محاكمات الثورة غير الثورية
علانية المحاكمات ما بين العقول المتحجرة ومستحدثات التكنولجيا
تاريخ النشر : 17 إبريل 2011
بقلم دكتور / محمد محفوظ
( ..
الديمقراطية تتطلب الجماهير العليمة .. )
[ توماس
جيفرسون وجيمس ماديسون - من الآباء المؤسسين للدستور الأمريكى ]
استفزنى أشد الاستفزاز المشهد الذي بدت
عليه المنطقة المحيطة بمحكمة إسكندرية الابتدائية الكائنة على الكورنيش بمنطقة
المنشية ؛ وذلك يوم السبت الموافق 16 إبريل 2011م ؛ أثناء جلسة محاكمة مدير أمن إسكندرية
السابق اللواء محمد إبراهيم ؛ وكل من مدير الإدارة العامة للأمن المركزى السابق بالإسكندرية
؛ وعدد من الضباط بمديرية أمن الإسكندرية ؛ بتهمة قتل المتظاهرين أثناء أحداث
الثورة يوم 28 يناير 2011م .
فقد قامت القوات المسلحة بإغلاق طريق
الكورنيش المؤدى إلى المحكمة بدءاً من منطقة محطة الرمل . كما قامت بتطويق المنطقة
المحيطة بالمحكمة بعدد كبير من الدبابات والمدرعات والأسلاك الشائكة ؛ بحيث أصبحت
منطقة المحكمة محاطة من أضلاعها الأربعة - بعمق 100 متر من كل جانب -
بالقوات والآليات العسكرية .
لكن الأكثر استفزازاً من كل ذلك ؛ هو
منع المواطنين والمحامين من دخول المحكمة لمتابعة المحاكمة ؛ باستثناء محامين
الدفاع عن المتهمين والموظفين العاملين بالمحكمة .
وبالطبع ؛ يمكن للقارئ أن يتصور نوع
الجدل العقيم الذي دار بين كل من المواطنين الراغبين في الدخول لمبنى المحكمة ؛ وضباط
القوات المسلحة المكلفين بفرض هذا الطوق الأمنى . كما يمكن للقارئ أن يتصور كم الإحساس
بالغضب الناتج عن تحويل المحكمة إلى ثكنة عسكرية ؛ بما يؤدى إلى تعطيل مصالح الناس
؛ ويؤدى إلى منع المواطنين من معرفة ما يدور داخل جلسة المُحاكمة ؛ التى ينتظرونها
للقصاص من الذين سفكوا دماء الشهداء ؛ وتسببوا في عاهات مستديمة لمئات المتظاهرين
الأبرياء .
وبالطبع أعرف نوع المحاذير الأمنية
التى سيسوقها لى أصحاب العقول العسكرية ؛ حول خطورة عدم تأمين منطقة المحكمة
ومبناها ؛ وخطورة السماح لكل من هب ودب بحضور المحاكمة ؛ نظراً لما قد يؤدى إليه
ذلك من انفلات وفوضى ؛ ربما تتطور إلى أعمال عنف وشغب واعتداء على المتهمين ؛ وتشويش
على هيئة المحكمة بما يمنعها من توفير شروط المحاكمة العادلة .
كما إننى أعرف أن المادة رقم ( 52 ) من
الإعلان الدستورى الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة كبديل عن الدستور السابق
تنص على الآتى : ( جلسات المحاكم علنية إلا
إذا قررت المحكمة جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب , وفى جميع الأحوال
يكون النطق بالحكم فى جلسة علنية ) .
وبالطبع يمكن لأصحاب العقول المتحجرة عسكرية كانت أم قضائية ؛
التعلق بحجة مراعاة النظام العام ؛ لتبرير قيام القوات المسلحة بمنع المواطنين من حضور
المحاكمة ؛ ولتبرير موافقة رئيس الدائرة التى تنظر القضية على الإجراءات التى
اتخذتها القوات المسلحة لضمان عدالة المحاكمة .
وفى تقديرى ؛ فإن هذه العقلية وتلك الذهنية التى لا ترى أى
غضاضة فى تقييد الحقوق المقررة دستورياً للمواطنين ؛ باعتبار أن ذلك التقييد أمراً
يمكن ممارسته بكل بساطة ؛ دونما أدنى تقدير للآثار الوخيمة التى يمكن أن تترتب على
ذلك ؛ هذه العقلية وتلك الذهنية يمكن وصفها بأنها مفارقة للواقع ؛ وهى ذات العقلية
والذهنية التى أدت إلى الانحدار العام والانهيار التام الذى اشتعلت فى مواجهته
الثورة .
فلا يمكن بأى حال من الأحوال ؛ تجاوز حقوق المواطنين المقررة
دستورياً ؛ والقفز مباشرة إلى الاستثناءات التى قررها الدستور لتقييد تلك الحقوق ؛
إلا بعد دراسة كافة البدائل المتاحة التى قد تحفظ لتلك الحقوق وجودها ولكن بوسائل
أخرى .
وإلا فإن عدم دراسة هذه البدائل ؛ سيمثل نوعاً من الاجتراء على
الحقوق الدستورية للمواطنين وتعطيلها ؛ لصالح استثناءات لا تساويها فى الأهمية .
والعجيب فى الأمر ؛ أن أصحاب العقول المتحجرة يعيشون فى بلد غير
الذى نعيش فيه . ولا يستفيدون من أى مستحدثات تكنولوجية يمكن استخدامها لصيانة الحقوق
الدستورية للمواطنين ؛ مع عدم تعطيل الاستثناءات الواردة لتقييد تلك الحقوق .
فإذا كان يجوز لهيئة المحكمة أن تجعل جلسة المحاكمة غير علنية
مراعاة للحفاظ عل النظام العام ؛ إلا أن تحويل المحكمة والمنطقة المحيطة بها إلى
ثكنة عسكرية ؛ دون مزاوجة ذلك الإجراء العسكرى بأى إجراء تكنولوجى ؛ هو امتهان
لحقوق المواطنين ؛ خصوصاً فى ظل تقدم تكنولوجى اتصالى يمكن من خلاله تحقيق شرط
علانية الجلسات بوسائل تكنولوجية ؛ مع عدم التضحية بالنظام العام ؛ وذلك عبر الإذاعة
التلفزيونية لما يدور داخل المحاكمة على الهواء مباشرة ؛ ومن خلال تركيب شاشة
كبيرة وسماعات فى المنطقة المواجهة للمحكمة لنقل ما يحدث داخل جلسة المحاكمة للمواطنين
المتظاهرين .
وهذا الإجراء التكنولوجى الذى يوفر الاحترام للمبدأ الدستورى
الخاص بعلانية الجلسات ؛ يوفر فى ذات الوقت الضمانة لحماية المبدأ الدستورى الخاص
بعدالة المحاكمة .
ولعل أصحاب العقول المسطحة التى تخلو من أى فهم عميق لعلم
القانون ؛ يعتقدون بأن مبدأ المحاكمة العادلة ينصرف فقط إلى أطراف الدعاوى
القضائية ؛ رغم أن أصول الفقه القانونى تقرر بأن أحد أركان عدالة المحاكمة هو
علانيتها ؛ لأن المحاكم تبدأ أحكامها بعبارة : باسم الشعب ؛ انطلاقاً من المبدأ
الدستور الأصولى الذى يقرر بأن السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات ؛ وبالتالى
فالشعب هو مصدر السلطة القضائية ؛ ولذلك تـُصدِر المحاكم أحكامها باسم الشعب وليس
باسم أى سلطة أخرى .
ومن ثم ؛ كيف يمكن لمحكمة تحكم باسم الشعب ؛ أن تسمح بإهانة
كرامة هذا الشعب ومنعه من متابعة وقائع إحدى محاكمات الثورة لبعض زبانية النظام
السابق ؛ الذين تنكروا للدستور والقانون وأصبحوا مجرد أسلحة فى يد النظام يزهق بها
أرواح من يعارضونه.
المحاكمة العلنية ( مادياً ) من خلال فتح قاعة المحكمة
للمواطنين كافة ؛ أو العلنية ( إلكترونياً ) من خلال البث التلفزيونى لوقائع
المحاكمة على الهواء مباشرة ؛ هى المحاكمة العادلة حقاً ؛ لأنها هى التى تجعل
الشعب يطمئن لعدالتها باعتبارها تتم أمام عينيه ؛ ويسمع ما يدور بداخلها ويرى .
أما المحاكمات التى تتم بين أطرافها فقط ؛ ويتخذ القضاة فيها من
أنفسهم أوصياء لتحديد ما يسمع الشعب وما لا يرى ؛ فإنها محاكمات تطعن سيادة الشعب
فى مقتل ؛ وتختطف حقه فى أن يكون مصدر السلطات .
قد يجادل البعض بأن معظم المحاكم فى الولايات المتحدة الأمريكية
- قلعة الديمقراطية - تمنع دخول كاميرات التلفزيون أو كاميرات التصوير إلى قاعات
المحاكم . وفى تقديرى إن هذا الجدل لا سند له من الصحة ؛ لأن السلطة القضائية فى
الولايات المتحدة مستقلة دستورياً وعملياً نتيجة رسوخ البناء الديمقراطى فى
المجتمع الأمريكى ؛ أما السلطة القضائية فى مصر فإنها - وهذا هو رأى أهل القضاء
أنفسهم - غير مستقلة دستورياً أو عملياً نتيجة سوءات نظام الهامش الديمقراطى الذى
قامت الثورة على أنقاضه .
ولذلك ؛ ومن أجل ترسيخ البنيان الديمقراطى ؛ لا بد من مد رقابة
الشعب المصرى إلى أعمال السلطة القضائية ؛ وخصوصاً فى محاكمات الثورة التى تتعلق
بمصير الشعب وأرواح شهدائه وجرحاه وثرواته المنهوبة .
كما يجب أن ينص الدستور الجديد على قيام الشعب بانتخاب رأس
السلطة القضائية ؛ حتى تستمد تلك السلطة شرعيتها من صاحب السيادة الوحيد ومصدر
السلطات وهو ( الشعب ) .
وبالتالى ؛ فإن مستحدثات التكنولوجيا هى التى تـُغنى عن إجراء
محاكمات فى ميدان التحرير ؛ ربما لا تتوافر لها ضمانات عدالتها لصعوبة إدارتها فى
وجود تجمعات بشرية مليونية . بينما القيام ببث المحاكمات تلفزيونياً لتصل إلى
الملايين من داخل قاعات المحاكم ؛ هو أمر يضمن عدالة المحاكمة لكل أطرافها ,
المتهمين والمجنى عليهم ؛ والمدعى عليهم والمدعين ؛ والشعب صاحب السيادة ومصدر
السلطات .
مصر تتغير ؛ ولكن بعض المتحجرة عقولهم يعتقدون بأن محاكمات
الثورة ستكون عادلة فقط إذا كانت غير ثورية ؛ وفى سبيل ذلك يتم تحويل المحاكم إلى
ثكنات عسكرية ؛ وتحويل الشعب إلى أطرش فى زفة كرتونية .
لذلك ؛ على المتحجرة عقولهم أن يفهموا الآتى :
إن محاكمات الثورة يجب أن تكون ثورية .
وأن ثوريتها لا تتناقض مع عدالتها .
وأن ثوريتها تعنى إلكترونية علانيتها .
وأن ثوريتها هى العنوان الحقيقى لنزاهتها .
الديمقراطية تتطلب الجماهير العليمة ؛ فإذا كنتم تريدون
الديمقراطية ؛ فلا تغلقوا الأبواب أمام الجماهير ؛ إلا بعد أن توفروا البديل
الموازى ؛ ولكم فى التكنولوجيا أسوة حسنة .
******
دكتور
/ محمد محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق