07 أغسطس 2014

إدمان خداع الذات

د. محمد محفوظ : إدمان خداع الذات

تاريخ النشر : 2 يوليو 2012

ليست حقيقة الغير فيما يبديه لك، بل فيما لا يستطيع أن يبديه لك
( جبران خليل جبران )

دخل الشاب المراهق إلى محل الملابس ؛ فاستقبله البائع العجوز الماكر ؛ وورطه فى شراء قميص باهت اللون ردئ القماش بثمن باهظ ؛ وعندما عاد إلى المنزل ارتدى القميص ووقف أمام المرآة فاكتشف الخدعة التى تورط فيها ؛ لكنه لم يجرؤ على العودة إلى المحل لاستبدال القميص أو استرجاع نقوده ؛ فلم يكن يريد أن يقف أمام نفسه أو أمام الآخرين فى موقف المخدوع ؛ لذلك وضع القميص فى الدولاب ؛ وفى كل يوم قبل أن يخرج يقوم بارتدائه لاستعراضه أمام المرآة محاولاً إيهام نفسه بأنه يليق عليه ... ولكن ..
استمر القميص الجديد فى الدولاب ..
وظلت القمصان القديمة فقط هى التى يقوم بارتدائها .....
.. يقوم الناس دائما بممارسة خداع الذات كأحد ميكانيزمات الدفاع عن النفس ؛ ولكن ليس للدفاع عنها من خطر مادى ؛ وإنما من الأخطار المعنوية المتمثلة فى الإحباط والشعور بانعدام القيمة واليأس ؛ ولمقاومة الإحساس المشين بالقهر والأسى والغضب والمهانة عندما يتعرض الإنسان للخديعة .
ولكن ميكانيزمات الدفاع عن النفس مثلها مثل أى شئ ؛ إذا تم الإفراط فى استخدامها والاعتماد عليها ؛ فإنها تصبح قابلة للإدمان ؛ ومن ثم تتحول من عامل إيجابى لتحقيق قدر من التوازن النفسى ؛ إلى عامل سلبى يمثل هروباً من الواقع وتخاذل عن مواجهته والاشتباك معه .
ولقد أدمن جانب كبير من المجتمع المصرى ممارسة خداع الذات ؛ للهروب من المسئولية ولإيهام أنفسهم بأنهم فعلوا كل ما عليهم ؛ ولم يعد أمامهم إلا الانتظار لجنى الثمار .
فعلوا ذلك على مدار تاريخ مصر الاستبدادى الطويل الممتد بعمر التاريخ ؛ وفعلوا ذلك على مدى تاريخ مصر المعاصر منذ عبد الناصر مروراً بالسادات وصولاً إلى مبارك .
فعلوا ذلك عندما قبلوا أن يطلقوا على الهزيمة المنكرة عام 1967م لفظ ( النكسة ) . و فعلوا ذلك عندما قبلوا أن يتم التعامل مع قتلة السادات باعتبارهم قلة مارقة متطرفة الحل الأمثل لمواجهتها هو الأسلوب الأمنى فقط ؛ دون مزاوجة ذلك بالإصرار على التحول الديموقراطى الحقيقى القائم على التمكين للقوى والأحزاب المدنية ؛ وعلى تجديد الفكر الدينى المتجمد وإقصاء الفقه التراثى المتيبس . 
و فعلوا ذلك عندما قبلوا أن يسايروا مبارك فى مشروعه لتوريث نجله ؛ بممارساتهم التى لا تستنكر التوريث وتقننه ؛ من خلال توريث الأبناء لوظائف أبائهم فى القضاء والجيش والشرطة والجامعات وكافة مرافق الدولة الأخرى .
.. إلا أنه كان من المفترض أن تكون الثورة بمثابة العلاج الناجع لمواجهة إدمان جانب كبير من المصريين لخداع الذات ؛ ولكن يبدو أن الإدمان قد وصل إلى مرحلة اللاعودة واللاتعافى .
والدليل على ذلك ؛ ما يردده البعض من أن فوز الدكتور محمد مرسى بمقعد الرئاسة هو نجاح للثورة ؛ وبمثابة هزيمة ساحقة بالضربة القاضية القاتلة للنظام الفاسد السابق . وأن الدكتور مرسى هو أول رئيس مدنى لمصر فى تاريخ مصر الطويل . وأن خُطب الرئيس وما تتضمنه من رسائل تبعث على الثقة والاطمئنان ؛ كما أن ملامحه تشى بأنه ( راجل طيب ) ؛ وترديده لآيات القرآن فى خطبه تؤكد بأنه ( بتاع ربنا ) ؛ إلى آخر هذه الانطباعات السريعة العاطفية المجافية للمنطق والمناقضة للخبرة الإنسانية فى ضرورة التروى وعدم نزع أى شخص من سياقه التاريخى والفكرى والأيدلوجى جرياً وراء مظاهر أو تصريحات قد تتناقض تماماً مع هذا السياق .
ولقد تابعت فرحة المهللين لنجاح الدكتور محمد مرسى باعتباره نجاح للثورة ؛ واختلط علىّ الأمر لدرجة إننى ظننت لوهلة أن الدكتور مرسى هو زعيم الثورة الخفى الذى أعلن فجأة عن قيادته للثورة بعد تأكده من نجاحها ؛ مثلما أصبح حمدين صباحى فى يوم وليلة ومنذ أسابيع قليلة وكأنه هو أيضاً زعيم الثورة . وبالطبع إذا كنت أدرك تماماً علاقة حمدين صباحى بالثورة كأحد رموزها وليس صانعيها ؛ فإننى لا أدرك علاقة الدكتور مرسى بالثورة من حيث التخطيط لها أو اندلاعها أو استمرارها ؛ لأن كم المواقف المتنكرة للثورة التى وقفتها الجماعة التى ينتمى لها الدكتور ؛ وكم التفاهمات والتحالفات التى أبرمتها الجماعة مع من أرادوا الالتفاف على الثورة وتصفيتها ؛ تثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الدكتور مرسى وجماعته ليس لهم علاقة بالثورة ؛ إلا فى موضع واحد ؛ وهو موضع الاتهام باختطافها . فنجاح الدكتور مرسى ليس انتصاراً للثورة ؛ ولكنه اختطاف لها !!!
وبالتالى فإن من يهللون للدكتور مرسى وكأنه زعيم الثورة ؛ كمن يرقصون فى فرح رجل اختطف فتاة واغتصبها ليجبر أهلها على تزويجها له .
أيضاً ؛ لم أبلع أبداً نكتة أن الدكتور مرسى هو أول رئيس مدنى لمصر !! فإذا كنا لم نقبل محاولات استغفالنا ولم نتنازل عن قناعاتنا بأن رؤساء جمهورية مصر السابقين لم يكونوا مدنيين رغم تخليهم عن مناصبهم العسكرية وارتداءهم للزى المدنى . فإننا لا يجب أيضا أن نقبل إطلاق صفة الرئيس المدنى على رئيس ينتمى لجماعة دينية مصنفة على مستوى العالم ضمن ( الأخويات المغلقة ) التى تمارس ارتباطات وتحالفات فى الخفاء ؛ وتمتلك ميزانية ضخمة غير معلنة ؛ وتنغمس فى علاقات دولية بأجهزة مخابرات عالمية ودول لها مشاريعها الإقليمية .
أى رئيس مدنى هذا ؛ الذى سبق له أن وافق على آداء يمين الولاء والبيعة على السمع والطاعة لفرد يخطئ ويصيب ؛ بحيث يصبح مرشده العام الذى يوجهه بدلاً من سمعه وبصره وفؤاده الذين سيكون عنهم أمام الله مسئولاً .
أى رئيس مدنى هذا ؛ الذى ينتمى إلى جماعة انتهجت أسلوب العنف ؛ ودبرت العديد من الاغتيالات السياسية !!
وأى معنى يشير إليه لفظ المدنى ؟ فالمدنية تعنى أن تكون الرابطة بين كل الحاملين لجنسية الدولة هى المواطنة ؛ مهما اختلفت دياناتهم أو لغتهم أو لهجاتهم أو معتقداتهم أو ألوانهم . وبالتالى لا يستقيم وصف المدني مع رئيس ينتمى لأخوية تقصر نفسها على شريحة من المسلمين ؛ من خلال اسمها الإقصائى التمييزى (الإخوان المسلمين).
أما مسألة أن خطب وتصريحات الرئيس تحفل بالعديد من الرسائل المطمئنة والمعانى الصادقة ؛ فإننى أحيل القارئ إلى كل من تعامل خلال العام ونصف الأخير مع جماعة الإخوان المسلمين بحزبها الحرية والعدالة ؛ لكى يتاكد بأن الاخوان يقولون مالا يريدون فعله عندما يحتاجون فقط إلى الآخرين ؛ فيبيعون لهم الكلام ؛ ولكن عندما تنتهى الحاجة إليهم يذوب الكلام وكأنه لم يكن .
ولعل المتابع لأسلوب كل من ينتمى إلى جماعة الاخوان فى برامج التوك شو ؛ ومنهجهم المستفز فى الجدل السوفسطائى واللف والدوران للهروب من الإجابة على التساؤلات المستحقة ؛ يعرف بأن وعود الدكتور مرسى مرهونة فقط بحاجة جماعته إلى باقى القوى السياسية لحين عودة المجلس المنحل كله أو ثلثيه ؛ أو لحين إعادة الانتخابات . فإن تحققت الأغلبية أو الأكثرية البرلمانية الإخوانية مرة أخرى ؛ فإن كل الوعود ستذهب أدراج الرياح ؛ ومثل كلام الليل المدهون بزبدة ستذوب بمجرد شروق شمس الصباح . وإلا هل يتصور عاقل أن الجماعة التى أنفقت مئات الملايين من الجنيهات على مرشحها الرئاسى ؛ ستقف صامتة لترى مرشحها ورجلها فى بيت الرئاسة يتنكر لها ؛ ويدير ظهره لمبادئها وتصوراتها عن نوع الحكم وشكل الدولة وجملة المناصب التى تريد التكويش عليها ؟!!
ولكن ؛ ربما تكون أكبر خطوة مبالغ فيها على طريق إدمان خداع الذات ؛ هى مسألة أن ملامح الرئيس تدل على أنه ( راجل طيب ) ؛ وأن ترديده لآيات القرآن فى خطبه تشى بأنه رجل ( بتاع ربنا ) . وذلك لأن خداع الذات عندما يؤدى إلى فقدان الذاكرة يصبح علامة على فشل ساحق فى التعلم والاتعاظ من خبرات وتجارب الماضى ؛ وبالتالى ينحدر الإنسان إلى مرتبة الكائن المنفصل عن التاريخ مثل باقى الكائنات غير الإنسانية على وجه الأرض .
ولا أستطيع أن أتذكر أن الرئيس مبارك كان صاحب ملامح شيطانية ؛ بل على العكس كان الانطباع السائد أنه هادئ الملامح قليل الغضب متأنى فى اتخاذ القرار وابن نكتة ؛ وبالتالى كان هو أيضاً ـ لو اعتمدنا هذا المنطق الشكلى الساذج ـ ( راجل طيب ) .
أما الرئيس السادات فقد كان يلقبه الإعلام بالرئيس المؤمن ؛ وكنا نرى صوره وهو يتوضأ ويصلى ويرتدى الجلابية والقفطان ويجلس على المصطبة ؛ ونبتهج لكلماته حول دولة العلم والإيمان وأخلاق القرية .
أما الرئيس جمال عبد الناصر فهو الذى نكل بالشيوعيين ولكنه مارس سياسات التأميم ؛ وحارب اليهود ولكنه نكل بأعدى أعداءهم من الإسلاميين ؛ وعلمنا الكرامة ولكن جهاز مخابراته زرع الخوف فى قلوب معظم المصريين ؛ وحمل لواء الوحدة العربية ولكن كانت النتيجة أن توحدت أراضٍ من 4 دول عربية تحت حكم الاحتلال الإسرائيلى عام 1967م .
إذن خبرة المصريين مع الملامح المعاكسة للمضمون ؛ ومع بياعين الكلام ومروجى الشعارات ؛ مؤسفة وعميقة بعمق مآسى ومخازى التاريخ . ولكن الرغبة المقيتة فى خداع الذات ؛ ومحاولة الالتفاف على الواقع لرؤيته بعين الخيال ؛ هى التى تجعل الكثيرين يصابون بفقدان الذاكرة .
.. قد يرى البعض بأن هذه نظرة تشاؤمية ؛ وإننا يجب أن لا نستبق الأحداث ونعطى الرئيس فرصته لنحكم عليه بعد فترة من الوقت . ولكننا نرد عليهم بأن مصر ليست حقل تجارب ؛ ونحن لسنا فئران معامل ومختبرات ؛ ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا لا يجب ان يكون أحد الكروت على مائدة للقمار .
مستقبل الدولة المدنية فى مصر فى خطر ؛ فلو لم تتحد كل القوى المدنية تحت مظلة واحدة فى الانتخابات القادمة لتحصل على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان ؛ فإن مصر التى نعرفها ستذهب فى خبر كان ؛ وسنحتاج إلى عشرات السنين لكى يسقط نظام المتأسلمين العضوض ؛ ولكن ستكون ضريبة الدماء والخراب فادحة .
وهذا بالطبع لا يجعلنا  نتصور أن الدبابة يمكن أن تحمي المدنية ؛ كما قال بلال فضل ناقداً من وصفهم بأدعياء الليبرالية الذين يريدون أن ينتصروا دون أن يخوضوا المعركة . ولكنه يجب عليه هو الآخر ؛ ألا يتصور أن المدنية يمكن أن تمر من تحت الذقون واللحى والرايات السوداء ؛ وعليه أن يستعد منذ الآن ـ ونحن معه ـ للمعركة ؛ فالدماء فى ظل حكم المتأسلمين ستكون للرُكب !! 
ويا أهلى وعشيرتى !! يامن أدمن البعض منكم خداع الذات ؛ أقول لكم :
لا توجد نظرة تشاؤمية أو تفاؤلية ؛ وإنما توجد شعوب تكره النظر فى مرآة أحوالها ؛ فتمارس خداع الذات ؛ أو بالأحرى القضاء على الذات وتدميرها .
لأنه كما قال ( جبران خليل جبران ) : قد ينجح الخداع أحياناً ؛ ولكنه دائماً قاتل نفسه .
بسم الله الرحمن الرحيم .. يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون .. صـدق الله العظيـم ( سـورة آل عمران / الآية 167 )
      *****
دكتور / محمد محفوظ
dr.mmahfouz64@gmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق