د.
محمد محفوظ : دكتور مرسى .. مستر إخوان
تاريخ النشر : 19 يوليو 2012
( يقضى الإنسان سنواته الأولى فى تعلم النطق ..
وتقضى الأنظمة العربية بقية عمره فى تعليمه الصمت )
[ أحلام مستغانمى ـ من رواية : ذاكرة الجسد ]
( .. أقول للذين يتطاولون أويجرحون الناس، وهم عدد
قليل جداً ؛ وهم من أبناء مصر ؛ ولهم كل الحقوق ؛ أقول لهم لايغرنكم حلم الحليم ، لايغرنكم
حلم الحليم ؛ إننا يمكن بالقانون وبالقانون وحده أن نردع ؛ ولكنني وبكل الحب أفضل
على ذلك وقبل ذلك الحب والألفة والعود الكريم إلى الحق ) . [ مقطع حرفى من خطاب الرئيس
محمد مرسى بالكلية الحربية بتاريخ 17 يوليو 2012م ]
يتقلص أو يتسع مجال الحماية
القانونية للشخصية العامة من جرائم الإهانة والسب والقذف ؛ وفقاً لمدى درجة التطور
الديموقراطى فى أى مجتمع .
ورغم تقلص هذا المجال فى
الدول الديموقراطية ؛ إلا أن أعراف الممارسة الديموقراطية تساهم فى زيادة تقلصه
إلى أضيق نطاق ممكن ؛ انطلاقاً من ثقافة التسامح السائدة فى تلك المجتمعات.
وتعنى ثقافة التسامح ؛ القدرة
على إدارة الاختلاف فى المجتمع ؛ سواء بين السلطات المختلفة ؛ أوبين القوى
السياسية المتنافسة ؛ أوبين الحكام والمحكومين .
وتستمد ثقافة التسامح سندها
المنطقى فى مجال العلاقة بين الحاكم والمحكوم من حقيقة هامة ؛ مفادها : أن
السياسات التى يطبقها الحاكم تمس حياة الملايين من المواطنين ؛ الذين هم بالضرورة
مختلفين بحكم المنشأ والتربية والأخلاق والانتماء السياسى والدينى .. إلخ الفروق
الفردية بين البشر ؛ وبالتالى من الطبيعى أن لا تنال أى سياسة ما القبول العام ؛
بل إن البعض قد ينظر إليها باعتبارها تضر بالكثيرين ؛ مما قد يدفع المعارضين لهذه
السياسات إلى التصدى لانتقاد المسئول عنها بكل حدة وغضب ؛ وبتعبيرات حادة ومتطاولة
؛ وفى بعض الأحيان خارجة عن الأدب واللياقة والاحترام .
ولذلك فقد تكرست عدداً من
التقاليد لدى الحكام والمسئولين بالدول الديموقراطية ؛ مفادها : أن تجاهل النقد
الحاد والجارح وغير المهذب هو جزء من الضريبة التى يدفعها كل من يتصدى للعمل العام
؛ وأن الدخول فى خصومة مع فئة بعينها أو حتى مع فردٍ واحد من الشعب ؛ هو أمر لا
يوضع أبداً على رأس الأولويات . وإذا كان هناك ضرورة قصوى تحتم اللجوء إلى المواجهة
؛ فإن ذلك يتم بأدوات قضائية صرفة ؛ ولا يتورط الحاكم أو المسئول من تلقاء نفسه فى
استدعاء هذه الخصومة لكى تكون جزءاً من خطاب عام يوجهه لجمهور المواطنين .
ولكن القانون المصرى انطلاقاً
من إرث النظم الحاكمة المعادية للديموقراطية ؛ يتشدد فى مجال حماية الشخصيات العامة من الإهانة أو السب
أو القذف أو العيب . حيث يجرم قانون العقوبات إهانة رئيس الجمهورية ؛ ويجرم العيب
فى حق ملوك أو رؤساء الدول الأجنبية أو ممثلى الدول الأجنبية المعتمدين ؛ ويجرم سب
مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو غيرهما من الهيئات النظامية أو الجيش أو المحاكم أو
السلطات أو المصالح العامة ( المواد 179 و 181 و 182 و 184 ) .
وبينما ألغت المادة رقم 41 من
قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996م الحبس الاحتياطى ـ بينما الإدانة بعقوبة الحبس
مازالت قائمة ـ فى الجرائم التى تقع بواسطة الصحف ؛ إلا أنه تم استثناء المادة رقم
179 من قانون العقوبات الخاصة بإهانة رئيس الجمهورية من هذا الإلغاء ؛ بحيث يمكن
أن يخضع كل من يتورط فى تلك الجريمة للحبس الاحتياطى .
وفى تقديرى ؛ فإنه لابد من التسليم بضرورة وجود
قدر مقبول من الاحترام والهيبة لتمكين أى مسئول من ممارسة صلاحيات عمله ؛ إذ أن
جانب من طاعة أى سلطة يكمن فى المهابة القائمة لها فى نفوس المواطنين .
ولكن الاحترام والهيبة لا
يعنيان إسباغ نوع من الجلال أو التقديس على السلطة ؛ بما يؤدى إلى تكريس حالة من
الاستعلاء التى تصيب القائمين عليها فى مواجهة المواطنين . بل ربما يكون العكس هو الأصح ؛ لأن جزء من مهابة السلطة يكمن
فى تسامحها وتواضعها وترفعها عن الصغائر من الأمور ؛ ولأنه عندما تتحكم سياسات أى
مسئول فى حاضر ومستقبل الملايين ؛ فمن الضرورى أن يدرب نفسك على سماع ما لا يرضيه
من بضعة آلاف منهم ؛ وإلا فليعد لمكانه بين النقاد حتى لا يكون من بين المعرضين
للنقد .
أما القانون الذى يتوعد به الرئيس
محمد مرسى المتطاولين عليه ؛ فإنه يجدر به كرئيس جاء إلى الحكم بعد ثورة ؛ أن يعمل
على تنقيته من المواد سيئة السمعة التى تعوق وتقيد وتغتال حرية الفكر والتعبير ؛ وتؤدى
إلى أن تصبح أبواب السجون مفتوحة ومشرعة فى وجه كل صاحب رأى أو وجهة نظر ؛ بما يكرس
حالة من شيوع النفاق فى المجتمع تعيد صناعة الديكتاتور مرة أخرى .
ولقد أتيح لى أثناء إعدادى
لرسالة الماجستير عام 1998م ؛ أن أحصيت عدد 58 قانوناً وقرار وزارى وقرار جمهورى ؛
تعمل على تقييد وتكبيل حرية التعبير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وبالتالى على الرئيس الذى
أقسم اليمين الدستورية بميدان التحرير ؛ أن يبادر من موقع المسئولية بتطهير التشريعات
المصرية من كل النصوص القانونية التى تجعل الكلام أشد خطراً من الرصاص ؛ وتجعل
طريق الكلمة فى مصر مفخخاً بحقول الألغام القابلة للانفجار لأهون الكلمات .
والواقع ؛ أن ملامح الرئيس
مرسى قد تشير إلى قدر من الطيبة والتسامح ؛ ولكن المخالفات والانتهاكات الجسيمة
التى ارتكبها التابعين له بوصفه رئيساً لحزب الحرية والعدالة أثناء الانتخابات
البرلمانية ؛ ثم قراراته الصادمة الصدامية منذ توليه منصب رئاسة الجمهورية ؛ تدل
أن هناك شخصية مناقضة تختفى تحت هذا المظهر المتسامح . شخصية تعطى الأولوية لتركيز
السلطة والقابلية للصراع والصدام من أجلها ولا تهتم بالمسئولية المرتبطة بهذه
السلطة ؛ شخصية تنتصر للعصبية الحزبية على حساب المصلحة الوطنية ؛ شخصية تشعر
بالاضطهاد من أى نقد وتعتقد أن التطاول جزء من مؤامرة ينبغى وأدها فى مهدها
باستخدام أحط القوانين وأسوأها سمعة .
وبالتالى ما هو المستوى الذى
يمكن من خلاله فهم شخصية الرئيس محمد مرسى ؟؟
على المستوى الروائى فإن
العمل الأدبى الرائع للأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون ؛ يوضح كيف تسببت
شخصية مستر هايد فى نهاية مأساوية لدكتور جيكل .
وبنفس المنطق ؛ ولكن على
المستوى السياسى ؛ فقد تلقى شخصية دكتور مرسى نفس المصير لو استمرت فى تلبسها
لشخصية مستر إخوان .
ومن ثم ؛ فإن مصير الرئيس بيد
دكتور مرسى أو بيد مستر إخوان ؛ وليس ـ أبداً ـ بيد المتطاولين عليه ؛ وما هم إلا عدد
قليل جداً بنص كلامه ؛ ولذلك .. عليه إذن أن يختار .. دكتور مرسى .. أو .. مستر
إخوان .
وأخيراً .. وليس آخراً ..
أهدى للرئيس فقرة من أحد أحكام المحكمة الدستورية العليا التى يناصبها العداء كل
من حزبه ( حزب الحرية والعدالة ) وجماعته ( جماعة الإخوان المسلمين ) ؛ عسى يضئ
هذا الحكم بمعانيه المُلهمة جانب من الظلامية الفكرية التى يريد البعض أن يجرنا
إليها ؛ رغم قيامنا بثورة من أجل التنوير .
* فقرة من حكم المحكمة
الدستورية العليا برئاسة دكتور عوض المر ـ القضية رقم 37 لسنة 11 ق . دستورية ـ
جلسة 6/2/1993
( ..
إن الطبيعة البناءة للنقد - التى حرص الدستور على
توكيدها- لايراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التى تعارضها لتحديد ما يكون
منها فى تقديرها موضوعياً ، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى
الحوار العام ، وهو حق يتعين أن يكون مكفولاً لكل مواطن وعلى قدم من المساواة
الكاملة. ..... إن الطبيعية البناءة
للنقد لا تفيد لزوماً رصد كل عبارة احتواها مطبوع ، وتقييمها- منفصلة عن سياقها-
بمقاييس صارمة ، ذلك أن ماقد يراه إنسان صواباً فى جزئية بذاتها ، قد يكون هو
الخطأ بعينه عند آخرين ، ولا شبهة فى أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيراً ما
يلجأون إلى المغالاة ، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس فى المجال الذى لا
يمكن أن تحيا بدونه ، فإن قدراً من التجاوز يتعين التسامح فيه . ولايسوغ بحال أن
يكون الشطط فى بعض الآراء مستوجباً إعاقة تداولها ... ) .
يادكتور مرسى .. ( إذا أُرِيدَ لحرية
التعبير أن تتنفس فى المجال الذى لا يمكن أن تحيا بدونه ، فإن قدراً من التجاوز
يتعين التسامح فيه , ولايسوغ بحال أن يكون الشطط فى بعض الآراء مستوجباً إعاقة
تداولها ) .
ويامستر إخوان .. ( إذا أريد لحرية التعبير أن
تختنق فى الهامش الذى يجب أن تموت فيه ؛ فإن قدراً من التعنت ينبغى الإصرار عليه ؛
ويسوغ فى كل الأحوال أن يكون الشطط فى بعض الآراء مستوجبا التنكيل بأصحابها )
!!!!!
*****
دكتور / محمد
محفوظ
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق