د. محمد محفوظ .. يكتب : الباعة الجائلون .. مواطنون خارج الدائرة ..
وسياسات من داخل الصندوق
تاريخ النشر : 16 يونيو 2014
بالطبع الشارع المصرى أكثر تحضراً
وانصياعاً للقانون فى ظل الحملات الأمنية التى نشهدها هذه الأيام لإزالة إشغالات
الباعة الجائلين .
وبالطبع الباعة الجائلون ليسوا مجرد ( سريحة
) على باب الله ؛ بل نسبة ليست بقليلة منهم مهلباتية على باب الشيطان ؛ يمارسون
الغش التجارى ويروجون السلع المضروبة ومنتجات مصانع بير السلم .
وبالطبع ليس معظمهم يمارس التجارة
فردانى برأس ماله المحدود الخاص ؛ بل أغلبهم مجرد واجهة لاقتصاد موازى يتحكم فيه
مجموعة من أباطرة سوق السلع الرخيصة الصينية المصدر ؛ الفقيرة إلى أى التزام بالمواصفات
العالمية فى مجالات معايير الجودة أو الاشتراطات الصحية .
ولكن بالطبع أيضاً ؛ فإنهم رغم كل ذلك
؛ مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات على سلم المواطنة. ولئن كانوا من المنظور
القانونى لا يلتزمون بواجباتهم ؛ إلا أن السؤال الأجدر بالطرح هو : وهل ينالون
بنفس المنطق القدر المقبول من حقوقهم ؟؟؟!!!
الباعة الجائلون وفقاً للتوصيف
المجتمعى ؛ مواطنون خارج دائرة رعاية الدولة ؛ وخارج دائرة شبكات الضمان الاجتماعى
التى ينبغى أن توفرها أى حكومة لكل أبناءها ؛ لتكفل لهم المعاش المناسب أو إعانة
البطالة عندما يعجزون عن العمل أو الكسب .
وهم وفقاً للتوصيف الإنسانى ؛ مواطنون
فى مأزق ومحنة ؛ انغلق أمامهم باب الرزق المشروع ؛ فاختاروا أن يتحايلوا ليدخلوا
من تحت عقب هذا الباب المغلق المسدود .
وهم وفقاً للتوصيف الاجتماعى ؛ فئة
مجتمعية تمثل امتداداً لمنطق العشوائية فى حياتنا اليومية ؛ تلك العشوائية التى
نمت وترعرعت فى ظل إهمال الدولة أو فسادها .
ولذلك أتفهم ولا أتفهم فى ذات الوقت ؛
منطق الدولة فى التعامل مع الباعة الجائلين .
أتفهم منطق الدولة فى استعادة هيبتها
وهيبة القانون ؛ من خلال تكليف أجهزة الأمن بالقيام بحملات مكبرة بتشكيلات ضخمة من
المعدات القادرة والقوات الجرارة ؛ لإزالة الاشغالات وبسط سيادة القانون فى الشارع
المصرى الذى طال انفلاته فأصبح عنوان للادولة ؛ من خلال إشغال الأرصفة بل وجزء
كبير من أنهُر الطرق بالباعة الجائلين وفاترينات المحلات وقعدات المقاهى .. الخ .
ولكننى بنفس القدر ؛ لا أتفهم منطق
الدولة فى استعادة هيبتها بذات الأساليب القديمة ؛ من داخل الصندوق البالى بأفكاره
المتعطنة وسياساته المتكلسة وخصوصاً فى مواجهة الباعة الجائلين .
الدولة التى تمارس سلطتها بمنطق (
الوصاية ) ؛ هى التى تفرض على الناس الالتزام بواجباتهم ؛ بينما تتملص هى من
الالتزام بمسئولياتها .
بينما الدولة التى تمارس سلطتها بمنطق
( الوكالة ) ؛ هى التى تمارس سلطتها ملتزمة بحدود وضوابط التوكيل الذى منحه الناس
لها ؛ والذى مفاده أن تلزمهم بواجباتهم بالتوازى مع ضمانها المتفانى لحقوقهم .
الدولة التى تدير أمور شعبها بمنطق (
الوكالة ) ؛ هى التى تعلم بأن بعض الظواهر المجتمعية فقط هى التى يمكن مواجهتها بالحلول
قصيرة الأجل ؛ بينما أغلب هذه الظواهر لا يمكن مواجهتها إلا بالحلول متوسطة الأجل
؛ أو الحلول طويلة الأجل .
الحلول قصيرة الأجل ؛ تنبنى فقط على
قوة الآلة الأمنية والتنفيذ الانتقائى لنصوص القانون ؛ وهى حلول تكرس لدراما القط
والفأر المزمنة ( توم وجيرى ) ؛ التى قد تغلب عليها الكوميديا فى شخصياتها
الكرتونية ؛ ولكن تسكنها التراجيديا المأساوية فى شخصياتها الإنسانية البشرية على
أرض الواقع المعاش . فعصا الأمن مهما كانت صلبة ؛ لا يمكن أن تصمد أمام صخرة
الواقع الصلدة القاهرة . ومن تنسد أمامهم أبواب الرزق الحلال أو شبه الحلال ؛ ستجرفهم
الحاجة نحو السحت والحرام . وبالتالى ستنخفض نسبة الإشغالات فى الطريق العام ؛ بينما
سترتفع نسبة الجرائم فى المجتمع ككل !!!!
أما الحلول المتوسطة الأجل ؛ فهى التى
تقوم على نسف صندوقك البالى القديم ؛ واستبداله بالأفكار المبتكرة المتألقة ؛ التى
تتعامل مع الواقع بمنطق : ( الحاجة أم الاختراع ) .
وفى نقاش بينى وبين شقيقى / حسام محفوظ
( المحامى بالنقض ) ؛ قال لى : إذا كانت الدولة لا تريد الباعة الجائلين فوق الأرض
وبالذات فى وسط البلد ؛ وهم لا يريدون أن يذهبوا إلى أسواق متطرفة حتى وإن كانت
فوق الأرض ؛ فلماذا لا نوفر لهم أسواقاً بوسط المدن والمحافظات ( تحت الأرض ) ؟
نعم لماذا لا توفر كل مدينة فى المنطقة التجارية بها ؛ نفقاً واسعاً مجهزاً تحت
الأرض ؛ لكى يشغله الباعة الجائلون بموجب ترخيص . نفق خالى من أى محلات يضع به
الباعة الجائلون فاتريناتهم وبضائعهم ويرتاده المواطنون للشراء .
أليس هذا أوفق
لحفظ أرزاق البسطاء من الناس ؛ وأكرم لهم من البهدلة فى برد الشتاء وحر الصيف ؛ وأصوب
لتوفير منافذ شراء لمحدودى الدخل ؛ وأكثر نفعاً لخزينة الدولة بالرسوم المدفوعة
لاستخراج وتجديد التراخيص ؛ وأفضل لضمان ممارسة الدولة لهيبتها دون بطش أو وصاية ؛
بل بحكمة وانصياع لواجباتها فى عقد الوكالة الممنوح لها من الشعب ؛ والذى مفاده :
طالما وفرت الدولة الموقع والمكان الشرعى للباعة الجائلين ؛ فمن ذا الذى سيتضرر
عندما تمارس الدولة دورها فى الحفاظ على سيادة القانون ؛ ومن ذا الذى سيبكى على
قاطع رصيف أو طريق ؛ بينما يوجد متسع له فى مكان محدد ومشروع .
بل زد على ذلك ؛ فى مجال الأفكار
المبتكرة المتعلقة بالحلول المتوسطة الأجل ؛ التى يمكن أن تساهم فى حل مشكلة
الباعة الجائلين ؛ من خلال الأخذ بنظام : ( أسواق الأيام ) ؛ بما يعنى تحديد يوم
واحد أو أكثر فى الأسبوع لكل منطقة تجارية ؛ يتم السماح فيه للباعة الجائلين
بإشغال الطرق والأرصفة ؛ الأمر الذى يتيح لهم نقل سلعهم من منطقة تجارية لأخرى على
مدار أيام الأسبوع ؛ من سوق الأحد إلى سوق الجمعة إلى سوق الأربعاء .. وهكذا ؛
وبموجب ترخيص .
الحلول المبتكرة لا نهاية لها فى أى
مجتمع رشيد ؛ يلجأ إلى أصحاب العقول اللامعة لحل مشاكله المزمنة ؛ ولا يعتمد على
العاطلين عن الموهبة والخيال أصحاب العقول الممسوحة والبصيرة الخامدة .
أما الحلول طويلة الأجل ؛ فهى الحلول
المرتبطة ببرامج التنمية الشاملة ؛ التى تؤدى إلى دوران عجلة الاقتصاد الصناعى
والزراعى والمعلوماتى والاتصالاتى والثقافى والإعلامى والفنى .. الخ ؛ فيتسع سوق
العمل وتتوفر فرصه ؛ ومن ثم تتقلص فقاعات الأسواق العشوائية والتجارة الجائلة .
بالطبع أتأفف وأتعصب ويركبنى ألف عفريت
أزرق ؛ وأنا أجد الأرصفة محتلة ؛ والطرق شبه مسدودة ؛ والفوضى تدمر النظام ؛
والعشوائية تسد الأفق .
ولكننى ؛ لن أنام على فراشى قرير العين
مرتاح البال ؛ وأنا أعلم بأن أبواباً للرزق ولو شبه الحلال قد انسدت ؛ وعائلات قد
جاعت وتشردت ؛ ومهاوى ومزالق للجريمة والحرام قد تمددت .
لا يمكن أن نتعامل مع المواطنين الذين
شاء لهم حظهم العاثر أن يوجدوا خارج دائرة رعاية الدولة نتيجة فشلها أو فسادها ؛
لا يمكن أن نظل نتعامل معهم فى زمن الثورة بسياسات من داخل الصندوق البائس العقيم .
انسفوا الصندوق القديم أو القوه فى البحر
؛ لتتسع دائرة الرزق الحلال لكافة درجات الهرم الاجتماعى . وحاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا الناس ؛ وإلا فإن حساب الناس ومن قبله حساب الله ؛ عسير .
قال عمر بن الخطاب ؛ لعمرو ابن العاص
عندما عينه والياً على مصر : لو جاءك سارق فماذا تفعل به ؟ فرد عمرو بن العاص، قائلاً
: أقطع يده . فرد عليه عمر بن الخطاب : ولو جاءني فقير من مصر لقطعت يدك .
*****
dr.mmahfouz64@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق