08 أغسطس 2014

الباعة الجائلون .. مواطنون خارج الدائرة .. وسياسات من داخل الصندوق

د. محمد محفوظ .. يكتب : الباعة الجائلون .. مواطنون خارج الدائرة .. وسياسات من داخل الصندوق

تاريخ النشر : 16 يونيو 2014

بالطبع الشارع المصرى أكثر تحضراً وانصياعاً للقانون فى ظل الحملات الأمنية التى نشهدها هذه الأيام لإزالة إشغالات الباعة الجائلين .

وبالطبع الباعة الجائلون ليسوا مجرد ( سريحة ) على باب الله ؛ بل نسبة ليست بقليلة منهم مهلباتية على باب الشيطان ؛ يمارسون الغش التجارى ويروجون السلع المضروبة ومنتجات مصانع بير السلم .

وبالطبع ليس معظمهم يمارس التجارة فردانى برأس ماله المحدود الخاص ؛ بل أغلبهم مجرد واجهة لاقتصاد موازى يتحكم فيه مجموعة من أباطرة سوق السلع الرخيصة الصينية المصدر ؛ الفقيرة إلى أى التزام بالمواصفات العالمية فى مجالات معايير الجودة أو الاشتراطات الصحية .

ولكن بالطبع أيضاً ؛ فإنهم رغم كل ذلك ؛ مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات على سلم المواطنة. ولئن كانوا من المنظور القانونى لا يلتزمون بواجباتهم ؛ إلا أن السؤال الأجدر بالطرح هو : وهل ينالون بنفس المنطق القدر المقبول من حقوقهم ؟؟؟!!!

الباعة الجائلون وفقاً للتوصيف المجتمعى ؛ مواطنون خارج دائرة رعاية الدولة ؛ وخارج دائرة شبكات الضمان الاجتماعى التى ينبغى أن توفرها أى حكومة لكل أبناءها ؛ لتكفل لهم المعاش المناسب أو إعانة البطالة عندما يعجزون عن العمل أو الكسب .

وهم وفقاً للتوصيف الإنسانى ؛ مواطنون فى مأزق ومحنة ؛ انغلق أمامهم باب الرزق المشروع ؛ فاختاروا أن يتحايلوا ليدخلوا من تحت عقب هذا الباب المغلق المسدود .

وهم وفقاً للتوصيف الاجتماعى ؛ فئة مجتمعية تمثل امتداداً لمنطق العشوائية فى حياتنا اليومية ؛ تلك العشوائية التى نمت وترعرعت فى ظل إهمال الدولة أو فسادها .

ولذلك أتفهم ولا أتفهم فى ذات الوقت ؛ منطق الدولة فى التعامل مع الباعة الجائلين .

أتفهم منطق الدولة فى استعادة هيبتها وهيبة القانون ؛ من خلال تكليف أجهزة الأمن بالقيام بحملات مكبرة بتشكيلات ضخمة من المعدات القادرة والقوات الجرارة ؛ لإزالة الاشغالات وبسط سيادة القانون فى الشارع المصرى الذى طال انفلاته فأصبح عنوان للادولة ؛ من خلال إشغال الأرصفة بل وجزء كبير من أنهُر الطرق بالباعة الجائلين وفاترينات المحلات وقعدات المقاهى .. الخ .

ولكننى بنفس القدر ؛ لا أتفهم منطق الدولة فى استعادة هيبتها بذات الأساليب القديمة ؛ من داخل الصندوق البالى بأفكاره المتعطنة وسياساته المتكلسة وخصوصاً فى مواجهة الباعة الجائلين .

الدولة التى تمارس سلطتها بمنطق ( الوصاية ) ؛ هى التى تفرض على الناس الالتزام بواجباتهم ؛ بينما تتملص هى من الالتزام بمسئولياتها .

بينما الدولة التى تمارس سلطتها بمنطق ( الوكالة ) ؛ هى التى تمارس سلطتها ملتزمة بحدود وضوابط التوكيل الذى منحه الناس لها ؛ والذى مفاده أن تلزمهم بواجباتهم بالتوازى مع ضمانها المتفانى لحقوقهم .

الدولة التى تدير أمور شعبها بمنطق ( الوكالة ) ؛ هى التى تعلم بأن بعض الظواهر المجتمعية فقط هى التى يمكن مواجهتها بالحلول قصيرة الأجل ؛ بينما أغلب هذه الظواهر لا يمكن مواجهتها إلا بالحلول متوسطة الأجل ؛ أو الحلول طويلة الأجل .

الحلول قصيرة الأجل ؛ تنبنى فقط على قوة الآلة الأمنية والتنفيذ الانتقائى لنصوص القانون ؛ وهى حلول تكرس لدراما القط والفأر المزمنة ( توم وجيرى ) ؛ التى قد تغلب عليها الكوميديا فى شخصياتها الكرتونية ؛ ولكن تسكنها التراجيديا المأساوية فى شخصياتها الإنسانية البشرية على أرض الواقع المعاش . فعصا الأمن مهما كانت صلبة ؛ لا يمكن أن تصمد أمام صخرة الواقع الصلدة القاهرة . ومن تنسد أمامهم أبواب الرزق الحلال أو شبه الحلال ؛ ستجرفهم الحاجة نحو السحت والحرام . وبالتالى ستنخفض نسبة الإشغالات فى الطريق العام ؛ بينما سترتفع نسبة الجرائم فى المجتمع ككل !!!!

أما الحلول المتوسطة الأجل ؛ فهى التى تقوم على نسف صندوقك البالى القديم ؛ واستبداله بالأفكار المبتكرة المتألقة ؛ التى تتعامل مع الواقع بمنطق : ( الحاجة أم الاختراع ) .

وفى نقاش بينى وبين شقيقى / حسام محفوظ ( المحامى بالنقض ) ؛ قال لى : إذا كانت الدولة لا تريد الباعة الجائلين فوق الأرض وبالذات فى وسط البلد ؛ وهم لا يريدون أن يذهبوا إلى أسواق متطرفة حتى وإن كانت فوق الأرض ؛ فلماذا لا نوفر لهم أسواقاً بوسط المدن والمحافظات ( تحت الأرض ) ؟ نعم لماذا لا توفر كل مدينة فى المنطقة التجارية بها ؛ نفقاً واسعاً مجهزاً تحت الأرض ؛ لكى يشغله الباعة الجائلون بموجب ترخيص . نفق خالى من أى محلات يضع به الباعة الجائلون فاتريناتهم وبضائعهم ويرتاده المواطنون للشراء . 

أليس هذا أوفق لحفظ أرزاق البسطاء من الناس ؛ وأكرم لهم من البهدلة فى برد الشتاء وحر الصيف ؛ وأصوب لتوفير منافذ شراء لمحدودى الدخل ؛ وأكثر نفعاً لخزينة الدولة بالرسوم المدفوعة لاستخراج وتجديد التراخيص ؛ وأفضل لضمان ممارسة الدولة لهيبتها دون بطش أو وصاية ؛ بل بحكمة وانصياع لواجباتها فى عقد الوكالة الممنوح لها من الشعب ؛ والذى مفاده : طالما وفرت الدولة الموقع والمكان الشرعى للباعة الجائلين ؛ فمن ذا الذى سيتضرر عندما تمارس الدولة دورها فى الحفاظ على سيادة القانون ؛ ومن ذا الذى سيبكى على قاطع رصيف أو طريق ؛ بينما يوجد متسع له فى مكان محدد ومشروع .

بل زد على ذلك ؛ فى مجال الأفكار المبتكرة المتعلقة بالحلول المتوسطة الأجل ؛ التى يمكن أن تساهم فى حل مشكلة الباعة الجائلين ؛ من خلال الأخذ بنظام : ( أسواق الأيام ) ؛ بما يعنى تحديد يوم واحد أو أكثر فى الأسبوع لكل منطقة تجارية ؛ يتم السماح فيه للباعة الجائلين بإشغال الطرق والأرصفة ؛ الأمر الذى يتيح لهم نقل سلعهم من منطقة تجارية لأخرى على مدار أيام الأسبوع ؛ من سوق الأحد إلى سوق الجمعة إلى سوق الأربعاء .. وهكذا ؛ وبموجب ترخيص .

الحلول المبتكرة لا نهاية لها فى أى مجتمع رشيد ؛ يلجأ إلى أصحاب العقول اللامعة لحل مشاكله المزمنة ؛ ولا يعتمد على العاطلين عن الموهبة والخيال أصحاب العقول الممسوحة والبصيرة الخامدة .

أما الحلول طويلة الأجل ؛ فهى الحلول المرتبطة ببرامج التنمية الشاملة ؛ التى تؤدى إلى دوران عجلة الاقتصاد الصناعى والزراعى والمعلوماتى والاتصالاتى والثقافى والإعلامى والفنى .. الخ ؛ فيتسع سوق العمل وتتوفر فرصه ؛ ومن ثم تتقلص فقاعات الأسواق العشوائية والتجارة الجائلة .

بالطبع أتأفف وأتعصب ويركبنى ألف عفريت أزرق ؛ وأنا أجد الأرصفة محتلة ؛ والطرق شبه مسدودة ؛ والفوضى تدمر النظام ؛ والعشوائية تسد الأفق .

ولكننى ؛ لن أنام على فراشى قرير العين مرتاح البال ؛ وأنا أعلم بأن أبواباً للرزق ولو شبه الحلال قد انسدت ؛ وعائلات قد جاعت وتشردت ؛ ومهاوى ومزالق للجريمة والحرام قد تمددت .

لا يمكن أن نتعامل مع المواطنين الذين شاء لهم حظهم العاثر أن يوجدوا خارج دائرة رعاية الدولة نتيجة فشلها أو فسادها ؛ لا يمكن أن نظل نتعامل معهم فى زمن الثورة بسياسات من داخل الصندوق البائس العقيم .

انسفوا الصندوق القديم أو القوه فى البحر ؛ لتتسع دائرة الرزق الحلال لكافة درجات الهرم الاجتماعى . وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الناس ؛ وإلا فإن حساب الناس ومن قبله حساب الله ؛ عسير .

قال عمر بن الخطاب ؛ لعمرو ابن العاص عندما عينه والياً على مصر : لو جاءك سارق فماذا تفعل به ؟ فرد عمرو بن العاص، قائلاً : أقطع يده . فرد عليه عمر بن الخطاب : ولو جاءني فقير من مصر لقطعت يدك .

*****

dr.mmahfouz64@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق