بابا نويل والهدايا التى لا تجيئ
تاريخ النشر : 31 ديسمبر 2011
بقلم دكتور / محمد
محفوظ
عندما كنت طفلاً ؛ كان
والدى ووالدتى يقدمون لى الهدايا فى يوم الاحتفال برأس السنة الميلادية ؛ ويقولان
أن بابا نويل هو الذى أحضرها أثناء النوم .
كنت أرى بابا نويل فقط ؛ فى
التلفزيون وفى المحلات التجارية وحفلات المدارس والنوادى ؛ ببدلته الحمراء وذقنه
وحواجبه البيضاء وملامحه الطيبة وعربته الجليدية التى تجرها غزلان برية .
لكننى كنت أتمنى دائماً أن أرى
بابا نويل أثناء وضعه الهدايا لى بالمنزل فى آخر الليل ؛ لأقدم له الشكر وأعبِّر
له عن مدى حبى ؛ فقد كان دوماً يحضر الهدايا التى أريدها . لذلك كنت - كل عام -
أسأل أبى وأمى: كيف يعلم بابا نويل بالهدايا التى أريدها ؛ فيقولا لى : لأن بابا
نويل يعرف كل شئ . وكنت أسالهما : هل يوجد بابا نويل للكبار ؛ فكانا يجيبان بأن
الكبار ليسوا فى حاجة إلى بابا نويل ؛ لأنهم بعلمهم وعملهم يمكنهم الحصول على ما
يريدون .
ولكن مع مغادرتى لمرحلة
الطفولة ؛ بدأت الحيرة تنتابنى كلما تذكرت كلام أبى وأمى , فانا أرى أمامى الفقراء
والمرضى والتعساء والضائعين والبؤساء والمحتاجين والمسحوقين بمطالب الحياة .
فلماذا لم يحقق كل هؤلاء ما يريدون الحصول
عليه بالعلم والعمل ؟!!
ظل السؤال يداهمنى مع طيف
بابا نويل الذى كنت أتذكره مع مطلع كل عام ؛
ثم بدأت قراءاتى تقدم لى الإجابة السهلة التى تفسر كلام أبى وأمى ؛ وهى :
أن الكبار بالفعل يحصلون على ما يريدون بعلمهم وعملهم ؛ وبالتالى فمن يفشل فى تحصيل
العلم ويُقصِّر فى العمل ؛ فإنه لن يحصل بالضرورة على ما يريد .
ومرت الأعوام ؛ ولم تساهم
مشاهداتى لواقع الحياة وتجاربى داخل أيامها السوداء والبيضاء ؛ لم تساهم إلا فى
زيادة حيرتى .
فمع مرور الأعوام كنت أجد
أن واقع بعض الناس قد فاق بمراحل كثيرة جداً أشد أحلامهم جموحاً ؛ رغم أنهم لم
يكونوا يوماً ما من أهل العلم أو العمل . بينما أحلام البعض الآخر قد تكسرت وتحطمت
بلا رحمة تحت ضربات وصفعات ولكمات وركلات واقع أيامهم ؛ رغم كونهم من أهل العلم
والعمل والعزيمة .
كانت الحيرة تأكلنى ؛ وأنا
اسمع أم كلثوم تغنى قصيدة أحمد شوقى : ( وما نيل المطالب بالتمنى .. ولكن تؤخذ
الدنيا غلابا ) . ثم أسمعها تغنى قصيدة إبراهيم ناجى : ( ياحبيبى كل شئ بقضاء ..
ما بأيدينا خـُلقنا تعساء ) .
ثم بدأت الحيرة تأكلنى أكثر
؛ عندما بدأت أتطلع إلى ما هو أبعد من الأفراد لأقيس كل ماسبق على أحلام الشعوب
وواقعها .
وأخذت أسال ؛ هل ينطبق ذلك
أيضاً على أحلام الشعوب , بحيث أن الشعوب التى تملك العلم والعمل تحقق أحلامها ,
بينما الشعوب التى لا تمتلك هذا أو ذاك ترسف فى أغلالها .
وكان الأمر يلتبس علىّ
عندما أقرا كلمات ( أبى القاسم الشابي ) التى تقول :
( إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر ) .
ثم أقرأ كلمات ( أمل دنقل )
التى تقول :
( لا تحلموا بعالم سعيد .. فخلف كل قيصر يموت ؛ قيصر جديد ) .
وبالفعل ؛ فقد استجاب القدر
لعدد من الشعوب فانجلى ليلها وتكسرت قيودها ؛ ووضعت قدمها على طريق التقدم .
ولكن فى المقابل ؛ تحطمت
أحلام شعوب أخرى ؛ وما انتهى فيها حكم القيصر إلا ليتسلمه قيصر جديد ؛ ربما بهيئة
أخرى ؛ ولكنها تكفى لكى لا يتحقق الوطن السعيد .
لهذا ؛ كنت أسأل نفسى كلما
تبصرت فى تاريخ مصر المعاصر : هل امتلك ثوار يوليو عام 1952م العلم والعمل ؛ أكثر
من مصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس ؛ ومعهم مئات الآلاف من المصريين
الذين خرجوا فى المظاهرات الواحدة تلو الأخرى منذ ثورة 1919م وحتى 1952م ؛
للمطالبة بالاستقلال .
ربما لم يمتلك ثوار يوليو –
من وجهة نظري - أى علم ؛ فواقع حكمهم أثبت ومازال يثبت ذلك . وربما لم يبذلوا إلا
أقل العمل ؛ الذى أتى ثماره فى مجرد ليلة واحدة ( بل مجرد عدة ساعات من تلك الليلة ) , وبالتالى ما انتهى حكم
الملك على أيديهم ؛ إلا ليبدأ حكم العسكر بأيديهم .
فأين ذهبت إذن تضحيات
الآلاف والآلاف من المصريين , الذين امتلكوا العلم والعمل ؟؟ أين المنطق فى كل هذا
؟؟؟؟ لماذا لم تكن النتائج على قدر العلم والعمل ؟
وظلت حيرتى تلازمنى , كلما
تبصرت فى تجارب الناس والشعوب , إلى أن تعلق قلبى يوماً بقوله تعالى : ( .. وإنما تـُوَفـَّون أجوركم يوم
القيامة .. )[ آل عمران -185 ] .
زلزلتنى الآية التى وجدت
فيها الجواب على حيرتى العقلية , لأنها تؤكد بأن النتائج حتمية ؛ ولكنها ليست
بالضرورة فورية .
فالذين حصلوا على النتائج
بدون علم وعمل ؛ ولم يدفعوا ثمن ذلك فى الدنيا ؛ حتماً سيدفعونه فى الآخرة .
والذين غابت عنهم النتائج
رغم قيامهم بدفع الثمن بالعلم والعمل ؛ حتما سيحصلون عليها فى الآخرة .
النتائج حتمية ؛ ولكنها
ليست بالضرورة فورية .
لذلك قد تتصدع خططنا
العظيمة ؛ نتيجة محدودية علمنا بأن النتائج قد لا تتحقق بالضرورة خلال أعمارنا ,
ولذلك يؤدى استعجالنا الحصول على النتائج خلال أعمارنا إلى خطيئة التضحية بمبادئنا
وقيمنا , فنحيد عن طريق تحقيق أحلامنا العظيمة ؛ وبالتالى لا نجنى نتائجها وثمارها
سواء فى الدنيا أو الآخرة .
لهذا ؛ ينبغى علينا –
دائماً وأبداً - أن نفعل الصواب ؛ وحتماً سنحصل على الثواب ؛ ولكن ليس بالضرورة
الآن ؛ بل ربما غداً أو بعد بعد بعد غد ؛ أو سنحصل عليه فى الآخرة .
قد تكون النتائج الدنيوية
مؤجلة للأجيال القادمة ؛ ولكن حتماً سيكون لكل علم وعمل نتيجته فى الآخرة .
مصداقاً لقوله تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )[
الانشقاق - 6 ] .
فمن يكدح على طريق الله
ويخاصم التخاذل ؛ حتماً سيلاقى الجزاء والأجر . ولكن متى ؟ فإن هذا يدخل فى علم
الله .
فالإنسان مُخيَّر فى بذل
الجهد ؛ ولكنه مُسيَّر فى الحصول على جزاء هذا الجهد . لأن الإنسان ؛ مُخيَّر فيما
يعلم ؛ ومُسيَّر فيما لا يعلم .
وبالتالى ؛ علينا كشعوب
وأفراد أن نسير على طريق الصواب بالعلم والعمل , ونفعل الصواب وننشغل به ولا ننشغل
بالنتائج , لأن النتائج قادمة حتماً ولكنها ليست بأيدينا .
بينما فعل الصواب هو الذى
يحتاج إلى عنايتنا وانشغالنا ؛ لأنه لا يخرج إلى الوجود إلا بأيدينا .
النتائج حتمية ؛ ولكنها
ليست بالضرورة فورية .
----------
.. كانت الهدايا التى يقدمها بابا نويل فى أيام الطفولة ؛ لا تحتاج
إلى دفع أى ثمن للحصول عليها .
ولكن ؛ كل الهدايا التى
نحلم بها ونحن كبار ؛ لن يمكننا – غالباً - الحصول عليها كأفراد أو شعوب ؛ إلا بعد
دفع الثمن . ورغم أن هذا الثمن قد يكون باهظاً ؛ إلا أن ذلك لا ينفى إنه ؛ ربما
تكون النتائج ) أقصد الهدايا( ؛ مؤجلة ........
----------
بسم الله الرحمن الرحيم
( وعد الله لا يخلف الله
وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة
هم غافلون ) [ الروم - 6 / 7 ] .
صدق الله العظيم
دكتور / محمد
محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق