ديكور انتخابى .. اسمه
( اللجنة العليا للانتخابات )
تاريخ النشر : 8 نوفمبر 2010
بقلم دكتور / محمد
محفوظ
الحكومات المستبدة تأخد
باليسار ما تعطيه باليمين ، هذا هو المنهج الثابت المتبع . المادة رقم ( 76 ) من
الدستور مثال نموذجى لذلك المنهج، فقد تم التسويق لها باعتبارها الطريق نحو إجراء
انتخابات رئاسية تعددية بين مرشحين متعددين من كافة التيارات السياسية , وإذا بها
ما هى إلا تجميل للصورة القديمة للاستفتاء من خلال توفير ( سنيدة ) يمكنهم إضفاء
تعددية كاذبة على انتخابات محسومة النتيجة سلفاً .
نفس الأمر ينطبق على قانون
ضمان ديمقراطية النقابات المهنية الذى يتناقض اسمه مع الهدف منه، لأنه من خلال ذلك
القانون يتم فرض الحراسة على النقابات، فأى ضمانات ديمقراطية تلك التى تؤدى لفرض
الحراسة على التنظيمات النقابية المهنية .
وامتداداً لنفس المسلسل ,
فقد تم إنشاء ( اللجنة العليا للانتخابات ) ؛ بغرض معلن يهدف إلى وجود جهة مستقلة
عن السلطة التنفيذية تتولى الإشراف الكامل على كافة مجريات العملية الانتخابية .
وتم ذلك بموجب المادة رقم ( 88 ) من الدستور التى تعتبر من
وجهة نظر الفقه الدستورى ردة دستورية للوراء ، لأنها المادة التى أوجبت إجراء
الانتخابات على مستوى الجمهورية فى يوم واحد بدلاً من إجرائها على (
3 )
مراحل كما تم فى انتخابات 2005م , مما ترتب عليه إلغاء
الإشراف القضائى الكامل على الانتخابات والاكتفاء بوجود القضاة فى اللجان العامة
فقط , لعدم كفاية عددهم للإشراف على ما يزيد عن 40 ألف لجنة انتخابية فرعية فى يوم
واحد .
إذن هو بالضبط نفس المسلسل
, يتم إنشاء لجنة عليا للانتخابات باليد اليمنى ؛ ويتم إلغاء الإشراف القضائى
الكامل على الانتخابات باليد اليسرى .
وبالتالى يمكننا من خلال
نفس المنهج أن نتوقع بأن اللجنة العليا للانتخابات التى تم إنشائها بغرض إلغاء
الإشراف القضائى الكامل على الانتخابات ؛ لا يمكن بالضرورة أن تتمتع بالاستقلال أو
السلطة التى تخولها الهيمنة على كافة مراحل العملية الانتخابية.
وليس فيما نقوله محاولة
للتقليل من شان اللجنة , لأن الواقع هو الذى يؤكد بأنها وبكل الأسف وُلدت عاجزة،
لا تملك من أمر الانتخابات شيئاً . فالتنظيم الهيكلى والبنائى والتشريعى والإدارى
والاقتصادى للجنة العليا للانتخابات هو الذى يؤكد ذلك .
وتعالوا معاً نفحص كل بند
من هذه البنود كالآتى :
- على مستوى التنظيم
الهيكلى :
فإن هيكل اللجنة العليا
للانتخابات قد وُلد مشوهاً ؛ لأنه يجعل اللجنة تبدو من الناحية الشكلية ( فقط )
وكأنها جهة مستقلة ضمن هياكل سلطات الدولة ؛ حيث يتمتع أعضاءها بنفس الحصانة التى
يتمتع بها أعضاء السلطة التشريعية ؛ بحيث لا يجوز اتخاذ أية إجراءات جنائية ضدهم -
ما عدا فى حالة التلبس - إلا بموجب إذن من اللجنة ذاتها . كما أن تشكيل اللجنة الاساسى
- الذى يملك أعضاؤه حق التصويت لإصدار القرارات - يخلو من أى ممثلين للسلطة
التنفيذية , حيث تتكون اللجنة من ( 11 ) عضو كالتالى : رئيس اللجنة
( بحكم منصبه ) هو رئيس محكمة استئناف
القاهرة , و عدد ( 3 ) من أعضاء الهيئات القضائية الحاليين بحكم
مناصبهم ( رئيس محكمة استئناف الإسكندرية - أحد نواب رئيس محكمة النقض - أحد نواب رئيس مجلس الدولة ) ، و عدد
( 7 ) أعضاء يختارهم مجلسى الشعب والشورى، منهم
( 3 ) من أعضاء الهيئات القضائية السابقين ؛ و (
4 ) من
الشخصيات العامة المشهود لهم بالحياد ومن غير المنتمين للأحزاب السياسية .
إلا أن نفس المنهج المتبع
للأخذ باليسار لما تم منحه باليمين ؛ يبرز مرة أخرى ، ولذلك يلتصق بالهيكل المستقل
للجنة العليا للانتخابات ورم سرطانى اسمه ( الأمانة العامة للجنة العليا
للانتخابات ) ؛ يرأسها مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائى ؛ ويتكون أعضاءها
من عدد كاف من بين العاملين فى الدولة من بينهم ممثل لوزارة الداخلية
!!!!
وبالتالى ؛ فإن الذراع
التنفيذى للجنة العليا للانتخابات هو كيان حكومى صرف , باعتبار أن رئيسها يشغل
منصب حكومى ( مساعد وزير العدل ) ؛ وأعضاءها من العاملين بالدولة ؛ ناهيك عن ممثل
وزارة الداخلية .
إذن نحن أمام لجنة مستقلة
فى قرارها وحصانة أعضاءها ؛ ولكن ذراعها التنفيذى حكومى مائة بالمائة ومربوط بكلابشات فى رقبة الدولة .
- على مستوى التنظيم البنائى :
فإن بنية اللجنة من خلال
الصفات الوظيفية أو الشخصية لأعضائها ؛ تضيف إلى أسباب العجز بها سبباً جديداً
يعيقها عن ممارسة دورها . فاختيار رئيس محكمة استئناف القاهرة
بحكم منصبه ليكون رئيساً للجنة العليا للانتخابات ؛ يؤدى إلى أن تصبح اللجنة مجرد (
ميراث ) لشاغل ذلك المنصب القضائى وليست عملا أصيلاً له . كما إن ذلك يؤدى إلى عدم
وجود فترة معلومة لمدة رئاسة اللجنة ؛ والمثال على ذلك أن رئيس اللجنة الحالى
المستشار / السيد عبد العزيز عمر ؛ تولى رئاسة اللجنة بحكم
منصبه منذ شهر واحد فقط - أى قبل شهرين فقط من
انتخابات مجلس الشعب لعام 2010م - وسيغادرها لخروجه على
المعاش فى سبتمبر القادم 2011م .
ونفس الأمر ينطبق على كافة
أعضاء اللجنة من القضاة الحاليين ؛ باعتبار أن وجودهم فى اللجنة هو وجود على هامش
وظائفهم ووجود طارئ , لا يتم بموجبه بناء أى خبرة تراكمية تتعلق بالعملية
الانتخابية . وللأسف فإن كافة المناصب القضائية التى
تتيح لشاغليها أن يصبحوا أعضاء باللجنة العليا للانتخابات ؛ هى مناصب يتم شغلها
بالأقدمية المطلقة ؛ دونما أى اعتبار للكفاءة . وبالتالى فإن أعضاء اللجنة من
القضاة الحاليين - مع تقديرنا لمناصبهم وشخصهم - إلا أنهم لا يمتلكون أى
كفاءة خاصة تتيح لهم تبوأ مثل ذلك المنصب الحيوى والحساس .
أما أعضاء اللجنة من
الشخصيات العامة ؛ فإن الغريب والمثير للدهشة أن القانون أوجب أن يكونوا من غير
المنضمين للأحزاب . ولعل الواقع يؤكد بأن عدم الانتماء
للأحزاب هو فى حد ذاته دلالة على عدم الاهتمام بالشأن السياسى ؛ أو دلالة على
الانتماء إلى تيار المستقلين , وكلا الأمرين يجعلا من هؤلاء الأعضاء بمثابة شخصيات
عامة أبعد ما تكون صالحة لعضوية اللجنة العليا للانتخابات . ولعل العكس كان الذى يجب أن
يكون ؛ وهو أن تشكيل اللجنة ينبغى أن يضم ممثلين عن كافة الأحزاب والتيارات
السياسية , بالإضافة إلى أن تكون عضوية اللجنة هى الوظيفة الوحيدة التى يُكلف بها
صاحبها طوال مدة العضوية .
إذن التنظيم البنائى للجنة
العليا للانتخابات تنظيم معيب ؛ لأن الجهات المعنية بالانتخابات وهى الأحزاب
والتيارات السياسية غير ممثلة بها ؛ ولان أعضاءها غير متفرغين أو غير مؤهلين
لأعمالها ؛ كما إنهم غير مسيسين بما يكفل لهم إدارة ورقابة أهم نشاط سياسى فى أى
نظام ديمقراطى وهو : ( الانتخابات
).
- على مستوى التنظيم
التشريعى :
فإن قانون مباشرة الحقوق
السياسية الذى يوجد فيه باب كامل يتعلق باللجنة العليا للانتخابات ؛ هو نفسه ذات
القانون الذى يكفل لوزارة الداخلية الهيمنة الكاملة على إجراءات القيد بجداول
الناخبين وتنقيتها والطعن عليها . ورغم أن القانون ينص على أن اللجنة العليا
للانتخابات هى التى تضع القواعد الخاصة بإعداد جداول الناخبين ومحتوياتها وطريقة
مراجعتها وتنقيتها وتحديثها ومتابعة ذلك , إلا أن عدم وجود تلك الجداول فى حوزتها
وعدم مسئوليتها عن مباشرة الإجراءات المتعلقة بها ؛ يجعل تلك القواعد مجرد حبر على
ورق .
ولعل أكبر دليل على ذلك هو
أن طلبات القيد فى جداول الناخبين مازال يتم تقديمها إلى لجان مقرها أقسام الشرطة
؛ وتلك اللجان برئاسة مأمور قسم الشرطة وعضوية موظفين من ذات القسم أو مديرية
الأمن ؛ ولا وجود لأى تمثيل للجنة العليا للانتخابات داخل تلك اللجان . أيضاً فإن
الطعون على جداول الناخبين يتم تقديمها لمدير أمن المحافظة ؛ وتفصل فى تلك الطعون
لجنة ليس من بين أعضاءها أى ممثل للجنة العليا للانتخابات .
بل إن الأخطر من كل ذلك ؛
أن شهادة الانتخاب الوردية التى يقدمها الناخب عند التصويت لإثبات قيده فى جداول
الناخبين ، هى شهادة معنونة باسم
: وزارة الداخلية ؛ ولا وجود
لأى ذكر لاسم اللجنة العليا للانتخابات عليها
.
أما الأمر المضحك المبكى فى
ذات الوقت ؛ فهو أن اللجنه المسئولة عن وضع قواعد إعداد جداول الناخبين ؛ لم تكلف
نفسها بذل أى عناء للمطالبة بتنظيم تصويت المصريين المقيمين بالخارج ؛ خصوصاً أن
القانون لم يمنع ذلك ، فضلاً عن إنها باعتبارها الحريصة على تمثيل جداول الناخبين
لكل المصريين ؛ لم تتحرج بشأن شبهة عدم الدستورية المتعلقة بالمواد الثلاث الأولى
من قانون مباشرة الحقوق السياسية نظراً لمنعها لكل من ضباط وأفراد الشرطة والجيش
والمحكوم عليهم ونزلاء السجون والمشهر إفلاسهم من حق التصويت الانتخابى , رغم أن
كل دول العالم المتقدم تتيح لكل تلك الفئات حق التصويت .
أما
الأمر الذى يثير الجنون فهو أن السيد المستشار رئيس اللجنة العليا للانتخابات
عندما سُئل في حوار صحفى مع جريدة الوفد بتاريخ 29 أكتوبر 2010م ؛ عن عدد الناخبين
الذين سيشاركون في التصويت بانتخابات مجلس الشعب فقد أجاب بالنص التالى : ( لا
أعلم , وعندى معلومة غير مؤكدة – كما قيل – بأن عددهم نحو 42 مليون ناخب , ولكن
هذا الرقم غير مؤكد ) . انتهى كلام السيد المستشار ؛ ولا تعليق .
إنه إذن لا تنظيم تشريعى ( تخريب تشريعى متعمد ) لتقزيم اللجنة العليا
للانتخابات , بحيث لا تحمل أى قدر من العلو إلا من اسمها فقط ؛ بينما الواقع
التشريعى يهبط بها إلى درجات سحيقة على سلم المسئولية المجردة تماما من السلطة .
- على مستوى التنظيم الإدارى :
وهو المستوى الذى يتعلق
بتقسيم العمل وفقاً لمدى النشاط ونوعيته . فإننا نجد أنفسنا أمام كيان مركزى اسمه
اللجنة العليا للانتخابات ؛ ولكن لا توجد أسفل منه أى تنظيمات فرعية تابعة له على
مستوى المحافظات لكى تباشر مهامه ؛ ولا توجد أى تنظيمات رقابية تابعة له للتأكد من
الالتزام بتكليفاته .
ويكفى أن اللجنة لا تملك
خلال يوم الانتخاب ذاته أى كوادر تابعة لها لتمثيلها داخل اللجان الانتخابية ؛ بل
إن اللجنة فى قرارها الأول الخاص بتنظيم قواعد العمل بها ومباشرتها لاختصاصاتها ؛
نصت فى المادة رقم ( 22 ) من هذا القرار على تشكيل
لجان لمتابعة سير الانتخابات يكون مقرها دوائر المحاكم الابتدائية بالمحافظات
وتتكون من أعضاء من الهيئات القضائية بتلك المحاكم . وبالتالى فإن ممثلى اللجنة
خلال يوم الانتخابات لا ينتمون إليها وغير معنيين أصلاً بأعمالها بل هى عبء إضافى
عليهم , ومقر تواجدهم يكون فى المحكمة بعيداً عن اللجان الانتخابية . وبالطبع لو
كان لهذا التمثيل الرقابى المزعوم أى اثر لما حدثت مهزلة انتخابات مجلس الشورى
الأخيرة بهذه السهولة وذلك اليسر .
وكان يمكن للجنة أن تتجاوز
أمر إنشاء مقرات لها بالمحافظات ؛ لو أنشأت موقعاً لها على شبكة الإنترنت , بحيث
تكون موجودة إلكترونياً فى كل مكان . ولكن حتى الآن لا يوجد موقع للجنة العليا
للانتخابات عل الانترنت, وهو أمر غريب ويثير الكثير من التساؤل والدهشة والاستغراب
.
ولكن إذا فرضنا وتم إنشاء
الموقع الإلكترونى للجنة , فإنه لا يجب أن يكون موقع ديكورى هو الآخر ؛ يتضمن نص
قانون مباشرة الحقوق السياسية , والاختصاصات المنوطة باللجنة ؛ إلى آخر تلك
المعلومات المتاحة على آلاف المواقع الأخرى . بل يجب أن يضم الموقع عرض قاعدة
بيانات متكاملة لجداول الناخبين , يمكن للمواطنين الدخول إليها لمعرفة اللجان
المقيدة بها أسماءهم والتى يحق لهم التصويت بها , بدلاً من الدوخة واللف والدوران
على لجان الانتخابات للتصويت .
وبالتالى ؛ فإن التنظيم
الإدارى للجنة العليا للانتخابات يفتقر إلى الحد الأدنى من أبجديات تنظيم وتقسيم
العمل على المستويين الرأسى والأفقى , ولا يستفيد من مستحدثات العصر للامتداد
إلكترونياً إلى أكبر قدر من الجماهير المستهدفة .
- على مستوى التنظيم
الاقتصادى :
فقد نص القانون على أن
اللجنة لها موازنة مستقلة تدرج ضمن الموازنة العامة للدولة ، وبالطبع فإن لجنة
تضطلع بمهمة إجراء الانتخابات العامة على مستوى الجمهورية ؛ لابد وأن يكون لها
ميزانية كبيرة ومناسبة تعينها على مباشرة مهامها . ولكن المستشار /
السيد عبد العزيز عمر ( رئيس اللجنة العليا
للانتخابات ) يُفجر لنا مفاجأة من العيار الثقيل فى حواره المنشور بجريدة الوفد
يوم 29 أكتوبر 2010م ؛ حيث يقرر ما نصه : ( لا
توجد ميزانية للإنفاق على الانتخابات حتى الآن .. ) . وبالتالى نحن أمام كيان لا
يمتلك الحد الأدنى من الموارد التى تتيح له مباشرة مهمة عويصة وحساسة بكل المقاييس
.
-----------
هكذا إذن هو حال اللجنة
العليا للانتخابات , فهى كما أراد لها من أنشأها , لجنة لا تملك من العلو إلا
اسمها , وتعانى من قصور فادح فى تنظيمها الهيكلى والبنائى والتشريعى والإدارى
والاقتصادى , وهى خير مثال للمنهج المتبع فى أنظمة الحكم المستبدة , عندما تقوم
بإنشاء كيانات شامخة من حيث الاسم ومفرغة من حيث المضمون , مجرد ديكور لتجميل
الوجه القبيح للتشبث بالسلطة وتزوير إرادة الناخبين , ومجرد خطوة على الطريق الذى
تعلوه لافتة مكتوباً عليها : ( الحكومات المستبدة تأخد باليسار ما تعطيه باليمين )
.
دكتور / محمد محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق