأمة والدين والهوية .. إلى آخر قائمة الاتهامات الرخيصة والافتراءات الدنيئة . ويتحول المجتمع بذلك إلى جماعات متحاربة وفرق متصارعة على
مذبح الكراهية والتعصب . ولننظر إلى
النزاعات في لبنان ( تجمع 14 آذار ضد حزب الله ) وفلسطين ( فتح ضد حماس ) والعراق ( السنة ضد الشيعة ) والصومال (
الحكومة ضد المقاومة الإسلامية ) ودارفور ( العرب ضد الأفارقة ) , لندرك بأنها نزاعات لا يمكن أن تصل إلى
أية نتيجة من خلال الحوار , لأنه حوار محكوم عليه بالفشل لافتقاره إلى عنصر هام , وهو ثقافة التسامح , التى تُرسِّخ
إدارة الاختلاف وتحترم النقاش والجدل
كسبيل متحضر لحل الخلافات بين أبناء
المجتمع الواحد .
لقد فقدت المنطقة العربية قدرتها على إدارة الاختلاف ,
عندما سلمت منابرها الإعلامية والثقافية لدعاة التعصب والكراهية والغل الأسود ,
من أجل حشد الجماهير ضد إسرائيل أو أمريكا أو الغرب . وبالتالى تم تغذية الجماهير
وإرضاعها ليل نهار بثقافة الكراهية . فأصبح الاعتدال هو الاستثناء بينما أصبح التطرف
هو الأصل , رغم أن المجتمعات الطبيعية هى التى يصبح المتعصبون فيها هم الأقلية - و
ليس العكس - وإلا أصبح هذا نذير خطر يقود
المجتمع نحو الانزلاق لصراعات عبثية مزمنة
سواء أكانت داخلية أم خارجية .
ولعل دروس التاريخ تؤكد لنا بأن ثقافة الكراهية والتعصب لا تحل النزاعات بل تعقدها , ولنضرب مثلاً بالنزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية
واليابان إبان الحرب العالمية الثانية . فاليابان هى الدولة الوحيدة على وجه
الأرض التى تم قصفها بقنبلتين ذريتين , مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين
في لمح البصر , غير مئات الآلاف من المصابين والمشوهين . ولعل هذا القصف
الأمريكى , كان يمكن أن يكون المبرر الأكبر لكى ينزلق الشعب اليابانى خلف دعاة
الكراهية والتعصب , من أجل الانتقام والقصاص لدماء المدنيين الأبرياء . ولكن
الشعب اليابانى نبذ التعصب و الكراهية , واختار طريق العقل والحكمة وبناء الذات
, بدلاً من طريق الهوس بتدمير العدو . وبالتالى حققت اليابان بقوتها الاقتصادية ما كانت ستعجز عن تحقيقه بالقوة العسكرية , ألا و هو احترام و تقدير العالم أجمع .
ولعل ما سبق يوضح أن أى نزاع مهما تفاقمت آثاره المادية
أو طال مداه الزمنى , فإنه يمكن أن يصل إلى منتهاه , لو تم التعاطى معه بعيداً عن
ثقافة التعصب والكراهية . والمنطق الرشيد يقرر بأن النزاع العربى الإسرائيلى ليس
استثناءً من هذه القاعدة .
إن تبنى ثقافة التسامح هو السبيل لكى تخرج هذه المنطقة
البائسة من أزماتها , وتودع أحزانها , وتعالج
جنون الكراهية وتشنجات التعصب وهلاوس الغل الأسود , بوقار الاعتدال وتجليات
التعددية وفتوحات الديمقراطية .
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق