التوقيع على بياض
وصناعة المستبدين
تاريخ النشر : 7 يونيو 2011
دكتور / محمد محفوظ
( لا خير فيكم إن لم تقولوها .. ولا
خير فينا إن لم نسمعها )
[ عمر بن الخطاب ]
المستبد صناعة شعبية ؛ فالشعوب هى التى تصنع المستبدين .
وفى المثل الشعبى : يا فرعون إيه فرعنك مالقيتش حد يردنى .
وفى المثل الأكثر شعبية : سكتنا له دخل بحماره .
وفى القول المأثور : لا جبار إلا بمن حوله .
وهكذا ؛ لا يولد المستبد مستبداً ؛ وإنما يتم تمهيد الطريق له من تخاذل
الناس وخوفهم وتفريطهم في كرامتهم ؛ فينصبوه مستبداً بامتياز ؛ مصداقاً لقوله
تعالى : ( فاستخف قومه فأطاعوه ) ؛ فمن المفترض ومن المنطقى ألا يطيع الإنسان من
يستخف به ؛ ولكن إذا أطاعه فقد فتح له الباب لكى يكون مستبداً .
لذلك ؛ على الشعوب أن تتعلم من تجاربها المأساوية ؛ وتعرف أن السكوت
والتخاذل وإيثار السلامة وتكبير الدماغ ؛ كل هذه السلوكيات تمثل خطيئة وطنية حصادها
هو : الاستبداد .
ويمكن من خلال تتبع ممارسات المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مجال إدارة
البلاد - خلال الفترة الانتقالية - باعتباره يمارس دور السلطتين التنفيذية
والتشريعية ؛ ومن خلال تتبع ردود أفعال بعض الشرائح المجتمعية والقوى السياسية
والرموز النخبوية على تلك الممارسات ؛ يمكن التوقع بأننا نسير في الطريق العتيد
لصناعة المستبدين ؛ ذلك الطريق الذي ترسم معالمه الممارسات الآتية : الإقصاء - التجاهل
- التباطؤ - الغموض - نفاذ الصبر وكراهية النقد – الوصاية .
والواقع بان أغلب ممارسات المجلس العسكرى تستلهم تلك المظاهر أو المعالم ؛
وتؤكد عليها يوماً بعد الآخر . وإلا ؛ فكيف يمكن تفسير كافة تلك الممارسات الآتية
:
- ألا يُعتبر انفراد المجلس العسكرى بإدارة البلاد في الفترة الانتقالية ؛
بناء على التفويض الصادر له من الرئيس المخلوع ؛ وعدم قبوله بشراكة أى فصيل مدنى
معه في تلك الإدارة ؛ ألا يُعتبر ذلك هو المثال الأكبر على ( الإقصاء ) لكافة
القوى الوطنية والسياسية التى قامت بالثورة ؛ وعزلها عن ممارسة دورها الحقيقى في
ترجمة مطالب الثورة إلى سياسات مجتمعية ثورية .
- ألا يُعتبر انطواء التشكيل الوزارى على عدد غير قليل من المحسوبين على
النظام السابق ؛ وانحياز هذا التشكيل إلى المسنين واستبعاد الشباب ؛ واستمرار
تخصيص ما يقترب من نصف مناصب حركة تعيينات المحافظين للواءات الشرطة والجيش ؛ وعدم
حل المجالس المحلية ؛ ألا يُعتبر كل ذلك هو الممارسة العملية لـ ( التجاهل ) ؛
تجاهل كافة مطالب الثورة في تطهير الحياة
السياسية من رموز النظام السابق ؛ والدفع بالدماء الشابة إلى مقاعد السلطة
التنفيذية ؛ والبدء في الاعتماد على الكوادر المدنية بدلاً من القيادات العسكرية
والشرطية التى ثبت فشلها في مجالات الإدارة المدنية .
- ألا يُعتبر استمرار الغياب الأمنى واستمرار الإبقاء على القيادات الأمنية
الفاسدة ؛ والاستمرار في عدم تخصيص دوائر مستقلة لمحاكمة رأس النظام السابق ورموزه
وعدم علانية تلك المحاكمات ؛ ألا يُعتبر كل ذلك هو النموذج المكتمل الأركان لإستراتيجية
( التباطؤ ) التى لا تبالى بتطلعات الجماهير ؛ ومن ثم تغرى جهاز الشرطة على
الاستمرار في غيابه ؛ والقيادات الأمنية الفاسدة على الاستمرار في مؤامراتها
وتحريضها ؛ والشعب على عدم الثقة في نزاهة محاكمات رموز الفساد .
- ألا يُعتبر التشكيل المنحاز للجنة التعديلات
الدستورية برئيسها المحسوب على تيار الفكر الإسلامى وأحد أعضاءها القيادى بجماعة الإخوان
؛ وعدم التصدى للممارسات الخارجة عن القانون للجماعات السلفية ؛ وعدم اعتراض الإخوان
المسلمين والسلفيين على التعديلات الدستورية أو على أى من مشروعات المراسيم
بقوانين التى صاغتها لجنة طارق البشرى ؛ ألا يُعتبر كل ذلك هو الترجمة الحرفية
لحالة ( الغموض ) التى تعطى الانطباع بأن ثمة صفقة ما ؛ أو شئ ما يتم تدبيره خلف
الكواليس .
- ألا يُعتبر إصدار المرسوم بقانون لمنع الاعتصام
والتجمهر والتظاهر ؛ والإعلان عن عدم حماية القوات المسلحة لجمعة الغضب الثانية ؛ ومحاكمة
المدون مايكل نبيل عسكرياً وحبسه 3 سنوات لانتقاده المؤسسة العسكرية ؛ واستدعاء الإعلاميين
والمدونين أمام النيابة العسكرية للتحاور معهم حول عدم انتقاد القضاء العسكرى ؛ واعتياد
اللواء ممدوح شاهين ، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية وعضو المجلس الأعلى
للقوات المسلحة على الاتصال بالقنوات الفضائية للتدخل في تعليقاتها على الأحداث . وقيام التفتيش القضائى بوزارة العدل - عقب مذكرة قدمها
المدعى العام العسكرى يتهم فيها بعض المستشارين بالإساءة إلى المؤسسة العسكرية
والقضاء العسكرى - بإجراء تحقيقات مع
المستشارين أشرف ندى رئيس محكمة استئناف بنى سويف، وحسن النجار رئيس نادى قضاة
الزقازيق، وعلاء شوقى رئيس جنايات الجيزة، لإدلائهم بتصريحات بدون إذن مسبق بقناة
الجزيرة وإذاعة صوت العرب تطالب بعدم محاكمة المدنيين أمام القضاء العســـــكرى. ألا
يُعتبر كل ذلك هو الأسلوب المعتاد الذي تتبعه أى سلطة تتسم بـ ( نفاذ الصبر
وكراهية النقد ) .
- ألا تـُعتبر إضافة أكثر من 50 مادة على
التعديلات الدستورية التى تم استفتاء الشعب عليها ؛ وإصدار المراسيم بقوانين دون
حوار مجتمعى ؛ والدعوة لحوارات مع شباب الثورة تفتقد أهم عناصر الحوار وهى الأخذ
والرد ؛ ألا يُعتبر كل ذلك هو الدافع على تعميق الإحساس بمنطق ( الوصاية ) الذي يتعامل
به المجلس العسكرى مع جماهير هذا الشعب ؛ ومع كل من شارك في الثورة .
إذن ؛ نحن أمام مجموعة من الممارسات تتمثل في
الاتى :
الإقصاء - التجاهل - التباطؤ - الغموض - نفاذ الصبر وكراهية النقد –
الوصاية .
والواقع أن كافة تلك الممارسات هى ذات ممارسات الرئيس السابق المخلوع
وأركان نظامه .
ولكن ربما يخرج علينا البعض بمقولة ؛ أن الجيش والشعب إيد واحدة ؛ ولا مجال
للنيل من الجيش اعترافاً بموقفه الوطنى خلال الثورة ؛ وأن المؤسسة العسكرية هى
الحصن الأخير والوحيد الذي يحمى البلد من كافة الأخطار الداخلية والخارجية .
وبالفعل ؛ يمكن لأى مراقب أن يتفهم كل تلك المقولات أو الشعارات بدوافعها
العاطفية أو المنطقية .
ولكن ينبغى علينا أن نتذكر – ولا ننسى – أن الرئيس المخلوع كان من أبرز
رموز ذات المؤسسة العسكرية خلال حرب أكتوبر ؛ وكانت قيادته للضربة الجوية وبناءه للقوات
الجوية بعد هزيمة 67 جزء من رصيده لدى الشعب . فهل يمكن المجادلة بأن خلعه والثورة
على نظامه أمر يمس المؤسسة العسكرية أو يتنكر لتضحياتها ! وهل يمكن المجادلة بأن الصفة
العسكرية للرئيس المخلوع لم تمنعه من ممارسة الاستبداد والفساد إلى حد تدمير مصر
وإذلال المصريين !
وبالتالى ؛ وبنفس المنطق ؛ فإن الوقوف في موقف المعارضة أمام سياسات المجلس
الأعلى للقوات المسلحة - باعتباره سلطة إدارة وبوصفه القائم بأعمال السلطتين
التنفيذية والتشريعية خلال الفترة الانتقالية - لا يجوز أن يتم التوسع في تفسيره
ليشمل القوات المسلحة كمؤسسة ؛ بل يظل هذا الموقف المعارض قاصراً فقط على شخوص
المجلس العسكرى وسياساتهم .
وذلك لأن الدولة الديمقراطية هى دولة المؤسسات الدستورية القائمة المستمرة
؛ المؤسسات التى لا يمكن - بأى حال من الأحوال - أن تلتصق بشخص أى زعيم أو قائد أو
مسئول مهما علا منصبه . وتظل محاولة إضفاء أى نوع من القداسة أو السمو أو الحصانة
غير الدستورية على شخص أى مسئول هى المدخل المؤلم إلى صناعة وتسويق المستبدين .
كما أن المؤسسات ذاتها بشرعيتها الدستورية سواء كانت مدنية أم عسكرية ؛ غير
محصنة هى الأخرى بحيث تصبح أصناماً فى البناء السياسى للدولة . بل تظل هذه
المؤسسات دائماً مستهدفة بكل صور وممارسات النقد والتقويم والمعارضة لسياساتها .
وبالتالى ؛ على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يعرف بأن ممارسات الإقصاء والتجاهل
والتباطؤ والغموض ونفاذ الصبر وكراهية النقد والوصاية ؛ هذه الممارسات هى التى تسيء
إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتسيء إلى أعضائه ؛ لأنها تضعه وتضعهم في خانة
الطرف الذي يمارس الاستبداد السياسى المنهي عنه ثورياً عقب ثورة شعبية عارمة .
ولهذا على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يعلم الحقائق الآتية :
- إن انتماء الرئيس المخلوع إلى المؤسسة العسكرية لم يعصمه من الناس ومن غضب
الشعب وثورته .
- وأن الذين يطبلون ويعزفون ويمدحون ويمسحون الجوخ ؛ هم ذات الفئة التى
كانت ملتفة حول الرئيس المخلوع ؛ ولكنها انفضت من حوله عندما تيقنت من نهاية عصره وزوال
سلطانه .
- وأن الفئران هى أول من يقفز من السفينة الموشكة على الغرق .
- وأن مَنْ مدحك بما ليس فيك ؛ سوف يذمَّـك بما ليس فيك .
- وأن المنافق إذا أؤتمن خان .
- وأن الرقص مع الذئاب نهايته دموية .
.. على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يعلم جيداً ؛ أن الجماهير التى
ملأت شوارع مصر بالثورة والغضب لن توقــِّع على بياض ؛ لأن التوقيع على بياض هو
الباب الماسى – المفعم بالمآسى – لصناعة المستبدين .
*****
دكتور / محمد محفوظ
ملحوظة :
بيان ببعض الآراء والأخبار والتصريحات المرتبطة بموضوع المقال :
1- مقال : لا يا سيادة اللواء . بقلم يسرى فودة – جريدة المصرى اليوم -
بتاريخ 29 مايو 2011م .
2- رئيس
قضاة الزقازيق يقاضي وزير العدل ويتهمه بـترويع القضاة بإحالتهم للتحقيق لرفضهم المحاكم
العسكرية ( موقع محامون بلا قيود ) - بتاريخ 4 يونيو 2011م .
3- اتحاد شباب
الثورة يعلن انسحابه من الحوار مع المجلس العسكرى - جريدة البديل - بتاريخ 4 يونيو
2011م .
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق