07 أغسطس 2014

الكرة الآن فى ملعب الشعب

د. محمد محفوظ : الكرة الآن فى ملعب الشعب

تاريخ النشر : 4 ديسمبر 2012

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
( سورة البقرة ـ الآية 205 )

لم يدرك الشعب المصرى حتى الآن أن الثورة عطاء من الله ؛ يستوجب الشكر المتواصل والمستمر .
وهذا الشكر لا يكون برفع اليدين إلى السماء فقط ؛ وإنما بالعمل الدؤوب المتيقظ لحماية هذه الثورة من أعدائها والمخترقين لصفوفها والمتاجرين بشعاراتها . ولذلك عندما أمر الله سبحانه وتعالى آل داوود بالشكر ؛ قال تعالى : اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( سورة سبأ ـ الآية 13 ) . فالشكر لله سبحانه على عطائه ليس مجرد كلمات تقال ؛ وإنما أفعال على طريق تقواه سبحانه تحفظ نعمته وتديم بقاءها .
ولكن للأسف لم يدرك الشعب المصرى كل ذلك ؛ وكان أول تصويت له بعد الثورة ؛ يصب فى الاتجاه الذى يسير ضد هذه الثورة . ولذلك قال الشعب نعم للتعديلات الدستورية التى تجعل الانتخابات قبل الدستور !! ففتح الباب للتحيزات الحزبية لكى تتدخل فى كتابة الدستور وفقاً لأهواء وأغراض سياسية ضيقة ؛ تختزل مطالب الثورة وتطلعات الشعب داخل رؤية واحدة لتيار واحد لا يمثل إلا جزء ضئيل من الشعب ؛ بل ويمكن وصفه بأنه تيار متشدد متطرف يبتعد كثيراً عن صحيح الدين .
ثم كان التصويت الثانى للشعب المصرى ؛ ضد الثورة مرة أخرى ؛ عندما ذهبت أغلب أصوات الناخبين لصالح التيار المتشدد المتطرف لتمنحه الأغلبية البرلمانية داخل مجلسى الشعب والشورى .
ثم كان التصويت الثالث للشعب المصرى ؛ ضد الثورة أيضاً ؛ عندما تم منح كل من : محمد مرسى وأحمد شفيق فى الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة أعلى الأصوات ؛ لتتم انتخابات الإعادة بينهما ؛ فتصبح الإعادة بين مرشح ينتمى لتيار متشدد ومرشح ينتمى للنظام السابق !!!
.. فأى غفلة يمكن أن يوصف بها شعب عندما يفعل كل ذلك ولثلاث مرات متوالية ؛ مرة بعد أخرى .
وأى تنكر لعطاء الله والاستخفاف بنعمته ؛ عندما يتم تقديم الثورة على طبق من ذهب لألد أعداءها .
وقد يقول قائل ؛ بأن الشعب مارس حقه فى الاختيار ؛ واختياره يشير إلى قناعاته ؛ ولا ينبغى التسفيه من تلك القناعات أو شيطنتها لمجرد اختلافها مع قناعات طرف آخر .
وبالفعل ربما يكون هذا المنطق سليم ؛ ولكن فقط ؛ فى الأحوال الآتية :
الحالة الأولى : عندما يتوجه للتصويت نسبة كبيرة من الناخبين ؛ بما يجعل نتيجة التصويت دالة بالفعل على توجهات المجتمع .
والحالة الثانية : عندما لا تكون نسبة كبيرة من المصوتين تعانى من الفقر والجهل ؛ بما يفتح الباب لاستغلال ذلك الجهل باسم الدين ؛ واستغلال ذلك الفقر بواسطة الرشاوى الانتخابية .
وللأسف ؛ فإن هذا وذاك هو الذى لم يتحقق فى كل الجولات التى قام الشعب المصرى بالتصويت فيها .
فنسبة التصويت فى كل الجولات التصويتية لم تكن دالة بالفعل عن توجهات الشعب المصرى ؛ وذلك نتيجة الآتى :
ففى الاستفتاء على التعديلات الدستورية ؛ كان إجمالى عدد هيئة الناخبين 50 مليون مواطن ؛ بينما قام بالتصويت 18 مليوناً ؛ قال  14 مليون منهم نعم . أى أن نسبة الحضور للتصويت بالاستفتاء كانت 36 % فقط ؛ أى أقل كثيراً من النصف ؛ بينما نسبة المصوتين بنعم كانت بنسبة 28 % فقط من إجمالى عدد الناخبين !! فهل يمكن اعتبار تلك النسبة ؛ بمثابة نسبة دالة على توجهات المجتمع ؟!
وفى الانتخابات البرلمانية كان عدد المصوتين 30 مليون مواطن ؛ بنسبة 60 % من إجمالى عدد هيئة الناخبين ؛ فاز التيار الإسلامى منها بنسبة 70% من الأصوات ؛ أى بواقع 21 مليون صوت تقريباً ؛ بنسبة 42% من إجمالى هيئة الناخبين . أما انتخابات مجلس الشورى فقد كانت نسبة التصويت المنخفضة بها مذرية ولا تحتاج لأى تفصيل . فهل يمكن اعتبار تلك النسب ؛ بمثابة نسب دالة على توجهات المجتمع ؟!
ونأتى إلى انتخابات الرئاسة التى بلغ إجمالى المصوتين فى جولتها الاولى 23 مليون ونصف مليون ناخب من عدد 51 مليون هو اجمالى عدد الناخبين ؛ بنسبة 45%  ؛ أى أقل من نصف عدد الناخبين . ثم ارتفع عدد المصوتين فى جولة الإعادة إلى 26 مليون ناخب ؛ بنسبة 51 % من الناخبين .
 .. وبالتالى فإن نسب التصويت المتدنية باستمرار توضح ؛ بأننا أمام شعب لا يشعر بالمسئولية ؛ عقب ثورة شعبية جارفة . ومن ثم لا يمكن اعتبار تلك النسب ؛ بمثابة نسب دالة على توجهات المجتمع ؟!
ولكن ؛ ربما يرد البعض بأن هذه النسب مشابهة لنسب التصويت فى أعرق الديموقراطيات ؛ ولا مجال لنقد الشعب المصرى فى هذا المجال .
ولكن ردنا على ذلك ؛ أن الإحساس بالمسئولية الوطنية ينبغى أن يرتفع عقب الثورات ؛ بما يدفع الناس دفعاً لممارسة حقوقهم التى تم حرمانهم منها نتيجة التلاعب فى نتائج التصويت .
وهذا يوضح ؛ بأن نسبة التصويت فى كل الجولات الانتخابية سواء أكانت استفتاء أم انتخابات برلمانية أم رئاسية ؛ هى نسبة غير دالة على توجهات الشعب المصرى ؛ وتشير إلى حالة من السلبية والغفلة وانعدام المسئولية ؛ بما يؤدى إلى خروج نسبة كبيرة من الناخبين من دائرة الاختيار السياسى !!!
 علاوة على ذلك ؛ فإن انتشار الفقر والجهل بين قطاع كبير من المصوتين ؛ يؤدى الى الضحك على جهلهم باسم الدين ؛ وشراء فقرهم باستخدام الرشاوى الانتخابية .  
وهذا يوضح بأن إرادة الاختيار لدى الشعب المصرى غير كاملة ؛ بل ومختلة ؛ نتيجة السلبية التى تؤدى إلى خروج نسبة قد تصل إلى النصف أو تزيد من دائرة الاختيار بسبب العزوف عن التصويت . ونتيجة استغلال القوى السياسية الانتهازية للفقر والجهل لدى قطاع كبير من الناخبين بما يؤدى إلى توجيه أصواتهم باستخدام الرشاوى الانتخابية وصكوك الغفران الدينية .
وبالطبع ؛ لا يمكن التقليل من بشاعة الفقر والجهل ؛ فالحرمان الناتج عن الفقر كافر ؛ وانعدام الوعى الناتج عن الجهل فاجر . ولايمكن التعالى على آلام الناس واحتياجاتهم وتوجيه النقد إلى ضعفهم الانسانى من على المقاعد الوثيرة ومن خلف الشاشات الإلكترونية .
لا يمكن التعالى على هذه الآلام ؛ ولكن أليس من الواجب ـ أيضاً ـ أن نخاطب فى المواطن ذكاءه الطبيعى ؛ وإيمانه الفطرى .
فالرشوة الانتخابية التى لا تسد إلا جوع يوم واحد ؛ ستؤدى إلى تسليم زمام الأمور فى البلد إلى من لا يتورع عن شراء أى شئ من أجل مصلحته ؛ حتى وإن كانت الذمم والضمائر . فلماذا إذن يبيع الفقراء مستقبلهم من أجل يوم واحد .
كما أن الاتجار بالدين لإيهام الناس بضمان الجنة ؛ سيؤدى إلى تسليم زمام الدين إلى المهووسين المتشددين المتطرفين دينياً ؛ الذين خرجوا عن صحيح الدين الإلهى الحنيف ؛ وأضافوا إليه أقوال البشر ؛ المتمثلة فى الأحاديث والروايات الظنية الثبوت عن الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ والفتاوى النسبية الدلالة الصادرة عن فقهاء أفتوا لعصرهم وزمانهم ؛ بما يجعل فتاواهم تتناسب مع واقعهم فقط ولا تتفق بالضرورة مع زماننا .
وبالتالى ؛ على الشعب المصرى أن يعلم بأن هؤلاء الذين يدعون بأنهم المتمسكون بشرع الله ؛ هم أول من خرج عن هذا الشرع الإلهى ؛ لأنهم أضافوا إليه أقوال البشر الظنية والنسبية .
فشرع الله هو الأحكام القطعية الثبوت والدلالة فقط ؛ وأى حكم يفقد جانب القطعية فى ثبوته أو دلالته أو كليهما معاً ؛ يخرج من دائرة شرع الله ؛ ليدخل فى دائرة شرع البشر . وأى إدعاء بأنه من شرع الله هو افتراء على الله ورسوله .
فالسنة النبوية القطعية الثبوت والدلالة هى التى وردت لنا فى صورة أفعال متواترة عبر الزمن كالصلاة والزكاة كمثال . أو وردت لنا فى صورة قول أو إقرار من الرسول عليه الصلاة والسلام بما لا يخالف القرآن الكريم . وإلا فإن الإقرار بأن الروايات والأحاديث الظنية الثبوت عن الرسول هى بمثابة جزء من شرع الله حتى وإن تناقضت مع القرآن الكريم ؛ هذا الإقرار هو أمر يسمح بعدم تحريم الإضافات البشرية على شرع الله ؛ بما يؤدى إلى الوقوع فى هاوية التحريف التى وقع فيها أصحاب الرسالات السابقة ؛ عندما اعتمدوا أقوال البشر الظنية الثبوت والنسبية الدلالة .
وبالتالى ؛ فإن المتشددين المتطرفين ؛ الذين يدعون بأنهم هم أهل الدين ويزعمون بأنهم أصحاب الشريعة ؛ ما هم إلا أول الخارجين عن هذه الشريعة الإلهية النقية الطاهرة التى تأبى أن يتم تحريفها بأقوال البشر الظنية والنسبية .
إذن ؛ قد يخسر الفقراء حياتهم الدنيا نتيجة رضاهم ببيع أصواتهم إلى من سيبيعون البلد من أجل مصالحهم الانتهازية , ولكن الجهلاء سيخسرون آخرتهم ؛ نتيجة رضاهم بأن يسيروا خلف من حرفوا شرع الله ودسوا بداخله شرع البشر .
فإلى كل المصريين ؛ القابعين فى بيوتهم سلبية ولامبالاة واستهتاراً .. اخرجوا فى المظاهرات المساندة للثورة ؛ والرافضة لاستكبار الجماعة المستبدة التى تطلق على نفسها كذبا الإخوان المسلمين ؛ بينما أعضاءها ما هم الا إخوة يوسف ؛ وماهم الا الذين قال الله فيهم : ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم . أى والله ؛ لم يدخل الإيمان فى قلوبهم بعد ؛ بل هم مسلمون شكلاً أو نفاقاً أو كذباً ؛ وما الدين بالنسبة لهم إلا تجارة اشتروا بها ثمناً قليلاً فى الحياة الدنيا ؛ ولكن فى الآخرة سيذوقوا الخسران المبين .
إلى كل المصريين ؛ القابعين فى بيوتهم غفلة وعبطاً واستهبالاً ؛ اخرجوا إلى الشوارع فى المظاهرات المساندة للثورة ؛ والرافضة لغلو الفئة الباغية التى تطلق على نفسها كذباً السلفيين ؛ بينما أعضاءها ما هم إلا المظهر الواضح للتلف عندما يدب فى أوصال الدين ؛ فيفقده مضمونه الإلهى الفطرى الطاهر النقى ؛ ويحرفه بأقوال البشر المغرضة الفاسدة .
إلى كل المصريين ؛ أمامكم خياران ؛ إما أن تكون مصر دولة ديموقراطية ؛ تتمسك بالإسلام الإلهى الحنيفى الوسطى الطاهر . وإما أن تكون دولة استبدادية ؛ تنكوى بالاسلام المحرف المتشدد المتطرف .
.. لم نقم بالثورة لتحل الديكتاتورية الدينية محل الديكتاتورية العسكرية .
.. لم نقم بالثورة لتنقسم مصر مثل لبنان ؛ مليونية هنا وأخرى هناك ؛ والبلد مشلولة بانقسام أطرافها .
.. لم نقم بالثورة ؛ لتتجزأ مصر مثل السودان ؛ دولة هنا وأخرى هناك ؛ لأن المتطرفين من كل جانب فرغوا الدين من تسامحه ؛ وأصبح التعصب هو الحاكم والمرشد والدليل .
.. لم نقم بالثورة ؛ لتنهار مصر مثل الصومال أو أفغانستان ؛ ويغتصبها تنظيم القاعدة ؛ بكوادره الشيطانية التى تؤمن بدين إبليس وليس دين رب العالمين. دين القتل والدم والنهب؛ وليس دين التسامح والمحبة والعفو .
.. لم نقم بالثورة ؛ لتنعزل وتُحاصرمصر مثل غزة ومثل إيران ؛ ويعتلى كراسى الحكم فيها أدعياء الدين ؛ الطغاة القتلة الكذابون المنافقون ؛ الذين ينشرون الخراب والفقر فى كل أرض بأقدامهم يطأون .
إلى الشعب المصرى ؛ الكرة الآن فى ملعبك ؛ فإما أن تتخاذل وتترك الفرصة لإدعياء الدين لكى يحكموا مصر بإسلامهم المحرف ؛ ووقتها ستخسر الدنيا وتخسر الآخرة .
وإما تنتفض وتزحف بالملايين إلى الشوارع لكى يعرف هؤلاء الشياطين حجمهم الحقيقى ؛ ووزنهم الواقعى ؛ ووقتها سيدخلون إلى جحورالأفاعى والسحالى التى أتوا منها ؛ وتمرسوا فيها على تدبير المؤامرات وليس حكم المجتمعات وتنظيمها وتنميتها ؛ وتدربوا فيها على الإفساد فى الأرض وليس إصلاحها .
.. المستقبل واضح ؛ إما مستقبل الاستبداد ؛ أو مستقبل الديموقراطية .
فعلى من يريد الديموقراطية أن يعرف بأن الطريق واضح ؛ واسمه طريق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
.. فانزلوا فى الشوارع ؛ وإذا أصر المستبدون على إجراء الاستفتاء على دستورهم الرجعى ؛ فتوجهوا إلى اللجان لتقولوا : ( لااااااااا ) عالية مدوية ؛ انزلوا وقولوا لا ؛ لأن الكرة فى ملعبكم الآن .. وإلا ستضيع الكرة ؛ أو ربما يحترق الملعب بمن فيه .
بسم الله الرحن الرحيم .. وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ .. صدق الله العظيم ( البقرة / 204 ـ 206 )
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
دكتور / محمد محفوظ
dr.mmahfouz64@gmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق