14 سبتمبر 2013

اليمين التقدمى واليسار المحافظ

اليمين التقدمى و اليسار المحافظ
 ميلاد توجهات سياسية جديدة
تطور التحالفات الدولية من الانتماء السياسى إلى التوجه السياسى فى عصر ما بعد 11 سبتمبر

نشر : أكنوبر 2004 ـ ويناير 2006 ـ ونوفمبر 2008

                                                                                    دكتور / محمد محفوظ

 تشتبك الرؤى السياسية وتتقاطع عند محاولة تصنيف القوى المؤيدة والمعارضة لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين , حيث تطفو الكثير من علامات التعجب التى تنبع من واقع تحليل التحالفات المؤيدة أو المعارضة لهذه الحرب .
فواقع التحالفات المؤيدة للحرب وضع  جورج بوش اليمينى الانتماء مع تونى بلير اليسارى الانتماء , حيث ينتمى الحزب الجمهورى الأمريكى إلى اليمين , فى حين ينتمى حزب العمال البريطانى الجديد إلى اليسار ( يسار الوسط ) .
كما أن واقع التحالفات وضع جاك شيراك ( الرئيس الفرنسى السابق ) اليمينى الانتماء مع جيرهارد شرودر ( المستشار الألمانى السابق ) اليسارى الانتماء , حيث ينتمى حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية الفرنسى إلى اليمين ( يمين الوسط ) , فى حين ينتمى الحزب الاشتراكى الألمانى إلى اليسار .
فكيف تحالف اليمين مع اليسار فى قضايا تندرج تحت وصف القضايا الاستراتيجية المتعلقة بالأيدلوجية السياسية المتناقضة لكل منهما .
ولعل التحليل المنطقى لهذه التحالفات المتعارضة الانتماء والأيدلوجيات , يوضح بأنه فى ظل المراحل التاريخية الانتقالية الممتدة ما بين عصرين , تبرز ملامح المأزق الفكرى الذى تشتبك فى خيوطه القوى السياسية بمختلف أطيافها , فيتعثر فيه من يتعثر ويفلت منه من يفلت .
و لعل ما نقصده بالمرحلة التاريخية الانتقالية مابين عصرين .. يتمثل فى المرحلة التاريخية الحالية التى يعيشها العالم والتى تفصل ما بين عصرين .. عصر ما قبل أحداث 11 سبتمبر وما قبل الحرب على الإرهاب . وعصر ما بعد أحداث 11 سبتمبر و بداية الحرب على الإرهاب .... تلك الأحداث التى ما كان لها أن تقع إلا فى ظل عصر العولمة , بما أتاحه من بنية شبكية مواصلاتية اتصالاتية معلوماتية إعلامية تكنولوجية , وفرت للإرهاب الدولى فرصة غير مسبوقة لكى يضرب فى أى مكان من العالم وبأقصى درجة من درجات التدمير .
بينما نقصد بالمأزق الفكرى . الإشكالية التى تتضح عند محاولة الاختيار بين منظومتين من الأفكار ..  إحداهما تنتمى إلى العصر السابق على هذه الأحداث , والأخرى تنتمى إلى العصر اللاحق عليها . حيث تتجه بعض القوى السياسية إلى المنظومة الفكرية السائدة المستقرة لمواجهة قضايا جديدة يضطرم بها عصر جديد .. بينما تطرح قوى سياسية أخرى منظومة فكرية مستحدثة لمواجهة قضايا غير مسبوقة يطرحها ذلك العصر الجديد .

عندئذ تصبح القوى التى تلوذ بالمنظومة الفكرية المستقرة قد اختارت التوجه نحو التيار ( المحافظ ) الذى يؤمن بضرورة الحفاظ على استقرار الأوضاع كما هى لعدم تقبله لبزوغ واقع جديد يحتاج إلى فكر جديد . بينما تصبح القوى التى تطرح منظومة فكرية مستحدثة قد اختارت التوجه نحو التيار ( التقدمى ) الذى تتملكه رغبة حثيثة فى التغيير للتواؤم مع الواقع الجديد . و ذلك انطلاقاً من أن ( المحافظة ) تعنى تبنى نهجاً محترساً تجاه التغيير الاجتماعى والاقتصادى والسياسى , فيما تعنى ( التقدمية ) تبنى نهجاً متحمساً تجاه التغيير الشامل لكل شئ .
وتاريخياً .. فقد ارتبط التوجه المحافظ باليمين .. بينما ارتبط التوجه التقدمى باليسار . حيث كان اليسار يطرح – غالباً - أفكاراً متجددة متمردة تدعو لتغيير البنية المستقرة التى أسسها اليمين الرأسمالى أو اليمين الأصولى للحفاظ على استمرارية الأوضاع والسياسات والتحالفات الداعمة لوجودهما .
            ورغم أن انهيار المعسكر الاشتراكى المرتبط بالاتحاد السوفيتى السابق قد كشف النقاب عن زيف الكثير من الشعارات التقدمية لليسار , وسقوطه فى دائرة جهنمية للرجعية والاستبداد  و التخلف أطاحت بإمبراطورية الاشتراكية فى العالم فى غمضة عين . رغم ذلك .. فإن اليسار كان يلوذ دائماً بالتقدمية لكى يتدثر بأثواب الشرعية , فى مواجهة كل من اليمين الرأسمالى الديمقراطى المتقدم عسكرياً و سياسياً و اقتصادياً , أو اليمين الأصولى المدغدغ لمشاعر الجماهير الدينية .
و لكن يبدو أن الواقع السياسى الحالى يبشر بعصر جديد و يبشر برياح فكرية جديدة تتلاءم مع منطلقات هذا العصر .. وهذه المنطلقات تتلخص فى عدة تساؤلات بسيطة و لكنها عميقة عمق المأزق الفكرى الراهن فيما بين عصرين .. و هذه التساؤلات هى :
-     هل ميثاق الأمم المتحدة بنصوصه الراهنة فى سبيل حمايته لمبدأ سيادة الدولة يؤدى إلى إعاقة حق الشعوب المقهورة فى التحول نحو الديمقراطية بمساعدة خارجية ؟
-         هل الإصلاح الديمقراطى أصبح جبهة خلفية لا غنى عنها فى الحرب على الإرهاب ؟
-     هل يتحمل الضمير العالمى استمرار وجود بؤر سوداء على سطح العالم مازالت شعوبها  تعانى من ويلات الاستبداد والقهر والتعصب والفساد وما يستتبعهما من فقر وجهل وعنف ومرض ؟
-     هل يجوز للمجتمع الدولى استخدام القوة العسكرية أو أية أساليب أخرى لإجبار النظم الاستبدادية على التحول الديمقراطى ؟
-     هل تصلح نصوص ومبادئ الاتفاقيات الدولية الحالية الخاصة بحقوق الإنسان فى السلم والحرب للتعامل مع مخاطر غير مألوفة يفرضها تنامى كارثة العمليات الإرهابية الانتحارية ؟
-     هل الأفضل للعالم وجود قطب واحد ديمقراطى أم وجود قطبين أحدهما ديمقراطى والآخر استبدادى ؟
-     هل انتهت استراتيجية الصديق الطاغية التى كانت سائدة إبان الحرب الباردة لتحل محلها استراتيجية الصديق الديمقراطى ؟
-     هل يصبح من المشروع انتهاج استراتيجية الحروب الاستباقية فى مواجهة المخاطر الكارثية المتوقعة لاحتمال وقوع أسلحة الدمار الشامل فى أيدى الجماعات الإرهابية ؟

.. و تمثل هذه التساؤلات  - كمثال – شريط اختبار , يمكن من خلاله تمييز التوجه المحافظ من التوجه التقدمى . حيث يتعامل التوجه المحافظ مع هذه التساؤلات وكأنه لا يراها ؛ وإن رآها فإنه يراها من منظور ما قبل أحداث 11 سبتمبر . بينما يتعامل معها التوجه التقدمى باعتبارها قضايا مصيرية يتحدد على أساسها مستقبل العالم ومدى استقراره , بل ومدى استمرار الحضارة الإنسانية ذاتها .
.. وانطلاقاً من هذا التحليل , يمكن إذن أن نفهم دواعى التحالف الذى كان بين تونى بلير اليسارى مع جورج بوش اليمينى .. حيث كان بلير يمثل اليسار التقدمى فيما يمثل بوش اليمين التقدمى ( وربما ستمثل هذه مفارقة لدعاة كراهية أمريكا ) , وبالتالى حل التوجه السياسى محل الانتماء السياسى ليقود التحالف بين كل من فصيل اليسار وفصيل اليمين التقدميين المتمردين على الأوضاع الدولية الراهنة .
وبنفس المنطق نفهم دواعى التحالف الذى كان بين شيراك اليمينى و شرودر اليسارى , حيث كان شيراك يمثل اليمين المحافظ فيما كان شرودر يمثل اليسار المحافظ , وبالتالى حل التوجه السياسى محل الانتماء السياسى ليقود التحالف بين فصيل اليسار وفصيل اليمين المحافظين القانعين بالأوضاع الدولية الراهنة .
ولعل اتجاه فصيل من اليسار لكى يصبح محافظاً ( اليسار الألمانى والأسبانى كمثال ) , واتجاه فصيل من اليمين لكى يصبح تقدمياً ( اليمين الأسبانى والإيطالى والأسترالى والأمريكى والألمانى ) أمر يمثل علامة فارقة ستحكم مصير كافة التحالفات والتحولات الدولية المستقبلية خلال القرن الواحد والعشرين . فالعالم الجديد يحتاج إلى فكر جديد , والتحديات غير المسبوقة تحتاج إلى إجراءات غير تقليدية , والتحدث ليل نهار عن العولمة دون إدخالها كفاعل جديد  ومتغير حاسم فى كافة القضايا العالمية الراهنة بمثابة طيران خارج السرب . وبالتالى .. فإن التعامل مع مبادئ السيادة  والهوية والخصوصية والقومية باعتبارها كيانات مقدسة تقف خارج إطار الزمان والمكان , بمثابة دعوة للانعزال والتقوقع والنصب على الشعوب المقهورة , لمجرد حماية أنظمة حكم مستبدة تتجرأ هى نفسها على كل المقدسات . كما أن البكاء على حقوق الإنسان فى مواجهة من استهانوا بحياتهم وحياة الإنسان , بمثابة دعوة لانقراض الإنسان .
لقد حل -  فى العالم الجديد -  التوجه السياسى محل الانتماء السياسى , وبالتالى أفرز اليمين فصيلاً تقدمياً تحالف مع اليسار التقدمى , وأفرز اليسار  فصيلاً محافظاً تحالف مع اليمين المحافظ .
 فلمن إذن سيكون المستقبل ؟  ..  لكل من بوش وساركوزى وميركل واليمين الإيطالى والأسترالي واليسار الانجليزى التقدمى وزعماء اليابان وكوريا الجنوبية ودول أوربا الشرقية الصاعدة , أم لكل من شافيز ونظام كاسترو  ونجاد والأسد ومشعل ونصرالله وزعماء كوريا الشمالية وبن لادن والظواهرى , وأتباعهم .
إن المستقبل سيحمل الرد , وعندها سنعرف ..  لمن إذن ستدق الأجراس .. ؟
***

                                                                 دكتور/ محمد محفوظ

                                                                                                  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق