08 أغسطس 2014

النضج الثورى المفقود .. طاحونة الثورة ومخبز السياسة

د. محمد محفوظ .. يكتب : النضج الثورى المفقود .. طاحونة الثورة ومخبز السياسة

تاريخ النشر : 30 نوفمبر 2013

الثورة هى عمل نضالى بامتياز ؛ يرفع شعارات مثالية فى مواجهة نظام إجرامى يعصف بكل المبادئ والقيم . وتستمر الثورة ترفع تلك الشعارات حتى انهيار النظام ؛ ثم تبدأ بمجرد انتصارها فى التحول من العمل النضالى إلى العمل السياسى . فدور الثورة يقتصر على إسقاط النظام القديم ؛ بينما دورالسياسة يتمثل فى بناء النظام الجديد . 
ولهذا ؛ فإن السياسة هى عمل تنفيذى بامتياز ؛ يقوم على قواعد عملية براجماتية ؛ تحاول التوفيق بين المبادئ والقيم والشعارات المثالية ؛ وبين الحقائق القائمة على أرض الواقع .
فالسياسة يمكن اعتبارها معادلة كيميائية ؛ يمكن كتابة طرفيها الأيمن والأيسر كالتالى :
مبادئ وقيم مثالية + حقائق قائمة على أرض الواقع ← ممارسات توفيقية ← عمل سياسى
والواقع أن هذه المعادلة ما كان لها أن تكون معادلة واقعية ؛ مالم يتم إضافة عامل مساعد إليها ؛ مثل عامل الحرارة فى المعادلات الكيميائية الذى يحفز التفاعل بين عناصر المعادلة ؛ وهذا العامل المساعد هو ( الممارسات التوفيقية ) .
فمشكلة القيم والمبادئ النظرية أنها لا يمكن أن تتفاعل مع الحقائق القائمة على أرض الواقع الا فى وجود عامل مساعد اسمه ( الممارسات التوفيقية ) . فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن يتم تطبيق المبادئ والقيم المثالية على أرض الواقع بدون محاولة توفيقها مع الحقائق القائمة على أرض هذا الواقع . وأى محاولة لفرض تلك المبادئ والقيم على المجتمع دون توفيقها مع الحقائق القائمة على الأرض ستؤدى إلى تحطيم تلك المبادئ والتضحية بها على مذبح الواقع . فالمبادئ التى تتحدى الواقع دون التحصن بأى ممارسات توفيقية ؛ يكون مصيرها الفشل المحتوم والتحطم على صخرة هذا الواقع القائم الصلبة الصلدة .
وإذا طبقنا ما نقوله على الحالة المصرية ؛ فإن الافتتان بالقيم والمبادئ الديمقراطية المثالية مع عدم توفيقها مع الحقائق القائمة على الأرض ؛ هو بمثابة افتقار إلى النضج الثورى ؛ الذى يوضح متى تتوقف الثورة لتبدأ السياسة ؛ ومتى يتوارى العمل النضالى لكى يحل محله العمل التنفيذى .
قطار الثورة له محطة يتوقف عندها اسمها : سقوط النظام . يتم بعدها ركوب قطار السياسة من محطة اسمها : بناء النظام .
والنضج الثورى المنطلق من قراءة الحقائق على الأرض يؤكد بأن ثورة 30 يونيو 2013 كان لنا فيها شركاء ؛ أبرزهم القوات المسلحة والشرطة . وبالطبع قد يفتقر هؤلاء الشركاء إلى الثقافة الديمقراطية التى نؤمن بها بحكم التربية العسكرية والأمنية ؛ ولكن هذا لا ينزع عنهم صفة الشراكة التى جنبت المجتمع الانزلاق إلى كارثة الحرب الأهلية التى كانت ستشتعل لو لم ينحاز هؤلاء الشركاء إلى الثورة .
ولذلك تفرض علينا ضرورة اللحظة وطبيعة المرحلة أن نعى بأن هؤلاء الشركاء لهم مطالب أو توجهات قد تقلل سرعة التحول الديمقراطى الذى كنا نتطلع إليه ؛ ولكنها لن توقفه . وإلا فإن تخريب الشراكة بين التيار الثورى والشعب وهؤلاء الشركاء فى ظل تربص تيار إرهابى غير وطنى بالدولة ومؤسساتها وشعبها سيكون بمثابة قفز فى الظلام إلى المجهول .
ولقد شاهدت بكل الأسى الوقفة الاحتجاجية التى نظمها النشطاء أمام مجلس الشورى للتعبير عن اعتراضهم على مادة المحاكمات العسكرية فى الدستور وعلى قانون التظاهر ؛ وأدركت معنى الكوميديا السوداء الثورية عندما تفرز حقيقة قاتمة اسمها : غياب النضج الثورى ؛ بحيث يقوم الثوار بأنفسهم بتسليم طرف الحبل لألد أعداء الثورة لكى يشنقوها به .
ولقد كدت أسقط على ظهرى من شدة الضحك الهستيرى عندما رأيت ناشطة قد أخذتها الجلالة وإذا بها تهتف : الشعب يريد إسقاط النظام . هنا رفعت يدى إلى السماء وتوسلت إلى الله أن يحمى الثورة من أبناءها أما أعداءها فالشعب كفيل بهم .
أى نظام الذى تريد الناشطة إسقاطه ؟! وأى قانون الذى يريد الناشطون تحديه ؟! وأى نص دستورى الذى تريد حركة لا للمحاكمات العسكرية تعديله ؟!
اختلافنا مع حكومة الببلاوى الفاشلة العاجزة البائسة العجوزة ؛ لا يعنى أننا فى حالة صدام مع النظام ؛ لأنه لو وصلنا إلى اللحظة التى نجاهر فيها بإسقاط النظام ؛ فإن هذا يعنى بأن الثورة قد فشلت ؛ وإننا يجب أن ننضم لجانب الإخوان ونعتذر لهم ؛ لأننا اكتشفنا متأخرين بأن ما حدث هو انقلاب . فهل هذا صحيح ؟ بالطبع .. لا .
أيضاً ؛ فإن اختلافنا مع قانون التظاهر ؛ يجب أن يأخذ حجمه غير المبالغ فيه . لأن أى طفل يعلم بأن قانون التظاهر قد صدر من أجل مظاهرات ومسيرات الإخوان التخريبية . وإذا كانت الحكومة تضم بين وزرائها أعلام ورموز محسوبة على الثورة ؛ فإن هذا يؤكد بأن ذلك القانون لا يتربص بالثورة ؛ وإنما المقصود هو استخدام غربال جديد له شدة ليحل محل الغربال القديم الذى فقد هيبته . فالحكومة لأنها فشلت نتيجة ضعفها وترددها فى تنفيذ القانون القديم ؛ تمني نفسها بأن القانون الجديد يمكن أن يستعيد لها هيبة أصبحت مفقودة ؛ وبالتالى إذا كان هذا مرادها ؛ فما البأس فى ذلك ؛ وخصوصاً أن القانون باعتباره ( قراراً بقانون ) سيتم عرضه بحكم الضرورة على البرلمان لكى يقره أو يلغيه أو يعدله .
وبالتالى لماذا نبدأ المعركة مبكراً قبل أوانها والساحات من حولنا موبوءة بالمتربصين ؟! وأين فضيلة الفعل المناسب فى الوقت المناسب ؟!
وبالمثل ؛ فإن اختلافنا مع مادة المحاكمات العسكرية فى مشروع الدستور ؛ لا ينبغى أن يجعلنا نتعامى عن طبيعة المخاوف ووسائل الردع التى يطمح إليها شريك رئيسى فى الثورة وهو القوات المسلحة . فكيف يمكن لأى ثورى ( حالم ) أن يقنع القوات المسلحة فى ظل حربها المشتعلة ضد الارهاب بأنه ينبغى إحالة من يقذف المعسكرات والمقرات العسكرية بالآربيجيهات ؛ ويفجر السيارات المفخخة فى القوات ؛ ينبغى إحالته إلى المحاكم المدنية باعتباره من المدنيين ؛ رغم أن هذا الارهابى بالنسبة للقوات المسلحة هو ( مقاتل عدو ) مدعوم مالياً وتسليحياً من دول معادية ؛ وبالتالى كيف يمكن للقوات المسلحة فى ظل نزيف الدم أن تعتبر هؤلاء من المدنيين . ولعل وصف ( المقاتل العدو ) هو التوصيف الذى ابتدعته الولايات المتحدة الأمريكية لتصف به الإرهابيين الذين يستهدفون الجيش الأمريكى .
أليس قليلاً من التأنى فى تقدير مخاوف شركاءنا فى الثورة هو أمر لازم ويتفق مع المنطق ؟!
الثورة عربة وقودها هو مطالب الشركاء فيها ؛ ومن ثم فوجهتها يتم تحديدها من خلال التوافق بين هؤلاء الشركاء . وأى محاولة لإيقاف العربة نتيجة عدم القدرة على انجاز هذا التوافق ؛ هو أمر سيعطى الفرصة لقطاع الطرق الذين ينتظرون على جانب الطريق لكى يقفزوا على تلك العربة ويسرقونها ويغيرون وجهتها إلى المجهول .
قليل من النضج الثورى هو أمر مفيد جداً لمستقبل مصر ؛ التى قد قرأ تيار الإسلام السياسى فاتحتها ؛ وهو على استعداد للتنازل عن نصفها من أجل حكم النصف الآخر .
النضج الثورى هو الباب الطبيعى للانتقال من ( طاحونة الثورة ) إلى ( مخبز السياسة ) ؛ وإلا فإن التأخر فى الوصول إلى مرحلة النضج الثورى يمكن تسميته فى الأدبيات الثورية بـ ( التخلف الثورى ) أو ( الاستحمار الثورى ) أو ( العته الثورى ) والعياذ بالله .
ويا رفاق الثورة .. المبادئ الثورية المثالية ينبغى توفيقها مع الحقائق على الأرض حتى تتحول إلى سياسة .
ولذلك .. اسمحوا لى ..
.. لن أتغنى بشعارات مثالية دون توفيقها مع الحقائق على الأرض ؛ وأنا أرى إرهاباً ممولاً مدعوماً من دول خارجية وأجهزة مخابراتية يكشف عن وجهه القبيح ويتهدد وطنى وشعبى .
.. ولن أتغنى بمبادئ مثالية دون توفيقها مع الحقائق على الأرض ؛ لكى يستغلها الأفاقون كأقنعة يضحكوا بها على المغيبين لكى يلقوا بهم فى موارد التهلكة ؛ ثم يخلعوها بعد ذلك ليكشفوا عن وجوههم القبيحة الشائهة .
.. لن أعطى الفرصة لتنظيم إرهابى تنضح كل أفكاره بالعنصرية وثقافة التعصب والكراهية ؛ وهذه الأفكار مذكورة علناً فى كتاب سيد قطب : معالم فى الطريق ؛ لأن إعطاء هذه الفرصة قد يكلف بلدى وشعبى والمنطقة والعالم ملايين من القتلى والمشوهين .
.. درء الضرر له الأولوية على جلب المصلحة ؛ ودرء ضرر الإخوان وأنصارهم من التكفيريين له الأولوية على سرعة التطور الديمقراطى فى مصر .
.. وإذا خيرت بين دمار مصر وتفككها ودخول أهلها فى حرب أهلية ؛ وبين استمرار الفساد والفشل المالى والادارى وصورية الديمقراطية ؛ فسأختار بكل بساطة وبدون فذلكة ثورية أو همبكة ليبرالية أو تفكير مجعلص ؛ سأختار الأمر الثانى ؛ اتباعاً لقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
.. أقول هذا وأنا أعلم بإننى سأدفع ثمن قناعاتى من صداقاتى ؛ فكل يوم فى زمن الفتنة ؛ أفقد صديقاً إما على مذبح السذاجة الثورية ؛ أو فى ميادين الديمقراطية الهزلية ؛ أو على مسرح عرائس المسخرة الإخوانية .
فأفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله ........
دكتور / محمد محفوظ
dr.mmahfouz64@gmail.com

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق